|
|
الوحدة العربية..و أسئلة القرن الجديد 1 بقلم : دكتور صفوت حاتم 1 - عندما نجح " جمال عبد الناصر " في تحقيق أول وحدة عربية بين إقليمين عربيين هما مصر وسوريا عام 1958 كان يعلم أن المعركة مع أعداء الوحدة العربية في الداخل والخارج قد بدأت . فمع هذه الوحدة بدا الحلم الذي طال إنتظاره وكأنه قد أصبح قابلا للتحقيق في النهاية . فقد بدأت الأنظمة المعارضة للمشروع النهضوي العربي في الإنهيار , فسقط الحكم الشمعوني في لبنان وسقطت المملكة الهاشمية في العراق وبدا أن هناك إتجاها قويا داخل " الضباط الأحرار " العراقيين الذين قاموا بالثورة يضغط بإتجاه الإلتحاق السريع بدولة الوحدة الناشئة والتي كان من نتائجها المباشرة نزول القوات الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأردن بعد أن إجتاحت عمان وبيروت مظاهرات عارمة يلهبها حلم الوحدة الذي فجره عبد الناصر . وقد قدرت وكالات الأنباء آنذاك " رويتر " و " الأسشياتوبرس " أن عدد اللبنانيين الذين قصدوا بيروت بإتجاه دمشق التي كان يزورها الرئيس عبد الناصر قد وصل إلى نصف مليون , أي أن نصف لبنان قد شارك واقعيا في مواكب الرحلة إلى دمشق خلال فترة لاتزيد على أسبوعين . من ناحية أخرى تأججت الثورة في الجزائر وبدت الأمور – آنذاك - وكأننا نسير نحو النصر النهائي للمشروع العربي الذي بدأت ملامحه قريبة تداعب الخيال الشعبي . أن الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة كشف بشكل فجائي وصاعق عن جوهر المشروع النهضوي العربي , أي الوحدة العربية , وكشف في ذات الوقت عن أعداء هذا المشروع , الخارجيين والمحليين . ( إستطاع محمد حسنين هيكل ان يكشف بالوثائق حالة الهوس والجنون التي إنتابت هذه القوى بعد إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958 في كتابه الممتاز " سنوات الغليان ) . 2 - لقد أدركت القوى المعادية للأمة العربية - من ناحيتها - المعنى التاريخي العميق للوحدة العربية وإمكانياتها على توازنات القوى العالمية ومستقبلها . فصراعات القوى الكبرى كان - ولا زال - يدور حول هذه المنطقة بالذات . ولقد أكسب ظهور النفط فيها لهذا الصراع بعده المستقبلي . فالنفط سيظل وحتى إشعار آخر هو العامل القادر على التحكم في مستقبل القوى العظمى وتطورها التكنولوجي والحضاري . لذلك لم يكن غريبا أن يعتبر بعض المفكرين العرب أن أكبر إنتكاسة لحقت بالمشروع النهضوي العربي المعاصر هو إنفصال الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ) عن الإقليم الجنوبي ( مصر ) . ولم تكن الهزائم العسكرية أمام العدو الصهيوني سوى " تجليات " لهزيمة المشروع الوحدوي بالإنفصال عام 1961. والمعروفالآن أن بعض دوائر الحكم في مصر كانت قد أخذت في تحميل " عبد الناصر " شخصيا مسئولية " المغامرة الوحدوية " وتلقي عليه باللوم . ولكن الشيئ الذي لم يكن محل تحليل معمق حتى هذه اللحظة هو رد فعل " عبد الناصر " نفسه على ضربة الإنفصال . يذكر " محمد حسنين هيكل " - مثلا - أن الرئيس " عبد الناصر " وصف شعوره - آنذاك - كوضع قبطان وجد سفينته وقد إنشطرت الى نصفين وهي في وسط البحر , وأنه قضى أياما طويلة يراجع نفسه , ويستذكر تفاصيل تجربة الوحدة وآمالها ومشاكلها . كان شعوره الداخلي أن التجربة جاءت قبل الأوان و ولم يكن لها أساس موضوعي صلب لتحقيقها في هذا الوقت بالذات و ومع ذلك فقد حدث أنها قامت وكان الحرص عليها واجبا . وكان يراوده إحساس بأن الإحتفاظ بالوحدة مهما كانت الظروف كان يمكن أن يعرض سوريا لضرورات أمن لم يكن على إستعداد لها وإلا وقع الضرر بهدف الوحدة نفسه . ( سنوات الغليان , ص 591 ). ما الجديد في مسألة الوحدة العربية ؟ 3 - ومنذ ذلك التاريخ , كتبت آلاف الكتب والمقالات وعقدت مئات الندوات والمؤتمرات لدراسة موضوع الوحدة العربية , تبحث في المعوقات والعقبات , وتقترح الحلول والسياسات , وتتصور الأساليب والطرق . ولكن بالرغم من كل هذه الجهود فإننا لم نتقدم خطوات كثيرة بإتجاه الوحدة . على العكس تدهور الوضع العربي كثيرا منذ هذا الإنفصال المشئوم وبعدنا عن كل صور التضامن العربي إلى أشكال مروعة من الصراعات الإقليمية والطائفية والقبلية التي كانت حرب الخليج الثانية وما أستخدم فيها من عنف " مجاني " هو أحد مظاهرها الساخرة . مالذي يمكن أن " تكتشفه " - إذا - دراسة جديدة عن الوحدة العربية ؟ ومالذي يمكن أن تضيفه دراسة أخرى الى آلاف الدراسات والكتب المتخصصة التي كتبت عن موضوع وجوانبها المختلفة : فهناك آلاف الدرسات عن دور الإقتصاد والتكامل الإقتصادي أوالعامل الثقافي أوالعامل الحضاري أو دور الأبنية السياسية القطرية أو تأثير اللغة العربية ومخاطر اللهجات والعاميات الدارجة أومشاكل الصراع الإقليمي.. الى آخره ؟ مهمة صعبة ومستحيلة . 4 - لذلك لا يبدو منطقيا أن نتكلم عن الوحدة العربية الآن بنفس الخطاب الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات. فقد كانت الأوضاع السياسية والفكرية السائدة - آنذاك - تشهد حالى صعود لنظام إقليمي عربي قوامه الفكري الإيمان بالوحدة العربية وقوامه السياسي مواجهة الإستعمار ورفض الأحلاف , وقوامه الإجتماعي التنمية المستقلة والعدالة الإجتماعية , وقوامه الطبقي الفئات الكادحة والمسحوقة من الجماهير العربية وقوامه التحرري كان تحرير فلسطين من القبضة الصهيونية . ورغم أي تراجعات أو تذبذبات في هذا المشروع العربي , فلإننا لا يمكن أن ننكر أن السعي لتحقيق هذه الأهداف كان مشروع المستقبل للعرب خلال الخمسينات والستينات . لكن تبدل الحال بشكل جذري بعد وفاة عبد الناصر وبشكل يصعب تصديقه . فموجة العداء للغرب أفسحت المجال لسياسات وأقوال ترى في الغرب " المخلص " للعرب من كل مشاكلهم وأولها مشكلة الصراع العربي الصهيوني التي حكمت المنطقة وتوجهاتها في الحقبة الناصرية على نحو حاد , وهكذا أصبح للغرب 99 في المائة من أوراق حل المشكلة كما عبر عن ذلك الرئيس السادات الذي قاد هذا التحول الرهيب في حياة الأمة العربية . وبعد أن كانت سياسة الموالاة للغرب تمارس سرا من بعض الأنظمة العربية , تحول الأمر الى سياسات تؤيد الغرب علنا , وإنتشرت مع التعاظم المفاجئ والفج في الثروة النفطية , موجة من المتاجرات والمضاربات المالية , وكشف العالم العربي مرة أخرى عن وجهه المحافظ في السياسة والفكر والدين والثقافة. 5 - إن المحافظة السياسية والفكرية التي عرفتها مصر بعد غياب عبد الناصر ستتخطى حدود مصر لينزلق فيها العالم العربي كله . حتى الأقطار التي كانت ترفع شعارات وواجهات " يساروية " في العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ( قبل الوحدة مع الشمال ) والمقاومة الفلسطينية , ستتحول عن هذه " الراديكالية " لتصبح سياسة مغازلة الغرب نهجا كاملا ومسيطرا في السياسة العربية الرسمية . ثم لن تلبث أن تلتحق بهذه السياسة قطاعات من النخبة المثقفة التي رأت أن عجلات الزمن تدور في الإتجاه المعاكس , خصوصا بعد أن إنهار المعسكر الإشتراكي إنهيارا مدويا صحبه وماتبعه من إحساس عارم بالخزي من هشاشة البناء الذي شيدت عليه أول تجارب البناء الإشتراكي في التاريخ والسهولة العجيبة التي أنهار بها . أسئلة القرن الجديد 6 - يدخل العرب - إذا - القرن الجديد في ظل أوضاع جديدة ومخالفة عما كان سائدا - ومتوقعا - خلال بداية الخمسينات والستينات . هذا القرن الجديد يطرح على العرب إسئلة جديد حول المستقبل من نوع. وهي أسئلة تهم النخبة العربية المهمومة بالمستقبل العربي كوحدة واحدة وليس كوحدات متفرقة في أقطار متعددة ومتنافرة في مصالحها . وهي أسئلة موجهة للنخب العربية المؤمنة بمسألة الوحدة العربية , دون سواها . فلسنا معنيين - في هذه الدراسة - بإقامة ألف دليل ودليل على ضرورة الوحدة العربية لغير المؤمنين بها مهما كانت عقلانية أسبابهم النظرية أو صلابة مواقفهم السياسية !! السؤال الأول : وحدة عربية في ظل هيمنة أمريكية ؟ 7 - لقد دأب الفكر السياسي التقليدي على الكلام عما سمي " حقبة التوازن الدولي " خلال حقبة الحرب الباردة . ولكن التحليل السياسي الجاد يفرض على الباحث السياسي كثير من الحرص والحذر في استعمال الألفاظ . فحقيقة الأمر أنه لم يتواجد قط هذا النوع من " التوازن " بين القوتين العظمتين خلال حقبة الحرب الباردة . لقد كشفت أزمة خليج الخنازير عام 1962 ( بسبب نشر الصواريخ الروسية سرا في كوبا ) وما تبعها من إنكسار للموقف السوفييتي أمام الضغوط الأمريكية عن حدود التوازن الدولي الذي تمشي علي مساحته الضيقة حركات التحرر الوطني . ربما كان أول من عبر عن " خيبة الأمل " في هذا التوازن هم ضحاياه الحقيقيون . 8 - لقد كان " تشي جيفارا " بصراحته الثورية هو أول من عبر عن " خيبة أمله " في التوازن بين القوتين العظمتين . ففي خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في يناير / كانون الأول 1964 ألمح أنه قد بدأ يفقد ثقته بالحلول السلمية بما فيها المواثيق والإتفاقات التجارية والمحادثات والعون الأجنبي . فهذه لن تحل الصراع بين الغني والفقير . لقد جعل " جيفارا " من نفسه لسان حال شعوب العالم الثالث عندما أعلن في هذا الخطاب : " … ان التعايش السلمي بين الأمم لا يشمل التعايش بين المستغلين ( بكسر الغين ) والمستغلين ( بفتح الغين ) بين المضطهدين والمضطهدين " . كانت هذه العبارة هجوما صريحا على المحاولة الروسية الجديدة لتحقيق " تعايش سلمي " مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن جعل " كنيدي " " خروتشوف " يتنازل عن موقفه ويسحب الصواريخ من كوبا . ولقد طور " جيفارا " فكرته عن " التوازن الدولي " وحدوده الضيقة بصورة أكثر قوة في مؤتمر التضامن الأفرو – اسيوي الذي عقد في الجزائر في شباط / فبراير عام 1965 والذي هاجم فيه السياسة الروسية بصورة مباشرة , مسببا الإرتباك للحكومة الكوبية والحنق للروس الذين شعروا بأنهم سبق لهم أن قدموا الكثير لكوبا وأنه لا مبرر أن توجه لهم الإهانات . 9 - ولكن " جيفارا " الذي كان محكوما " بالمنطق الثوري " لم يكن مستعدا للتضحية بهذا " المنطق " لمجاملة الروس. فحتى الروس كان عليهم ان يعلموا انه لا توجد منه في تقديم العون للشعوب المتحررة . وأعلن " تشي جيفارا " ان من واجب البلدان الإشتراكية أن تصفي علاقاتها الضمنية مع الأمم الإستغلالية في الغرب " . فالبنسبة " لتشي " لم يكن هناك من تحديد للإشتراكية سوى إزالة استغلال الإنسان للإنسان . فليس بوسع أي بلد أن يشيد الإشتراكية بدون أن يساعد جميع البلدان على بناء الإشتراكية ومهاجمة الإمبريالية " وأعلن " جيفارا " : : " ليس هناك من حدود لهذا " الصراع حتى الموت " ولا نستطيع أن نبقى لا مبالين في وجه ما يحدث في أي جزء من العالم . ان انتصار أي بلد ضد الإمبريالية هو انتصار لنا , تماما كما أن هزيمة أي بلد ضد الإمبريالية هو هزيمة لنا . ان ممارسة التضامن العالمي ليست من واجب البلدان التي تناضل من أجل تحقيق مستقبل أفضل فحسب بل انها ضرورة حتمية أيضا " . (جيفارا , آندرو سنكلير , ترجمة ماهر كيالي , المؤسسة العربية للدراسات والنشر) . 10 - ان صورة " عالم ثالث " منفصل في المصالح عن الكتلتين الرأسمالية الشيوعية كان قد اتضح تماما في ذهن زعماء العالم الثوريين الذي لعب " جيفارا " دورالمتحدث الرسمي باسمهم وباسم شعوب العالم الثالث آنذاك . لقد تنبأ " جيفارا " بالكارثة " أو " الوحلة " التي ستغرق فيها شعوب العالم الثالث في الربع الأخير للقرن العشرين . ففي كلمته في مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة في مارس / آذار عام 1964 حين طالب " بألا يدب التنافس والتنازع بين الأمم الصغيرة في سبيل الحصول على القروض من الأمم الغنية , بل عليها أن تتمسك بالتضامن فيما بينها … إذا كانت مجموعة الدول المتخلفة تتنافس فيما بينها بلا جدوى من أجل فتات طاولة الجبابرة , متيحة بذلك الفرصة لشق صفوفها المتفوقة عدديا … فان العالم سيبقى كما هو " . ان ما كان يطالب به " جيفارا " هو خلق توازن يفرضه تكتل شعوب العالم الثالث ضد الإستغلال . ولكن الدعم السوفييتي بقي دوما دون المستوى الكافي لمواجهة الهجمة الإمبريالية التي بدأت في منتصف الستينات . لقد أدرك " تشي جيفارا " طبيعة الإسئلة الصعبة . أما الإجابات الأصعب فكانت من نصيب " عبد الناصر " . فإذا كان " جيفارا " يمثل الثورة في رومانسيتها , فإن عبد الناصر كان يمثل الثورة في واقعيتها !! لقد راح " عبد الناصر " يعمل في إتجاهات متعددة لتحقيق ما كان يحلم به ثوريون عديدون " كجيفارا " . ولم تكن الأمور سهلة بالمرة . 11 - ولكن الحرب الباردة والتنافس والصراع بين أمريكا والإتحاد السوفييتي أتاحت كثيرا من حرية الحركة و " المناورة " لعبد الناصر لحركات التحرر الوطني في الخمسينات والستينات من خلال الدعم الذي قدمه الإتحاد السوفييتي لها لمواجهة الضغوط التي كان يفرضها المعسكر الإمبريالي بقيادة أمريكا . لا يمكن أن ننكر - في التحليل الأخير - أن " توازن القوى النسبي " الذي ميز النظام الدولي خلال حقبتي الخمسينات والستينات كان أحد العوامل التي ساعدت على نجاح المشروع الناصري ( المشروع الوحدوي الرئيسي في الوطن العربي ) وأمدته بحرية مناورة واسعة ( كسر احتكار السلاح .. معركة السد العالي .. معركة تأميم قناة السويس .. العدوان الثلاثي .. معركة التصنيع الثقيل .. الصمود عسكريا بعد هزيمة يونيو/ حزيران1967 وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر1973 . بلغة أخرى .. نسأل : هل يمكن تصور كل هذه المعارك بدون التوازن الدولي " النسبي " الذي كان يخلقه وجود الاتحاد السوفييتي والذي كان يستفيد منه الرئيس عبد الناصر في توسيع هامش مناوراته السياسية دوليا وعربيا ؟ 12 - وعلى الرغم من أن الرئيس عبد الناصر كان قد استفاد - كثيرا - من التوازن الدولي وحقق بفضله نجاحات سياسية أكيدة , لكن هذا لم يمنع أن يرجع البعض السبب الرئيسي في انكسار المشروع الناصري إلى دور العوامل الخارجية أو بالتحديد إلى دور أعداء الأمة العربية ( الصهيونية والإمبريالية ) , وهي القوى التي حشدت كل طاقاتها وبشكل متفوق لكسر المشروع العربي الناصري على الرغم من وجود الاتحاد السوفييتي وما كان يخلقه من توازن سياسي وعسكري واقتصادي . يميل لهذا الرأي , مثلا , المفكر المصري " أنور عبد الملك " الذي يرى أن إدراك ديالكتيك الواقع العربي - المصري يجب فهمه في ضوء حقائق " الجيوبولتيك " أي عامل الجغرافية السياسية الذي يشكل الأساس الذي يمكن على أساسه فهم وإدراك دلالة المنطقة الحضارية العربية الإسلامية وما تشكله هذه المنطقة في ديالكتيك العالم المعاصر وفي تركيب ميزان القوى القائم ومنذ فترة ليست بالقصيرة في عصرنا الحديث. 13 - ولاشك أن حجم الوثائق التي كشف عنها في السنوات الأخيرة توضح بشكل حاسم حجم الهجمة التي تعرضت لها حركة التحرر العربي تحت قيادة الناصرية في الخمسينات والستينات والتي عبرت عن نفسها في مؤامرات محلية وعالمية وفي سياسات للأحلاف العسكرية والمواجهات المسلحة ( عدوان 1956 , عدوان 1967 , حرب اليمن , حرب الجزائر .. الى آخره ) . من ناحية ثانية ثبت بالدليل العملي خلال حقبة التسعينات ( أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ) ان المنطقة العربية هي أول منطقة " جيوسياسية " تأثرت بهذا الاختلال في توازن القوى , والأمثلة على ذلك عديدة . فالرئيس " صدام حسين "- مثلا - ظن - عندما أقتحم الكويت - أنه من الممكن تحقيق مغامرة سياسية وعسكرية ناجحة بدون " اتحاد سوفييتي " يقف وراءه . وبسبب هذا الخطأ الفادح الفادح في تقدير دور التوازنات الدولية , حصدت القيادة العراقية كارثة عسكرية وسياسية واقتصادية بكل المقاييس .. كارثة لا زال يدفع ثمنها الشعب العراقي منذ أكثر من عشر أعوام 14 - نفس الشيئ يمكن أن يقال عن نظام الرئيس " معمر القذافي " . لقد استطاع القذافي مقاومة ضغوط دولية وإقليمية عديدة خلال حقبتي السبعينات والثمانينات وتمكن من تحقيق مغامرات " مأمونة نسبيا " في مناطق مختلفة من العالم تمتد من الفلبين الى أيرلندا الشمالية وصولا إلى تشاد وإريتريا وأثيوبيا في أفريقيا , ولكن مع بدء حقبة التسعينات - أي بعد سقوط الإتحاد السوفييتي ما لبث أن وجد نفسه محاصرا ومعزولا داخل حدوده ومن ثم بدأ عملية " السير الى الخلف " والتخلص تدريجيا من السياسات والأفكار التي كان أول المتحمسين لها والاقتراب تدريجيا من الأنظمة السياسية التي كانت لسنوات طويلة محط هجومه وانتقاداته !! 15 - أما الرئيس " حافظ الأسد " الذي استطاع تحقيق كثير من النجاحات الإقليمية في منطقة المشرق العربي خلال حقبة التحالف مع الإتحاد السوفييتي .. مالبث أن غير هومن لهجة خطابه السياسي لتتلاءم مع المتغيرات الدولية التي حدثت , بحيث أننا يمكن أن نقول أن نظام الرئيس " الأسد " في ظل الاتحاد السوفييتي ليس هو تماما في ظل غياب هذا الأخير وتغير توازنات القوى في المنطقة !! فنظام الرئيس " حافظ الأسد " نجح لفترة طويلة في الحفاظ على مواقعه عبر منهج " الدفاع الثابت " أو ما كان يسميه السوريون " التوازن الإستراتيجي " بعد أن خرج الرئيس السادات بمصر من دائرة " الصراع العربي الإسرائيلي" بعقد معاهدة كامب ديفيد . لقد استفاد الرئيس " الأسد الدعم السياسي والعسكري الضخم من الاتحاد السوفييتي الذي أعتبر " الأسد " الحليف القوي الباقي له في منطقة الشرق الأوسط بعد أن خسر مواقعه في مصر , خصوصا بعد أن إنشغل الحليف الثاني للاتحاد السوفييتي ( العراق ) بحربه مع إيران وما ظهر فيها من دعم غربي غير منكور لنظام الرئيس " صدام حسين " . 16 - لكن الانهيار المدوي " والجارح " للاتحاد السوفيتي سارع بتغيير كل التوازنات في المنطقة وعجل بتغيير " مؤشرات الساعة السورية " باتجاه الغرب الأمريكي خصوصا بعد حرب الخليج الثانية التي وجد الجيش السوري نفسه يقاتل بجانب أمريكا .. الحليف الأول والقوي لخصمه اللدود إسرائيل . لقد كان إحتلال الكويت وما أعقبها من حرب على شواطئ الخليج " لحظة عبثية " من لحظات التاريخ العربي . ولم يقصر الجميع في دفع الأمور و محتواها " العبثي " حتى النهاية , حين دخلوا جميعا – بما فيهم سوريا – مؤتمر مدريد بلا قيد أو شرط اللهم إلا من شعار بدون محتوى – وعبثي أيضا – عن الأرض مقابل السلام الذي ألقمه الرئيس جورج بوش للعرب ثم رحل عن البيت الأبيض!! لم يعد هناك , إذا , اتحاد سوفييتي ولم يعد هناك توازن دولي يمكن اللعب عليه أو المناورة في ظله . 17 - كل هذا ينقلنا للسؤال الأساسي : كيف يمكن للوحدويين العرب تحقيق برنامجهم السياسي في ظل الهيمنة الأمريكية على العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص ؟ على أي قوى دولية يمكن ان يتحالف الوحدويون العرب الجدد لتحقيق نوعا من التوازن يمكنهم من تحقيق الوحدة العربية ؟ وسيرد علينا البعض بأنه من المحال وضع إجابة شافية على سؤال من هذا النوع. . فالإجابة على هذا السؤال تستمد مشروعيتها من تطور الأحداث السياسية العالمية وما ستتمخض عنه في السنين القادمة وهو أمر يصعب التكهن به الآن . البعض ينتظر – بصبر – قيام قطب أوروبي قوي يحدث نوعا من التوازن مع القطب الأمريكي الوحيد , خصوصا أن ما يظهر من تناقضات أوروبية أمريكية في بعض السياسات التفصيلية هنا وهناك يشجع هؤلاء على هذا الأمل , أو بالأحرى , على الصبر والإنتظار . وبغض النظر عن إمكانية حدوث هذا " التوزازن " في المستقبل القريب أو عدمه , فأن من ينتظرون هذا ينسون أن قيام هذا " القطب الأوروبي " لن ينفصل عن النظام الرأسمالي العالمي الذي تربطه مصالح مشتركة وإستراتيجيات عامة في كل مناطق العالم المختلفة على الرغم من التناقضات الطبيعية بين أجزاءه . ان التوازن الدولي السابق كان يقوم على أساس الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين " الاشتراكي والرأسمالي " ونتج عنه صراع على مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري .. وبدون شك مناطق النفوذ الأيديولوجي . إذا لم يكن ممكنا تحقيق توازن دولي يستفيد منه العرب لتحقيق مشروعهم , فهل يمكن قلب المسألة رياضيا , أي إعتبار المقدمة نتيجة والنتيجة مقدمة . هل ينبغي " إنتظار " توازن دولي لتحقيق الوحدة العربية . أم أن الوحدة العربية هي الآداة السياسية المتاحة لنا لتحقيق التوازن الدولي والدخول في صراعات تشكيل العالم الجديد بدلا من " التسكع " في طرقات القوى الدولية إنتظارا لما قد يأتي به القدر ؟ ( عبر الكاتب الكبير " احمد بهاء الدين " عن هذا التساؤل مبكرا في مقاله " العالم كله ضد الوحدة العربية ¸شرعية السلطة في العالم العربي , دار الشروق ) . السؤال الثاني : وحدة عربية بدون دور مصر ؟ 18 - يرى كثير من الباحثين العرب - والأجانب - ان الرئيس " عبد الناصر " استطاع خلال فترة حكمه ان يعيد صياغة دور مصرفي النظام العربي وأن يمسك بقيادة هذا النظام باتجاه الوحدة والخروج من التبعية . لم تكن محض مصادفة - إذا - أن يطلق " توفيق الحكيم " دعوته عن ضرورة " حياد مصر " بعد شهور قليلة من زيارة الرئيس السادات لإسرائيل وأن يتبعه قائمة لا بأس منها من المثقفين المصريين المعروفين " كحسين فوزي " و " لويس عوض " . فالنزعات الإنعزالية والإقليمية .. أو " العروبية المبتورة " التي لاترى العروبة إلا في ضوء المصلحة المصرية فقط لا زالت لها تأثيرها وصداها في العقل السياسي المصري . وكان من الطبيعي - أيضا - أن ينشأ في مواجهة هذا السلوك المصري الإقليمي - وضده- رد فعل معاكس خارج مصر يذهب الى حد الدعوة الى نفض اليد من مصر والبحث عن مستقبل عربي بدونها أو على الأقل عدم إنتظارها . وكما نشطت آلة الدعاية " الساداتية " في تغذية العداء للعرب داخل مصر , نشطت في المواجهة آلة الدعاية الأيديولوجية لبعض الأنظمة العربية " الطموحة " في تغذية نزعة العداء للدور المصري . 19 - وكان الإعلان عن الوحدة المغاربية عام 1989 - وقبل حرب الخليج مباشرة - مناسبة " لـتأصيل " هذه الدعاية وتطويرها في أيديولوجية تحاول أن تكون منطقية. ففي هذا العام - 1989 - عادت مصر الى الجامعة العربية , ولكنها وقفت حائرة لاتدري اين تذهب والى اي تجمع ينتمي . وبلغت السخرية قمتها عندما رفض طلب مصر الإنضمام الى التجمع المغاربي ! ومالبث أن سعى النظام المصري لتشكيل تجمع آخر باسم " مجلس التعاون العربي " , يضم مصر والعراق واليمن والأردن . ولكنه كان تجمعا غير متجانس في التكوين وغائم في الأهداف . ( يمكن العزدة لكتاب محمد حسنين هيكل " حرب الخليج , أوهام القوة والنصر , لمعرفة الوقائع التي سبقت نشأة هذه المجالس ودوافعها ) . ومالبث أن أتت حرب الخليج بكل تداعياتها الدرامية لتنهي حقبة الأوهام وينتهي معها عمليا مجلس التعاون العربي .. ويفقد المؤسسون للوحدة المغاربية حماسهم ويصبح تجمعهم حبرا على ورق . 20 - على أية حال كانت هذه التجمعات فرصة ذهبية لتأصيل أيديولوجية كاملة - رأت آنذاك - استحالة عودة مصر لأداء دور القطر " القائد " في المنظومة العربية مرة ثانية , وأن مصر لم تعد مرشحة لأداء دور الإقليم القاعدة في عملية التوحيد العربي في المستقبل القريب والمتوسط وربما في الأمد الطويل نسبيا. وأسباب هؤلاء كانت كثيرة .. لماذا تبدو عودة مصر " مستحيلة " في نظر هؤلاء ؟ أولا : أن هناك تحولات جذرية داخل النظام العربي جعلته يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " بحيث أصبح دور مصر مجرد دور قيادي ضمن أدوار أخرى . ثانيا : ان صعوبات مصر الاقتصادية تحتاج الى وقت طويل لإمكان تجاوزها وتحسين أوضاعها الداخلية بما يسمح لها بالإلتفات لدور أكبر في الساحة العربية . ثالثا : ان دور مصر في حماية الأمن القومي العربي ( وحدها ) كما كان يتصور البعض في فترات زمنية سابقة اصبح أمرا غير وارد بدون القدرات العسكرية والمالية للأقطار العربية الأخرى . رابعا : ان تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف السبعينات والتي تجسدت في زيارة القدس ومعاهدة " كامب ديفيد " والتحالف مع أمريكا والوقوف بجانبها في حرب الخليج ضد العراق .. والعلاقة مع " إسرائيل " , كلها أمور نالت من الدور القيادي التقليدي لمصر . خامسا : أن النظم السياسية لن تقبل بزعامة إحداها خصوصا وهي تتذكر مشاكلها مع " عبد الناصر " وتدخله في شؤونها . ( المداح الإدريسي , هل تفشل الوحدة المغاربية بغياب الإقليم القاعدة والقيادة المشخصنة ؟ مجلة الوحدة , عدد58/ 59 , اغسطس 1989) حقيقة الوضع العربي بدون مصر 21 - تصدر كل القرائن السابقة عن رؤية تؤمن " بإستحالة " عودة مصر الى دورها كأقليم - قاعدة للنضال العربي. ولا نريد الدخول - هنا - في متاهات التحليل في " النوايا " التي تصدر عنها مثل هذه الأفكار . خاصة أن التغيرات التي حدثت منذ وفاة " عبد الناصر " وتولي السادات وما فعله من تغيرات حاسمة في بنية النظام المصري كانت تعزز من هذه الرؤية . ان " الساداتية " , في شق أساسي منها , رؤية إنعزالية لدور مصر.. أي مصر بعيدا عن العرب ومشاكلهم وصراعتهم " ورزالتهم " كما كان يقول السادات . ولكن " الساداتية " التي تواجدت في مصر ما لبثت أن غزت النظام الإقليمي العربي بعد وفاة مؤسسها .وإذا كانت هناك نخب مصرية رحبت بإنعزال مصر عن العرب , فقد كان هناك نخب خارج مصر أيضا - رسمية وغير رسمية - ترحب " بإنعزال مصر " وتدفع إاليه وتشجعه … لصالح ماذا .. لصالح من ؟ أسئلة سنجيب عنها فيما بعد . أن كل الحجج التي عبر عنها مقال " المداح الإدريسي كانت " تشكل - في رأينا - البنية التحتية لتفكير معظم النخب السياسية الحاكمة في العالم العربي حتى هذه اللحظة . يحتاج الأمر - إذا - الى نقاش هادئ وموضوعي . مسألة تعدد القطبية داخل النظام الإقليمي العربي : 22 - ان تغير وضع ميزان القوى الإقليمية داخل النظام العربي , منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات , جعل النظام العربي يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " , بحيث أصبح دور مصر مجرد " دور أساسي " ضمن أدوار أساسية أخرى تلعبها أنظمة أقليمية أخرى . بل أن بعض هذه الأنظمة طمحت في لحظات معينة الى لعب " الدور القيادي " الذي كانت تلعبه مصر سابقا . لقد ساهمت الظروف الأقليمية والدولية التي عاشها النظام الإقليمي العربي في السبعينات على تطور قدرات أنظمة عربية معينة على الفعل السياسي في المحيط العربي والدولي , نتيجة عوامل كثيرة أولها ظهور الكتلة النفطية كقدرة مالية وسياسية مؤثرة في ساحة الصراع الدولي والأقليمي . هذه الكتلة النفطية لم تكن على نفس القدرة من التأثير السياسي أو المالي خلال حقبة صعود الناصرية في الخمسينات والستينات . 23 - من جهة أخرى , ادى الصراع الدولي وحالة الإستقطاب المستمر داخل النظام الإقليمي العربي , وبشكل خاص القضية الفلسطينية , ثم الحرب العراقية - الإيرانية , والحرب الأهلية اللبنانية , الى تطور القدرة السياسية لبعض الأنظمة العربية النفطية وغير النفطية , وتعاظم دورها العسكري والسياسي في مسار بعض الصراعات الإقليمية وإكتسابها أدوار إقليمية متعاظمة لم تكن موجودة - أو لم تكن على نفس الدرجة من التأثير - خلال حقبة صعود الناصرية . ونشير بشكل خاص , هنا , الى التطور في القدرات السياسية والعسكرية للعراق وسوريا وليبيا. ذلك صحيح . ولكن هناك أشياء " مسكوت عنها " في هذه الحقيقة : 24 - منها , أن هذه الحالة من " تعدد القطبية " نتجت , بشكل أو بآخر , عن تخلي مصر عن دورها القيادي داخل النظام الأقليمي العربي , وإستسلام قيادتها السياسية الى الشروط الأمريكية والإسرائيلية التي أرادت من البداية تحجيم الدور المصري وحصاره داخل الحدود المصرية . غياب دور مصر " القائد " في المنظومة العربية , شجع من ناحية ثانية , نوازع الزعامة الأقليمية والشخصية , بين أقطاب النظام الأقليمي العربي . المؤسف أن كل هذه النوازع والأدوار لم تستطع أن تعوض دور مصر في داخل النظام الإقليمي العربي وأن تحقق درجة عليا من " الإنضباط " في النظام الأقليمي العربي خلال فترة " الغياب الإرادي " لمصر . لقد عملت هذه الأدوار المتعاظمة لبعض الأنظمة العربية على تأجيج عوامل الصراع والتنافر الأقليمي داخل المنظومة العربية وأجهزت تماما على عوامل التضامن والتجمع العربي بشكل غير مسبوق . وفجأة أصاب الشلل المنظومة العربية أمام أخطار حقيقة وصار النظام العربي مفتتا ومنقسما أمام اخطار حقيقية نالت منه ومن فعاليته . 25 - أن جبهة " الصمود والتصدي " التي نشأت بعد معاهدة " كامب ديفيد " مالبثت أن إنهارت وتفرق أقطابها في صراعات ومهاترات متبادلة وعجزت عن مواجهة الوضع الناتج عن توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد . ولم تلبث أن انهارت الوحدة السورية - العراقية بعد أسابيع قليلة , على الرغم من الآمال التي عقدت عليها لتحقيق توازن " مشرقي " لمواجهة الإختلال الذي حدث بتوقيع مصر لإتفاقية منفردة مع اسرائيل . ثم إندلعت الحرب العراقية - الإيرانية و وزادت حالة الإستقطاب داخل المنظومة العربية , ففي الوقت الذي إنحازت للعراق دول مجلس التعاون الخليجي للموقف العراقي ومعها مصر " المعزولة " سياسيا , وقفت سوريا وليبيا مؤيدة للنظام الإيراني الجديد . واشتعلت حالة الإستقطاب والتنافر مجددا . 26 - ثم حدثت الكارثة الكبرى , وغير المسبوقة , بغزو اسرائيل للبنان وحصارها للعاصمة اللبنانية لعدة شهور دون أن تتحرك الأقطاب الجديدة الناشئة داخل المنظومة . وبلغت المآساة قمتها عندما وجد رجل الشارع العربي نفسه يشاهد " الخروج " الجارح والمهين للفلسطينيين من لبنان على ظهر سفن تحميها القوات الفرنسية والأمريكية . ومن بعد شهدنا النظام العراقي يلملم نفسه بعد حربها مع إيران وتداعياتها . وأخذ النظام السوري , يحافظ على نفسه بشعار " التوازن الإستراتيجي " على الرغم من تواجده العسكري في لبنان وعاصمتها المحاصرة . أما النظام الليبي فقد كان يمارس - كالعادة - ثوريته اللفظية من بعيد . ثم إكتمل إخفاقه الأيديولوجي عندما كفر بفكرة القومية العربية وتبني الرابطة الإفريقية بديلا عنها , دون أن يفسر على الأقل لماذا فشل " الإتحاد المغاربي " الذي يضمه مع أربعة دول عربية وإفريقية في ذات الوقت ؟!! أما دول الخليج النفطية لا يهمها في المقام الأول والأخير إلا " استقرارها " السياسي , وهي مستعدة دوما للدفع من خزائنها لمن يؤمن لها هذا " الإستقرار " .. من داخل النظام العربي أو من خارجه .. لا يهم !! والفلسطينيون - كالعادة أيضا - يذهبون بإتجاه الريح .. ويدفعون - دوما - من مستقبلهم ثمنا لتفتت النظام الإقليمي العربي . كان الموقف كله حزينا ومهينا .. ومآساويا . وكان من الطبيعي أن نصل الى تداعيات أكثر مآساوية في ظل هذه " الإقطاب " الجديدة الناشئة . وكان الغزو العراقي للكويت .. والذي سبقه بلحظة قصيرة عودة مصر للجامعة العربية . وكأن القدر يخبئ للعرب أكثر مفاجآته هولا !! فلقد ظهر تأثير الدور المصري في النظام الإقليمي العربي .- ولكن لسوء حظ العرب ومصر - ظهر " معكوسا" , أي في غير مصلحة النظام العربي ككل , وفي غير مصلحة مصر بوجه خاص . 27 - لقد سنحت للنظام المصري " فرصة تاريخية " خلال أزمة الخليج الثانية لأستلام زمام المبادرة وقيادة العالم العربي من جديد . ولكن ضيق الأفق الجماعي من ناحية , والضغوط الأمريكية المكثفة من ناحية ثانية , قادت المنظومة العربية بكاملها الى حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من تداعيات مآساوية , لم يكن أقلها مؤتمر " مدريد " وما تمخض عنه من إتفاقيات ومعاهدات هزيلة , جسدت تبعية النظام الإقليمي العربي للهيمنة الإسرائيلية الأمريكية بشكل كامل . وإذا كان تعبير " النحس " هو التعبير الذي استخدمناه في التعبير عن هذه المفارقة المؤلمة التي عاشها العالم العربي في لحظة ما من تاريخه . لكن النحس وسوء الحظ لا يمكن أن يخفيا أبدا الأدوار التي لعبها الجميع على مسرح الأزمة . ولا يعفي أحدا من المسئولية … وأولهم النظام المصري ذاته !!! الخلاصة : أن مقارنة هذا الوضع الجديد , أي " تعدد القطبية " داخل المنظومة العربية بما كان سائدا في الخمسينات والستينات , في ظل قيادة " الناصرية " لن يكون لصالح الوضع الجديد بحال من الأحوال . وبغض النظر عن مشاعر المتعاطفين مع الناصرية أو المعاديين لها في العالم العربي . 28 - لقد استطاعت مصر خلال " الحقبة الناصرية " أن تحقق قدرا كبيرا من الإنسجام , أو بالأحرى , الإتساق داخل النظام العربي في مواجهة الأخطار الخارجية الكبرى , على الرغم من الإستقطاب الأيديولوجي الحاد الذي كان يقسم العالم العربي الى معسكرين أيديولوجيين متعارضيين : معسكر " تقدمي " تقوده مصر , ومعسكر " رجعي " تقليدي محافظ . ورغم هذه " الثنائية القطبية الأيديولوجية " , استطاعت مصر " الناصرية " تحقيق " إجماع" عربي فعال في مواجهة قضايا مصيرية واجهت الأمة العربية : كالحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 , الموقف من مشروعات اسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن وإنبثاق فكرة مؤتمرات القمة العربية , الإجماع العربي على دعم دول المواجهة في مؤتمر الخرطوم بعد نكسة يونيو 1967 ورفع شعار " اللاءات الثلاث " , نجاح عبد الناصر في إيقاف مذابح أيلول الأسود عام 1970 , نجاح مصر في تحقيق إجماع عربي حول دول المواجهة خلال حرب أكتوبر / تشرين 1970 … ثم … ثم قررت مصر " السادات " الإبتعاد عن دورها القيادي .. وتأججت حدة الصراعات الإقليمية وظهرت " الأقطاب " الجديدة ونمت قدراتها السياسية والمالية .. ولكن نمت ايضا قدرتها على أشاعة الفوضى والصراع والتنافر داخل النظام العربي وما جره ذلك من خراب وإنهيار لا يمكن أنكاره بأي حال من الأحوال . حول مستقبل مصر في عملية التوحيد القومي 29 - نعيد تحديد السؤال : : ماذا كان يمكن أن يفعل " الوحدويون الجدد " في هذا الوضع العربي الذي بدأ في الانهيار منذ سياسة " الصدمات الكهربائية " التي أنتهجها الرئيس السادات . وإذا كنا في هذا الدراسة لا نستطيع إعادة ما كتبناه ردا على هذه الحجج التي تمثل عينة نموذجية للعقل السياسي " الإقليمي " الذي ينظر للتاريخ العربي في حدود مصالح أقليمية ضيقة وغير موضوعية . إلا أننا لا نملك إلا التشديد على قضيتين لم يتناولهما ردنا على " المداح الإدريسي " : أولهما : أن النخب الوحدوية خارج مصر قد فهمت الدور المصري في عملية التوحيد القومي على نحو قاصر , فرغم حماسها الزائد في بعض الأحيان لهذا الدور إلا أنها فهمت دور المصر على نحو وحيد الإتجاه من مصر الى خارجها وليس العكس . صحيح أن مصر هي القطر الذي تؤثر أوضاعه السياسية بشكل حاسم على مسار الأحداث في العالم العربي أكثر من أي قطر عربي آخر … فأي نهوض قومي بها يقابله نهوض مماثل في الأوضاع العربية , كما أن أي إنكسار بها يجر معه الأوضاع العربية ويسير بها نحو التدهور . 30 - نحن نتفق هنا مع ما قاله شيخ علماء السياسة الدولية العرب المرحوم " حامد ربيع " , من أن الفكر السياسي العربي لازال غير واع حتى الآن بحقيقة ما يسمى " بالتداخل الوظيفي " في المجتمع العربي . وبينما السياسة الأمريكية قد خصصت بوضوح , ومنذ أن قدر لها أن تخضع ديناميات ومتغيرات الحياة السياسية في الوطن العربي لعديد من الدراسات الميدانية منذ الستينات , منها على سبيل المثال ما قام به أحد مراكز الدراسات الدولية في إيطاليا لحساب مؤسسة " فورد " التي تعمل بتوافق تام مع أجهزة المخابرات الأمريكية … وجعلت هدفها الحقيقي إعاقة التطور والترابط بين " تمصير " العالم العربي , "وتعريب " الوجود المصري ( د: حامد ربيع , تأملات حول مفهوم الوحدة العربية .. نظرة مستقبلية , مجلة الوحدة , عدد تجريبي يوليو 1984 . دراسة مقدمة لندوة " نحو تصور عملي لتحقيق الوحدة العربية " , طرابلس , ليبيا , فبراير 1984 ) . في هذا الإطار الذي قال به " حامد ربيع " , تأتي سياسة " كامب ديفيد " في طبعتها المصرية , وفي طبعتها العربية " مدريد وأوسلو ووادي عربة ومبادرة ولي العهد السعودي الأمير " عبد الله في فبراير 2002 . ان رد الفعل الغوغائي الذي تلى توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد عام 1979 وما نتج عنه من تمزيق للعلاقات الإقتصادية وإيقاف حركة التنقل والترابط الذلتي بين العالم العربي ومصر لم يحقق هدفه في إعادة مصر 31 - ان حالات التفتت والصراع والتشرزم والتبعية الأجنبية التي تميز النظام العربي خارج مصر تسهل على أي قيادة مصرية ضيقة الأفق وإقليمية أن تسحب نفسها من الهموم العربية وتنكمش داخل حدودها . هذا يفسر الى حد كبير كيف نجح الرئيس السادات بسهولة ( وهو المعروف بنوازعه الفرعونية الإقليمية منذ شبابه ) في حرف مصر عن دورها في النظام العربي والذي كان قد نما في عهد الرئيس عبد الناصر بشكل غير مسبوق. فرغم المعارضة التي أظهرها النظام العربي لخطوة السادات بزيارة القدس والإعتراف بإسرائيل ( دون مشاورة الآخرين ) والتي تمخضت عن قطع شبه جماعي للعلاقات مع مصر وقيام ما يسمى " جبهة الصمود والتصدي " والتي ضمت أكبر قطرين في المشرق العربي ( سوريا والعراق ) كما ضمت قطرين لهما وزنهما المؤثر في المغرب العربي ( الجزائر والمغرب ) فضلا عن الفلسطيننين واليمن ( الجنوبي آنذاك ) . ولكن هذه " الجبهة " ما لبثت أن إنهارت في غضون شهور قليلة وإنهار معها مشروع الوحدة الثنائية بين نظامي حزب البعث في سوريا والعراق , وتوافق معها إندلاع الصراع في المغرب العربي حول مشكلة الصحراء . وهكذا ساهمت حالة التشرزم والضعف الإستقطاب الحاد داخل النظام العربي خارج مصر على تمرير المشروع الساداتي بكل سهولة ودون مقاومة تذكر . ( هذه النقطة محل دراسة مفصلة ومستفيضة مقدمة في إطار الإحتفالات بالذكرى الخمسين بثورة يوليو 1952 . الدراسة بعنوان مقدمات ونتائج إنهيار النظام الإقليمي العربي) . 32 - ولم تلبث حرب الخليج الثانية ان كشفت عن عطب هذا " المنطق " حين انهارت - واحدة بعد الأخرى - مشاريع التجمعات الإقليمية التي كانت قد نشأت عشية هذه الحرب رغم الشعارات الكبيرة التي رفعتها آنذاك : ( مجلس التعاون العربي , الوحدة المغاربية .. مجلس التعاون الخليجي ). والواقع أن البعض روج في لحظات معينة لما يمكن أن تلعبه وحدة عراقية - سورية في تعويض دور الأقليم - القاعدة مصر . وبغض النظر عن الأماني والنوايا ة لا نملك إلا أن نقول أن الصراع البعثي ( السوري - العراقي ) منذ منتصف السبعينات لعب دورا تخريبيا داخل دول التكتل " التقدمي " مماثلا للدور الذي لعبه الصراع " السوفياتي - الصيني ) في المعسكر الإشتراكي خلال الخمسينات والستينات . ( تعرضنا لتفاصيل هذا الصراع في دراستنا المقدمة للندوة بعنوان : مقدمات ونتائج إنهيار النظام العربي المعاصر ) . نختصر هذا بالقول أنه كلما كانت مصر قوية كلما كان العرب أقوياء , وكلما تشرزم العرب خارج مصر كلما سهل على القوى الإقليمية في مصر سحبها للداخل والإنكفاء على الذات . عدم إدراك هذه العلاقة ذات الإتجاهين بين مصر والعالم العربي تفسر الى حد كبير حالة " الإنتظار السلبي" الذي عاش عليه – ولا يزال - عدد كبير من الوحدويين والعروبيين في إنتظار أن يأتي " الفرج " من مصر !! وهو موقف يصدر - في رأينا - عن منطلقات مثالية بعيدة عن العلم والموضوعية . وثانيهما : ان هذا القصور الوحدوي ساهم - دون قصد – في ولادة شعور وهمي لدى النخب المصرية بالتفوق و " الإمتياز " لم يكن من السهل عليهم إخفائه في التعامل مع المحيط العربي , فظلوا يتعاملون مع مسألة دور مصر العربي وكأنه ضرورة للأمن القومي المصري القطري الضيق , أو حلا محتملا لأزمات مصر الإقتصادية وما تفرضه من ضرورة مد النظر الى العالم العربي الذي يمتلك الثروة اللازمة لحل مشكلتها الإقتصادية . 33 - ينبغي لنا علينا الإعتراف هنا أن جزء كبير من النخبة السياسية المصرية - وللأسف الوحدوية جزء منها - لازالت تنظر الى العالم العربي حولها نظرة إنتهازية ونفعية دون إيمان حقيقي بقضية الوحدة العربية . وهي تعبر في حالات أخرى عن نزعة " تفوق " وإمتياز وهمية , متغافلة أن العالم العربي الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات والسبعينات أصبح يموج بنخب علمية وثقافية لا تقل من حيث القدرة والتفوق على النخبة المصرية , بل تفوقها في أماكن مختلفة من العالم العربي حيث زودها الإنفتاح على العالم الخارجي بقدرات تتفوق بها على النخبة السياسية والثقافية المصرية . ومالدور الذي تلعبه النخبة المغاربية في الدراسات التراثية والإجتماعية واللغوية , أو الدور الذي تلعبه النخبة الخليجية في مجال الدراسات السياسية ألا تعبير عن أن مراكز الثقل الحضاري قد بدأت في التنوع والإغتناء بما لايسمح بإحتكار أحد المراكز للدور الحضاري إلا بمقدار تعبيره عن الهمموم العربية جميعها وللمستقبل العربي في كليته . وهذا أمر إختصت به الطبيعة الجيوسياسية مصر وليس إمتياز لنخبتها عن غيرهم . وإذا كان التاريخ قد أثبت " مثالية " التيار الأول وفشل منطلقاته , فأنه لن يرحم أيضا دعاة المنطق الثاني . ولكن كيف السبيل الى إعادة مصر الى دورها العربي وكيف السبيل الى تقوية العرب بدون مصر ؟ مصر و " كامب ديفيد " : 34 - يرى كثير من الباحثين - ومنهم " المداح الإدريسي " في مقاله السابق الإشارة إليه - أن " تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف الستينات وبشكل خاص إتفاقيات " كامب ديفيد " قد نال كثيرا من الدور القيادي " التقليدي " لمصر في العالم العربي . ذلك أمر غير منكور وتشهد عليه الوقائع اليومية في العالم العربي . إن هيبة مصر وشعبيتها في العالم العربي تأثرت كثيرا - ان لم تكن قد انهارت بالكامل - بما فعله السادات منذ زيارة القدس وبما فعله النظام المصري في حرب الخليج ومواقفه من الصراع العربي الإسرائيلي خلال إجتياح لبنان أو حصار الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد توقيع إتفاقيات " أوسلو ". وربما أكثر من هذا ومن ذاك , إذا رغبنا التفصيل . ولكن عندما كتب " المداح الإدريسي " لم تكن حرب الخليج قد وقعت بعد , ولم يكن مؤتمر مدريد قد إنعقد ولم يكن أقطاب النظام الإقليمي العربي - وبشكل خاص منظمة التحرير الفلسطينية - قد وافقوا صراحة وضمنيا على الإعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات علنية طبيعية معها . وبالتالي ما كان محرما على مصر صار حلالا للجميع بعد هذا التاريخ . والمهزلة أن مصر- التي كانت أول من إعترف بإسرائيل - بدت في لحظات معينة أول من وقف ضد " هرولة " بعد الأنظمة العربية بإتجاه إسرئيل !! لذلك لم يعد ما يهمنا الآن صورة هذا النظام أو ذاك في مواجهة الآخرين , بقدر ما أصبحت المسألة - في رأينا - ذات علاقة بالمستقبل العربي ومسألة الوحدة العربية في قلبها . كيف… ؟ السؤال الرابع : الإعتراف بإسرائيل والوحدة العربية 35 - لعل البعض لم يجهد نفسه كثيرا في معرفة السبب وراء تصميم اسرائيل على أن تكون مفاوضاتها مع العرب , مفاوضات منفردة , وأن تقيم معاهدات وإتفاقيات منفردة مع كل قطر العربي . فإذا كان هدف لإسرائيل الأساسي هو الحصول على " إعتراف عربي " , فكان من الممكن الوصول الى هذا عبر مؤتمر دولي كمؤتمر مدريد مثلا - يشارك فيه العرب مجتمعين كوحدة واحدة , ويعترفون معا بإسرائيل ( أو يجددون إعترافهم معا وهذا أجدى لها وأكثر تأثيرا ) . ولكن إسرائيل أصرت منذ اللحظة الأولى لمؤتمر مدريد على رفض الوفد العربي الواحد وأصرت على مبدأ المفاوضات المنفردة .. لماذا ؟ لقد إعتقد البعض أن السبب وراء هذا الإصرار الإسرائيلي - وهو محق بعض الشيئ - أنها لا تريد مواجهة العرب كمفاوض واحد .. مفاوض قادر من خلال التنسيق المشترك فرض شروط على اسرائيل وإرغامها على القبول . أي أن رفضها ينبع من دوافع " عملياتية " في التفاوض , إي أنه مجرد براعة وفاعلية أسلوب في التفاوض لا أكثر ولا أقل . وهو أمر صحيح نسبيا كما قلنا . 36 - ولكن ينبغي أن نتذكر أن إسرائيل كانت ترفض دوما مبدأ المفاوضات الجماعية وتصر على مبدأ المفاوضات المنفردة منذ اللحظة الأوى لنشأتها . لقد رفضت إسرائيل أثناء إتفاقيات الهدنة بعد نكبة 1948 مبدأ المفاوضة مع الجيوش العربية كطرف واحد مواجه والإصرار على مبدأ المفاوضة المنفردة . ( يمكن العودة الى هذه النقطة تفصيلا في كتاب " آفي شليم " , الحائط الحديدي , مؤسسة روز اليوسف , ص 44 وما بعدها ) . لماذا ترفض إسرائيل التعامل مع العرب ككتلة وترى في التعامل معهم كأقطار متفرقة ضمانة مستقبلية لها ؟ كما هو معروف أن الوحدة البنائية الأساسية للتعامل الدولي في القانون الدولي هو الدولة . والدولة هي نوع من العلاقة المشتركة بين خاصتين الأرض والشعب الذي تحدد مدار عملهما " نظرية السيادة " . فسيادة الدولة لا تتعدى حدود شعبها أو مجالها الجغرافي غير المتنازع عليه . وعقد المعاهدات - وفضها - هو مظهر من مظاهر السيادة . وكل المعاهدات التي وقعتها أسرئيل مع الدول العربية تجسد مظهر من مظاهر سيادة الدولة الموقعة ولا تنصرف الى ما عداها من دول مهما جاء من حواشي وبهرجات لفظية عن السلام الشامل في لدول المنطقة . 37 - ولكن يبقى وضع - حسبت له اسرائيل حسابه - وهو سيناريو إتحاد دولة عربية من تلك التي وقعت معها معاهدة مع دولة عربية أخرى لتقوم دولة جديدة ذات سيادة على شعب مختلف ومجال جغرافي مختلف .. ماهو موقع الإتفاقيات التي تم توقيعها مع اسرائيل من الدولة السابقة ؟ هل يكفي أن تعلن الدولة الجديدة إلتزامها بالمعاهدات والإلتزامات القانونية للدولتين المتحدتين السابقة على الوحدة بينهما ؟ هل تصبح المعاهدات مع اسرئيل ملزمة للدولة الجديدة حتى لو كان أحد طرفيها غير مشارك في المعاهدات والإعتراف بإسرائيل .. مثلا ؟ وهل قيام دولة عربية جديدة يعني اسقاط المعاهدة القديمة " تلقائيا " من جانب واحد ؟ وهل يعتبر هذا " الإسقاط من جانب واحد " عملا عدائيا يعطي إسرائيل أو الضامنين للمعاهدة حق استخدام القوة لإعادة الأمر لما عليه ؟ لنأخذ على سبيل المثال نصت معاهدة " كامب دافيد " في الفقرة الخامسة من المادة السادسة على ما يلي : " مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة , يقر الطرفان بإنه في حالة وجود تناقض بين إلتزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من إلتزاماتها الأخرى فإن الإلتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هي التي تكون ملزمة ونافذة " . ثم أضافت اسرائيل الى إتفاقية " كامب دافيد " شرطا غريبا يمنع مصر من التحايل " مستقبلا " من توقيع أي إتفاقية أو معاهدة مع أي طرف عربي آخر إذا تعارضت مع الإلتزامات التي أخضعت مصر نفسها لها في " كامب دافيد " . إذ أوردت الفقرة الرابعة من المادة السادسة من المعاهدة ما يلي : " يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أي إلتزام يتعارض مع هذه المعاهدة " . وبغض النظر على إستخدام لفظ " أي إلتزام " و وهو تعبير مفتوح وغير محدد بالتوقيع على إلتزامات أخرى ذات صفة تعاقدية , إذ يكفي هنا النية وليس الفعل التعاقدي ذاته . بغض النظر عن هذه المسألة نسأل : هل نية الوحدة السياسية بين مصر - مثلا - وأي قطر عربي آخر لقيام دولة جديدة ( كما حدث مع قيام الجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا ) يعتبر إلتزاما يتعارض مع معاهدة " كامب ديفيد " - أو غيرها من معاهدات مع اسرائيل - ويوجب على إسرائيل إتخاذ التدابير اللازمة لردع الطرف الآخر أو مطالبته بتنفيذ المعاهدة ؟ ولكن ماذا لو قررت مصر الدولة - مثلا - التحرر من هذه القيود وقررت المضي في عملية الوحدة الإندماجية مع قطر عربي آخر - أو أكثر - لتكوين دولة وحدوية جديدة ؟ 38 - الحقيقة أن اسرائيل وأمريكا لم يستبعدا حدوث حالات من هذا النوع فوضعا نوعا من التدابير الأمنية في المعاهدة وخاصة بطبيعة إنتشار الجيش المصري في سيناء . ولكنهما حرصتا على الحصول على ضمانات تخص مصر تلزمها وحدها - دون أن تكون هناك ضماات تلزم اسرائيل بالمثل - وهو مذكرة التفاهم الأمريكية الإسرائيلية التي أرسلها الرئيس الأمريكي " كارتر " الى كل من رئيس الوزراء المصري " مصطفى خليل " ورئيس الوزراء " مناحم بيجين " قبل يوم واحد من توقيع الإتفاقية أي في 25/3/1979 , وقد جاء فيها : ( أ ) حق الولايات المتحدة الأمريكية في إتخاذ ما تعتبره ملائما من إجراءات في حالة حدوث إنتهاك لمعاهدة السلام أو تهديد بالإنتهاك بما في ذلك الإجراءات الدبلوماسية والإقتصادية والعسكرية . ( ب ) تقد الولايات المتحدة الأمريكية ما ترته لازما من مساندة لما تقوم به اسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الإنتهاكات خاصة إذا ما رئي أن الإنتاك يهدد أمن اسرائيل بما في ذلك على سبيل المثال , تعرض اسرائيل لحصار يمنعها من استخدام الممرات الدولية وإنتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحد من القوات أو شن هجوم مسلح على اسرائيل . وفي هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر بعين الإعتبار وبصورة عاجلة في إتخاذ اجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة في المنطقة وتزويد اسرائيل بالشحنات العاجلة وممارسة حقوقها البحرية لوضع حد للإنتهاك . (ج ) سوف تعمل الولايات المتحدة بتصريح ومصادقة الكونجرس على النظر بعين الإعتبار لطلبات المساعدة والإقتصادية لإسرائيل وتسعس لتلبيتها " . هذا الخطاب الذي وافقت عليه مصر وأصبح جزءا لا يتجزء من معاهدة " كامب دافيد " , يشكل معاهدة تحالف واضحة بين أسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة مصر ؟! وهو يعرض - أولا - التدابير التي سـاخذها أمريكا لحماية اسرائيل من أي إنتهاك مصري : ديبلوماسي .. اقتصادي .. عسكري .. ضد اسيرائيل . ولكن ماذا لو أن الإنتهاك كان من جانب اسرائيل ضد مصر .. هل ستقوم الولايات المتحدة بإتخاذ ذات التدابير ضد اسرائيل لضمان تنفيذ المعاهدة ؟ 39 - علي أية حال يبقى سؤال ذو صلة بموضوعنا عن الوحدة العربية وهو : ماهي حدود الإجراءات " الديبلوماسية " التي نص عليها خطاب الضمان - والتي يمكن أن تعتبرها أمريكا وإسرائيل إنتهاكا لمعاهدة السلام ؟ وهل إندماج الدولة المصرية مع دولة عربية أخرى يعتبر إجراءا ديبلوماسيا يتيح لإسرائيل الإدعاء بإنتهاك معاهدة " كامب ديفيد " .. ويتيح لأمريكا إتخاذ التدابير المنصوص عليها في خطاب الضمان ؟ وذلك مجرد نموذج لما يمكن أن تفعله إسرائيل في حالة الوحدة السياسية بين قطرين أو النية بالتوحيد بينهما !! على أية حال - وكما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في تشريحه القانوني الممتاز لمعاهدة " كامب دافيد " - " لم توجد ولن توجد اتفاقية دولية غير قابلة للإلغاء من طرف واحد و ولكن على من يلغيها حينئذ أن يدفع ثمن هذا الإلغاء في مواجهة الطرف الآخر والمجتمع الدولي …. ( د: عصمت سيف الدولة , هذه المعاهدة , دار الثقافة الجديدة ) . ونضيف نحن من عندنا " نظرية السيادة " التي تقرر للشعب إمكانية استخدام السيادة والإندماج مع شعب آخر لتكوين دولة جديدة ذات سيادة جديدة على الأرض الموحدة والشعب الموحد في ظل دولة جديدة ذات سيادة . 40 - وقد يعتبر البعض هذا النقاش نوعا من " الفانتازيا " مستحيلة الحدوث عمليا . ولكن الفكر المعاصر - جدا - يشمل نوعا من هذا الجدل " غير الفانتازي " فقد ثار جدل بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي السابق حول طبيعة الدولة التي ترث إلتزامات الدولة القديمة . وبشكل خاص ديون الأخرين على الإتحاد السوفييتي السابق , وهل ينبغي ردها لكل الجمهوريات المتخارجة عنه أم ترد للجمهورية الروسية وحدها ؟ أم أنها تسقط نظرا لأن اي من الجمهوريات المتخارجة ليس هو - بالقطع الدولة القديمة حصرا - ونفس الشيئ حدث عندما حدث لإندماج ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية و فقد نشأت دولة جديدة كان لكل منهما إلتزامات دولية سابقة .. كيف تم التصرف حيالها ؟ على أي حال.. هذا جدل قانوني وفقهي خطير ولكن له نتائج سياسية وعسكرية قد تكون أخطر بكثير في حالتنا العربية ؟ وهو ما نطرحه على الباحثين الوحدويين المتواجدين في هذه الندوة البحثية . السؤال الخامس : عن أسطورة التكامل الإقتصادي 41 - عدد كبير من الباحثين - والسياسيين أيضا - الذين تصدوا لدراسة أسباب تعثر الوحدة السياسية بين العرب , يخلصون الى أن من أهم أسباب هذا التعثر هو غياب التكامل الإقتصادي بين الأقطار العربية . والواقع أن هناك مئات - بل آلاف - الكتب والدراسات عن ضرورة التكامل الإقتصادي وإمكانيات التكامل الإقتصادي وأشكال التكامل الإقتصادي .. الى آخره . ولكن لم يتصد الكثيرون لمعرفة سبب فشل هذا التكامل الإقتصادي وعدم تحققه بين الأقطار العربية رغم مرور كل هذه السنين . ولا زال البعض " يحلم " بخطوات للتكامل الإقتصادي تصل بالعرب الى الوحدة الإقتصادية على غرار " الوحدة الأوروبية " . والواقع أن فكر " التكامل الإقتصادي " هو فكر " مثالي " ودعاته " فاشلون " على الرغم من دعاوتهم التي تبدو عقلانية ومستندة على مقومات مادية , أي الأقتصاد , وعلى أسس موضوعية هي أن التكامل الإقتصادي يخدم مطلب التنمية الشاملة لكل الأقطار العربية ومطلب التنمية هو بدوره مطلب جماهيري تفرضه الرغبة العارمة في أن تخرج جماهير هذه الأمة من دائرة الفقر والتخلف والتبعية !! 42 - لماذا - إذا - نعتبره فكرا " مثاليا " و فاشلا .. ؟ أولا : لأن التكامل الإقتصادي يقتضي - ضمن ما يقتضي - أن تكون هناك فوائد إقتصادية يمكن أن تجنيها الأقطار من هذا التكامل الإقتصادي . والواقع أن التبادل التجاري بين الدول العربية - الذي يأخذه البعض كأحد مؤشرات الوحدة والتكامل الإقتصادي - لازال ضعيفا للغاية . وقد قدر " احمد الجويلي " أمين مجلس الوحدة الإقتصادية العربية , التجارة البينية خلال العشر سنوات الماضية بحوالي 27 مليار دولار يمثل البترول ما يزيد على 50 في المائة منها . وهذه النسبة لا تشكل سوى 8.6 من جملة التجارة العربية الخارجية . والخلاصة المأساوية : هي أن التبادل التجاري بين الأقطار العربية مازال ضعيفا للغاية . وهو من الضعف بحيث إذا توقف التبادل التجاري بين الأقطار العربية كلية , فإن اقتصاديات هذه الأقطار لن تصاب بأضرار محسوسة . ثانيا : أن إنتقال رؤوس الأموال بين الأقطار العربية لازال محدودا أو معدوما بين أقطار السوق العربية المشتركة. فالإستثمارات العربية البينية ضئيلة ولم تزد عن 15 مليار دولار خلال الفترة من 1985 حتى 2000 ( أي 15 عاما ) . . وتبلغ رؤوس الأموال النازحة في أحصاءات عام 2000 الى نحو 730 مليار دولار . بينما ترفع مصادر أخرى حجم رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الخارج الى تريليون دولار ( ألف مليار دولار ) . إذ يقد أمين مجلس الوحدة العربية الإستثمارات العربية في الغرب وأمريكا بين 800 مليار و 1000 مليار دولار . ( أحمد الجويلي , التكامل الإقتصادي العربي , الأهرام و 15 يوليو / تموز 2002 ) . وكان حجم الإستثمارات العربية في الخارج قد تراجع من 850 مليار دولار في نهاية الثمانينات , الى نحو 675 في نهاية التسعينات بالإضافة الى 50 مليار دولار استثمارات في العقارات والأسهم وغيرها ومعظمها مودع في مصارف أجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية . ويرجع تراجع حجم الإستثمارات العربية في الخارج الى انفاقات حرب الخليج الأولة والثانية . ( القدس العربي , العدد 3593 , 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2000 ) . فالإستثمار في الأقطار العربية لا يحقق الربحية القصوى التي يبحث عنها رأس المال - بحكم طبيعته - مقارنة بما هو حادث في بلدان الغرب وأمريكا . ولا توجد أي إغراءات مادية لجذب رأس المال العربي الى أي قطر عربي اللهم إلا تشجيع بؤر الفساد داخل الأقطار العربية من خلال التزاوج بين رأس المال والسلطة السياسية ومنظمات الجريمة المنظمة وغسيل الأموال !! ثالثا : إنتقال العمالة العربية وإذا كان الاقطار العربية لا ترى فائدة يمكن أن تجنيها من زيادة حجم التجارة البينية أو الإستثمار فيما بين بعضها البعض , فربما يدعي البعض أن هذا لا ينطبق بنفس الدرجة على إنتقال العمالة بين الأقطار العربية , وخاصة بين الدول النفطية والدول غير النفطية . فالتقيرات المحافظة تفيد بتواجد ثلاثة ملايين عنصر من الطاقة البشرية العربية يعملون في أقطار عربية غير أقطارهم . ولكن المفارقة هي أن المستوعب الرئيسي لهذه العمالة العربية هي دول الخليج والسعودية . وهي من الدول غير المشاركة في إتفاقية السوق العربية المشتركة . ولا تتمتع هذه العمالة , في حرية انتقالها وحقوق عملها , بالمزايا التي تنص عليها اتفاقية السوق المشتركة . أي أن هذا التفاعل البشري المكثف نسبيا , لم يتم أساسا بسبب اتفاقيات التكامل التي وقعتها هذه البلدان رسميا , وإنما في ظل عوامل السوق الكلاسيكية ( العرض والطلب ) كقرب المسافة ورخص الأجور وتشابه الخلفية الحضارية . لذلك لا تتردد السعودية ودول الخليج - مثلا - في الستعانة بعمالة غير عربية من إيران والهند وباكستان وتركيا , حيث تقرب المسافة وترخص الأجور . أو حتى إساقدام عمالة بعيدة من كوريا والفليبين , حيث يعوض بعد المسافة تدني الأجور وإرتفاع الإنتاجية . لقد أوضحت دراسة " نادر فرجاني " الآثار السلبية لعملية إنتقال العمالة داخل الوطن العربي . ولكن ما يهمنا في هذه الدراسة , هو تأثير هجرة العمالة على توليد مشاعر مضادة للوحدة العربية والتماسك العربي لدى كثير من المواطنين العربي الذين تعرضوا لآثارها السلبية . فلقد إستخدمت الأنظمة العربية النفطية عملية إستقدام العمالة كورقة في الصراعات الإقليمية التي كانت تحدث في قمة النظام الإقليمي العربي . وحتى قبل حرب الخليج كانت العمالة المصرية والتونسية ضحية للصراع الليبي - المصري , والصراع الليبي - التونسي . لقد خلقت ظروف العمل والمعيشة التي تعرضت لها العمالة العربية في الأقطار المستقبلة على شيوع تناحرات تحتية بين المواطنين العرب من المقيمين والمهاجرين . وعندما تنشأ هذه المشاعر فإنها لا تبقى محصورة في نطاق المشاركين مباشرة في الهجرة وإنما تتسرب لدوائر أوسع من المواطنين العرب . خصوصا عندما أقدمت بعض الأنظمة القطرية المعادية للوحدة العربية في تكبير وتضخيم مثل هذه التصرفات الشاذة لضرب فكرة الوحدة العربية من أساسها ومحاصرة نفوذ الأنظمة المنافسة على مواطنيها . ( راجع بشكل خاص نادر فرجاني , الهجرة داخل الوطن العربي , المستقبل العربي , العدد 10 / 1983 ) . لقد شكلت الخمسينات و الستينات حقبة الصراع في قمة النظام الإقليمي العربي .. ولكن حقبتي السبعينات والثمانينات ستعملان على نزول الصراعات العربية ألى تحت .. الى القاعدة .. الى المواطنين العرب أنفسهم . وهي ضربة لم يتوقعها الوحدويون ولم يحسبوا لها حسابها ولم يقدروا نتائجها .. وبالتالي لم يستطيعوا حتى هذه اللحظة مواجهتها ؟!! وكانت حرب الخليج الثانية متغيرا حاسما في إنتقال وهجرة المواطنين العرب داخل الأقطار العربية. لم يكن المواطنون العراقيون والكويتيون هم الضحية الوحيدة لهذه الحرب العبثية . فبمجرد حدوث الغزو وتكاثف سحب الحرب , شهدت منطقة الخليج أكبر وأسرع حركة إنتقال وتهجير بشرية عرفتها المنطقة . فخلال أيام قليلة كان مئات الآلاف من البشر يتحركون في موجات خرافية عبر الصحراء العراقية الأردنية خوفا من أهوال الحرب . وبين شهر أغسطس وشهر نوفمبر 1990 كان حوالي 700 ألف شخص يعبرون الحدود الأردنية في ظل أوضاع حياتية مزرية على الرغم من كل جهود منظمة الصليب الأحمر . وبعد تحرير الكويت حدثت " الجريمة الثانية " , حيث أصبح المهاجرون الفلسطينيون محط عمليات إنتقام عشوائية في شوارع الكويت دون تمييز , وأصبحت عمليات القتل والتنكيل بالفلسطينيين على الهوية أو بالهجة هي عملة يومية لبعض المليشيات الكويتية التي تأتمر بأمر عدد من أمراء صغار السن في الأسرة الكويتية الحاكمة . وفي خلال شهور قليلة ستختفي الجالية الفلسطينية من الكويت , اللهم إلا بعض الأفراد ذوي العلاقة الخاصة مع أمراء الأسرة الحاكمة ( راجع جورج قرم , إنفجار المشرق العربي 1956 - 2000 , طبعة فوليو , فرنسا ) . مآساة بشرية أخرى مشابهة ستجري وقائعها في المملكة العربية السعودية , التي قررت طرد المواطنين اليمنيين العاملين أو المقيمين بها . ففي يوم 19 سبتمبر 1990 قررت الحكومة السعودية معاقبة الحكومة اليمنية على ما أعتبرته تأييدا للعراق . وهكذا قررت الحكومة السعودية طرد كل العمالة اليمنية التي لا تحمل تصريحا رسميا بالعمل .. التصريح الذي لم تكن تطلبه في السابق لدخول وإقامة اليمنيين . وخلال أيام سيتشهد الصحراء الفاصلة بين البلدين أكبر وأسرع حالة نزوح بشري حيث عبر حوالي 800 ألف مواطن يمني الحدود مطرودين إلى بلدهم دون الحصول على حقوقهم أو أمتعتهم !! لم يكن الموقف اليمني من العراق هو السبب الوحيد لهذا العقاب الجماعي الذي نفذته السعودية .. بل كان هناك أيضا " هواجس " السعودية من دخول اليمن الى مجلس التعاون العربي .. وهناك أيضا " المخاوف " التي تلبستها بعد توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة صارت فجأة أكبر نظام داخل الجزيرة من حيث عدد السكان وحجم النخبة المتعلمة وفعالية البنية العسكرية . لقد أوضحت هذه الحرب بجلاء الجانب " الإبتزازي " الذي تلعبه حركة الهجرة والعمالة في داخل الوطن العربي . كل هذه النتائج - وغيرها كثير - شكلت صورة بشعة للواقع الذي أنتجته حرب الخليج الثانية في الوطن العربي والتي ستنعكس بدورها على مجمل الصراع العربي الصهيوني . رابعا : المديونية والتبعية للغرب مظهر أخر من مظاهر فشل الطريق الإقتصادي للوحدة العربية هو التبعية المطلقة للغرب إقتصاديا وسياسيا . وشكلت حرب الخليج الثانية تعميقا لحالة التبعية والإرتهان العربي للقوى الخارجية . غذا ظهرت بجلاء ظاهرة الإستدانة من الخارج كأحد أشكال التبعية . وهكذا وجدت الدول النفطية نفسها - لأول مرة - تتشارك مع شقيقاتها العربيات غير النفطيات نفس المآساة , ونقصد مآساة " المديونية " وهموم الدين !! فلقد أظهرت البيانات والإحصائيات السنوية الواردة في التقارير الإقتصادية الدورية منذ إنتهاء حرب الخليج الثانية قد تفاقمت عاما بعد عام منذ هذه الحرب المشئومة , بحيث أصبحت تشكل أكبر إستنزاف للموارد المالية للدول العربية يستحيل معها تحقيق أي نمو إقتصادي فاعل وبالتالي التصدي لأي مشكلة من مشكلات اقتصاديات الدول العربية المزمنة كالفقر والبطالة والتضخم وتراجع قيمة العملات المحلية… الى آخره . وكانت أكثر التقارير المتفائلة تقدر أن المديونية العربية بشقيها الداخلي والخارجي قد بلغت مع نهاية عام 1999 ( أي عشر سنوات بعد حرب الخليج الثانية ) حوالي 375 مليار دولار و منها 156 مليار دولار ديونا خارجية و 219 مليار دولار ديونا داخلية , أي ما يعادل 41 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العام لعام 1991 . وهذه الأرقام لا تشمل - بالطبع - الديون العراقية .التي كانت قد تجاوزت عن نفس الفترة 120 مليار دولار . أي أن مجمل الديون العربية يرتفع بإضافة العراق الى 490 مليار دولار و أي 78 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العربي العام عام 1999 . أما عن خدمة الديون ( أي الفوائد السنوية ) فكان يصل الى 11.6 في المائة وعليه فإن إجمالي الفوائد السنوية المترتبة على الديون العربية يصل الى نحو 56.9 مليار دولار سنويا . وتتوزع ديون دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة لليمن على النحو التالي : السعودية 69.2 مليار دولار ( ديون عامة , القسم الأكبر منها داخلي وتشكل ما نسبته 120 في المائة من إجمالي الناتج المحلي ) . قطر 7.3 مليار دولار تعادل 60 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي . اليمن 4.9 مليار دولار . ويبلغ مجموع ديون الدول الثلاث 181.4 مليار دولار . وتبلغ إجمالي الديون المترتبة على الدول العربية الواقعة في شمال أفريقيا وهي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ومريتنانيا نحو 75.5 مليار دولار . وهي على النحو التالي : ليبيا 3.8 مليار دولار . تونس 11.3 مليار دولار وتشكل 56 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي . الجزائر 28 مليار دولار وتشكل 60 في المائة من الناتج الإجمالي . المغرب 30 مليار دولار . موريتانيا 2.4 مليار دولار . ومع الأخذ في الإعتبار معدل الفائدة السنوية فإن خدمة الديون للدول المغاربية الخمس يبلغ نحو 8.758 مليار دولار . أما الديون المترتبة على كل من سورية والعراق ولبنان والأردن فتبلغ نحو 172.804 مليار دولار , موزعة على النحو التالي : العراق 120 مليار دولار . سورية 22 مليار دولار أي نحو 130 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي . لبنان 23.0 مليار دولار ويمثل 140 من الناتج الإجمالي . الأردن 7.304 مليار دولار . وتقدر خدمة ديون هذه الدول بأكثر من 20 مليار دولار سنويا . أما الديون المترتبة على كل من مصر والسودان والصومال وجيبوتي بمقدار 91 مليار دولار . وهي على النحو التالي : مصر 68.2 مليار دولار وتشكل أكثر من 75 في المائة من النانج المحلي الإجمالي . السودان 20 مليار دولار ديون قديمة . الصومال 2.6 مليار دولار . جيبوتي 200 مليون دولار . وتبلغ الخدمات السنوية لهذه الديون نحو 10.55 مليار دولار . والسبب الرئيسي وراء إرتفاع هذه المديونية هو إعتماد الأنظمة العربية على سياسات واستراتيجيات سيساية وإقتصادية غير ملائمة وبما يتجاوز واقع الدول العربية وإمكاناتها وكذلك تضخم الإستيراد وتمويله بالإقتراض وكذلك الفساد الإداري والمالي وتدني الإنتاجية . وهكذا تفاقمت أزمة هذه الإنظمة العربية - النفطية وغير النفطية - وإستنزفت مواردها في خدمة الين وتسديد القروض بدلا من توجيهها الى التنمية , وكذلك تمويل عمليات الإستيراد الجديدة من القروض الجديدة . وقد أدى ذلك الى تعميق تبعية الإقتصاديات العربية للمؤسسات المالية الدولية وفي نفس الوقت قيام مؤسسات الإقراض الدولية بإستغلال حاجة النظام الإقليمي العربي الى القروض الجديدة لفرض شروط إقتصادية وسياسية وإجتماعية مجحفة وغير متناسبة مع ظروف هذه الدول مما أدى الى حدوث كثير من الهزات الإقتصادية والإجتماعية الخطيرة . وقد تمثل هذا في استنزاف احتياطات الدول العربية من العملات الأجنبية مما أدى الى تراجع اسعار صرف العملات المحلية وتراجع قيمتها . وهكذا تدهور النمو الإقتصادي وتراجعت معدلات الأجور مما أدى الى تفاقم ظاهرة الفقر والبطالة في هذه االبلدان وما يصاحبها من دفع أصحاب الكفاءات والطاقات العربية للهجرة الى الخارج بحثا عن فرص عمل أفضل . وهنا تكون الخسارة مزدوجة تتمثل في خسارة تأهيل هذه الكوادر وكذلك خسارة مجهوداتهم بعد أن أصبحوا منتجين . وفي هذا السياق تؤكد الإحصاءات المتوفرة أن الدول العربية تساهم بنحو " الثلث " في هجرة أصحاب الكفاءات العلمية في البلدان النامية . وبمقارنة حركة الهجرة بمجموع خريجي الجامعات العربية , لوحظ هجرة 50 في المائة من الأطباء و 23 في المائة من المهندسين و 15 من العلماء و ومعظم هؤلاء يتوجهون الى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية واستراليا . كما أنه في الوقت الذي تستمر فيه المديونية العربية في التفاقم , تواصل رؤوس الأموال العربية زحفها الى الأسواق الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن الإستقرار والأمان والربح. خامسا : لأن التكامل الإقتصادي والوحدة الإقتصادية تتطلب أن يكون هناك قرارات وممارسات ذات طابع سياسي من طرف النخب الحاكمة لفرض هذا التكامل الإقتصادي . وهذا يعني أولوية السياسي على الإقتصادي . ( ينبغي الرجوع في هذا الموضوع بالذات الى الدراسة الموسوعية التي قدمها نديم البيطار حول هذا الموضوع والمعنونة: النظرية الإقتصادية والطريق الى الوحدة العربية و معهد الإنماء العربي , بيروت . فقد دلل البيطار في هذه الدراسة على " مثالية " الطريق الإقتصادي في الإنتقال من التجزئة الى الوحدة عبر تجارب التوحيد القومي عبر التاريخ مع تحليل خاص لتجربة الوحدة الأوروبية وتبيان أولوية السياسي على الإقتصادي في هذه التجربة ) . الخلاصة : أن أولوية الطريق الإقتصادي للوصول الى الوحدة العربية ليس سوى وهم يعشش في بعض العقول الغافلة .. وهم يعارضه الإقتصاديون المؤمنون بالوحدة العربية من واقع خبرتهم بالإقتصاديات المجزأة ودور العوامل السياسية في التأثير في العوامل الإقتصادية . ( يمكن بشكل خاص الرجوع للندوة التي أجرتها مجلة المستقبل لصفوة من رجال الإقتصاد العرب الوحدويين بعنوان : الفكر الإقتصادي وتعثر مسيرة الوحدة , المستقبل العربي , عدد 12 , 1980 ) . السؤال السادس : وحدة عربية بدون حزب وحدوي ؟ |
|
د. صفوت حاتم
"
أريد
أن أقول , بأكبر قدر من الوضوح , أنني كنت ولم
أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية
" هي " نظرية الثورة العربية " . وأن
الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة
ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها ,
ومن منطلقاتها , إلى غايتها , بأسلوبها . وأن من
يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا
يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية
ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة
موقعة من عبد الناصر شخصيا
"(عصمت
سيف الدولة , عن الناصريين .. وإليهم , دار
الموقف العربي , القاهرة)
1-
لم عصمت سيف الدولة ,
راغبا في الرحيل عن عالمنا دون أن يحدد
بنفسه , فيما أعتقد , وعلى
أعلى مستوى من الوضوح طبيعة
علاقته الفكرية والمادية
بعبد الناصر والناصرية
… العلاقة التي
تصورتها بعض العقول جامحة الخيال ’ علاقة
غريبة وغامضة . ولقد
كان يكفي لمعرفة هذه العلاقة العودة لكتابه
الممتاز " عن الناصريين … وإليهم " عام
1987. ليتضح بجلاء موقفه الشخصي والسياسي
والفكري من الرئيس عبد الناصر والناصريين ,
وقد ختم هذا الكتاب بدراسة
فكرية أرادها عن الناصرية والناصريين , تبدو
لي الآن وكأنها وصية سياسية من مفكر ومناضل
سياسي كانت حياته كلها تجسيدا مثاليا (
ودراميا ) لأفكاره التي آمن بها ودفع ثمنا لها
. في هذا الكتاب قال " عصمت سيف الدولة "
كل ما كان يود أن يقوله عن عبد الناصر
والناصرية والناصريين .
وفي هذا الكتاب أيضا كان
يرد على ذلك السؤال
المستفز الذي طالما سأله له الكثيرون
: هل أنت ناصري ؟
ويشهد
الله أنه لم يكن هناك سؤال يستفز مفكرنا
الكبير أكثر من هذا السؤال
الذي كان يوجهه له بعض الشباب الناصري في
لقاءاتهم العامة والخاصة , بحسن نية أو بسوئها
. وكان يجيبهم " عصمت سيف الدولة"
إجابة " مستفزة " أيضا . ولكنه
الاستفزاز الذي يحرض على التفكير والتساؤل
عند الشباب العربي ..
الشباب الذي كان يراهن على وعيه وإمكانياته
.
كان
يجيب : إذا أوضحت لي
عن أي ناصرية تتكلم .. يمكن أن أقول لك إذا ما
كنت ناصريا أم لا ؟!!
هل
كان التحريض الفكري للشباب العرب
هو السبب الوحيد للإجابة
المستفزة على السؤال المستفز ؟
بالقطع
لا
!!
حديث
عن عبد الناصر
2
- الواقع أنه لم يكن هناك موضوع اكثر التباسا
في ذهن بعض الشباب العربي فيما يخص عصمت سيف
الدولة سوى موضوع علاقته بعبد الناصر أو إذا
شئنا بدولة عبد الناصر ومؤسسات عبد الناصر .
كيف
يرى كاتب هذه الدراسة موقف " عصمت سيف
الدولة من عبد
الناصر ؟
الواقع
أن كاتب هذه الدراسة لا يملك إلا أن يجتهد في
الإجابة على هذا السؤال في حدود رؤيته
الشخصية التي يتحمل وحده مسئوليتها .
كاتب
هذه الدراسة يعتقد أنه لا يمكن أن نفهم موقف
عصمت سيف الدولة وكتاباته التي بدأت في منتصف
الستينات دون الاستعانة بما يقدمه لنا علم
" اجتماع المعرفة " من مبادئ وافتراضات
نظرية .
تعلمنا
مقولات " علم
اجتماع المعرفة " (وهو
العلم الذي يبحث في شروط وظروف انبثاق
المعرفة الإنسانية ) أن " الفكر البشري
" لا يأتي من فراغ أو من تدريب ذهني محض ,
بل ينبغي الربط بين الأفكار والنظريات
والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي
ظهرت في سياقه باعتباره واقعا تاريخيا . ذلك
أن فهم الأفكار أو المذاهب السياسية أو
النظريات العلمية أو الشخصيات السياسية ليس
مقطوع الصلة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها , خاصة
إذا سلمنا بالعلاقة الجدلية بين عالم الفكر
وعالم الواقع . وهكذا يمكن أن نقول أن دراسة
فكر أي فيلسوف أو زعيم سياسي
دون البحث في نشأته الاجتماعية التي نمى
داخلها أو دون بحث في الأفكار والثقافات التي
تلقاها في صغره هو نوع من الهراء . فالفيلسوف
أو الزعيم السياسي هو نتاج
عصره وأسرته ووطنه وبالتالي يتعين البحث عن
أصول النظريات والأفكار في أحشاء المرحلة
التاريخية التي عاشها وأبدع فيها فكره أو
مذهبه أو نظريته .
3 - إذا كان ذلك صحيحا , وهو في رأينا صحيح , فإننا لا يمكن أن نفهم ما كتبه عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وعبدالله الريماوي إلا في ضوء ما أثارته تجربة عبد الناصر من تحديات فكرية وتطبيقية على المفكرين الثلاث . لقد راح كل منهم يبدع بطريقته رده على هذه التحديات وفقا لمنهج محدد خطه كل منهم لنفسه , فرأينا البيطار يبدع وفق ما سماه " المنهج التاريخي المقارن " ورأينا الريماوي يبدع وفق ما سماه منهج " الحركية الحياتية الإنسانية " ورأينا عصمت سيف الدولة يبدع وفق ما سماه " جدل الإنسان " .
وكانت
الإجابات الثلاث , أو المناهج الثلاث , هي
تأصيل لما رآه كل منهم واجبه الفكري
تجاه التجربة الناصرية .
وبينما
استفاد الأستاذ الريماوي - بحكم علاقة
تاريخية محددة بالرئيس عبد الناصر وحزب البعث
- بعلاقة ودية مع مؤسسات الدولة الناصرية , لم
يكن نصيب " البيطار " من هذه " الود "
الكثير رغم زياراته المتعددة للجمهورية
العربية المتحدة ويمكن القول أن مؤسسات عبد
الناصر الفكرية لم تلتفت لجهود
" البيطار " رغم ناصريتها الواضحة
لأسباب تتطلب تفسيرا من هؤلاء الذين كانوا
قائمين على هذه المؤسسات ؟!!
اما
الفارس الثالث " عصمت سيف الدولة " فقد
كان يقيم ويعمل ويجتهد على أرض مصر وأمام أعين
مؤسسات الدولة الناصرية وأجهزتها الفكرية
والسياسة والأمنية . ويمكن أن نقول أنه لم يحظ
لا بالود الذي حظى عليه " الريماوي "
ولا بالتجاهل الذي
حظى عليه " البيطار "
وإنما حظى بكثير من التوجس والعداء ..
لماذا ؟ .
4
- من ناحية .. كانت
كتب عصمت سيف الدولة في نقد المادية
التاريخية والمادية الجدلية والماركسية بشكل
عام لا تحظى بأي ود من النخبة المثقفة
الماركسية التي ركزت قواعدها منذ منتصف
الستينات في الاتحاد الاشتراكي ومعهد
الدراسات الاشتراكية والصحافة والمسرح
والسينما . ومن يعود
لمجلة "
الطليعة " الماركسية فيما كتبته في
الستينات عن دعاة
" الاشتراكية العربية " سيطالع فيها
دروسا بليغة في فن " الهجاء والردح
الإيديولوجي " قام به الماركسيون ضد كل من
كتب عن " الإشتراكية العربية "
. وهو يفسر لماذا لم تكن كتابات " عصمت
سيف الدولة " أو
" البيطار " تلقى
الترحيب في برامج التثقيف التي سيطر عليها
بشكل ذكي الخارجون من الأحزاب الشيوعية
المنحلة . و لم يكن
لرجال عبد الناصر من الكفاءة الفكرية أو
النظرية ما يمكنهم من إدعاء القدرة على
مواجهتهم , وبقي عبد الناصر هو المفكر الحقيقي
والوحيد لتجربته بينما
اقتصر دور الآخرين على الترديد والتبرير
النظري لما يقوله عبد الناصر .
والحق
يقال كان الفارق النظري بين عبد الناصر وبين
رجاله كبيرا فلم يجد هؤلاء
بدا من الاستسلام للجهود الفكرية
والمنظمة التي " تبرع " بها الماركسيون
الخارجون من الأحزاب الشيوعية المنحلة !!
ونجحت الحملة " الماركسوية " في إبعاد
الفكر القومي التقدمي الجديد
عن دائرة الفعل السياسي في تجربة عبد الناصر ,
حينا بتعمد تجاهل
الأصيل منه وحينا آخر بالهجوم
على الغث منه في حملات " دون كيشوتية "
بائسة .
5
- من ناحية ثانية … كانت كتب " عصمت سيف
الدولة " قد
بدأت تكتسب أنصارا لها
من الشباب العربي خارج مصر وبدون تخطيط
مسبق وبعيدا عن "أجهزة الدولة الناصرية "
والواقع أن دور هذه الأجهزة وما أدته خلال حكم
الرئيس يجب أن يكون
محل دراسة موضوعية من الناصريين أنفسهم .
فالذي لاشك فيه أن أكثر من مناضل ناصري كان قد
شكى للرئيس عبد
الناصر من "
بيروقراطية " هذه " الأجهزة " ومن أنها
تتعامل مع الشباب العربي كما تتعامل مع
" العملاء " أو " الأتباع " مستغلين
في هذا عواطف الحماس والحب الذي اسبغها هؤلاء
على زعامة " الرئيس عبد الناصر " شخصيا .
وإذا
أضفنا لكل ذلك أن القاهرة كانت قد تحولت في
الستينات الى كعبة للنضال العربي وامتلأت
شوارعها ومقاهيها ومنتدياتها بعدد ضخم من
اللاجئين السياسيين والمناضلين
والزوار من كل أرجاء الوطن العربي وما كان
يعنيه هذا من لقاءات وحوارات
فكرية كان طرفا فيها عصمت سيف الدولة وفكره
وكتبه , يمكن , عندئذ , ان نتصور ما سيسببه ذلك
من حساسية لدى " أجهزة عبد الناصر " .
على
أية حال سيصدر " عصمت سيف الدولة " قبل
نكسة يونيو / حزيران
كتبه : " أسس
الاشتراكية العربية " و " الطريق
للاشتراكية " و " الطريق للوحدة " و "
الطريق للديمقراطية .. أو سيادة القانون في
الوطن العربي" لتكون
تأصيلا رائقا وإبداعا أصيلا لما كان
يقوله ويفعله عبد الناصر, دون أن يسمح لنفسه
بالدخول في جوقة المهللين والمصفقين .
لماذا
لم تفعل مثلهم .. يا دكتور ؟!!
6
–
ويجيب عصمت سيف الدولة : " حينما كانت
الحركة الجماهيرية القومية منتصرة تحت قيادة
عبد الناصر كتبت ما كتبت حاثا ومحرضا جماهير
الأمة العربية وقيادتها على عدم التوقف عند
الوحدة الجزئية , وعد الاكتفاء بوحدة القيادة
ووحدة الحركة بدون وحدة التنظيم . وساندت
بالدراسات المكتوبة التي لم تنسب الى قط
كثيرا من القوى القومية المناضلة ضد التجزئة
في كثير من القطار العربية . ولم أكتب شيئا قط
عن عن مصر تحت قيادة عبد الناصر التي كانت
الأمة العربية قد كسبتها قاعدة قائدة انصرفت
فيها الى تأصيل الوحدة وتبرير التضحيات من
أجلها والتوحيد بينها وبين النصر في كل معارك
التحرر والتقدم
وقد
عوتبت أيامها على أنني لم أذكر في كتبي لا مصر
ولا الميثاق , ولا حتى عبد الناصر . وكان
المعاتب صديقا قديما لي ومن أقرب الناس الى
عبد الناصر!! ( علامات التعجب من عند كاتب
الدراسة ) . وكان جوابي أني أقاتل بما أكتب في
سبيل أمتي ووحدتها القومية حيث تدور المعارك
مع الأعداء واحتمالات النصر أو الهزيمة . ولست
معنيا , ولا أنا أجيد ترتيل أناشيد النصر
للمنتصرين … ومصر عبد الناصر ( 1966 ) منتصرة فهي
في غير حاجة الي . وخسرت كثيرا وكثيرين لم
يفهموا ذاك الموقف . ولكني لم أعبأ بالتوقف
لمعرفة ماذا ومن خسرت … كان الأكثر استحقاقا
للانتباه مساندة الحركة المنتصرة حتى يتحقق
النصر الأخير .. فرأى من رأى أنني أستحق لقب
" قومي " وكان ذلك
بالنسبة الي كسبا
عظيما .. "
( عن الناصريين .. وإليهم )
وربما
يرد البعض بان هذا تفسير
متأخر لعصمت سيف الدولة لموقفه من
عبد الناصر وقيادته للحركة القومية
ولا يمكن الإحتجاج به على موقفه إثناء حكم
الرئيس عبد الناصر ؟
نعم
هذا تفسير
يعود لعام (
1987 ) حين كتب كتابه ( عن الناصريين .. وإليهم )
وفيه روى كل روايته مع قيادة
عبد الناصر ودولة عبد الناصر ورجال عبد
الناصر .
وسيبقى
هذا التفسير منقوصا ما لم نتكلم عن " بيان
طارق" وقصته :
حديث
عن بيان طارق!!
7 - قبل أن ينتقل عبد الناصر الى رحاب ربه
بسنوات قليلة
كان قد مر بأكثر معاركه مرارة وألما : نكسة
يونيو / حزيران.. الهزيمة
التي مزقت كثير من الأفئدة والقناعات في
الوطن العربي .
وراح
" المنافقون " والمهتزون والمذبذبون
يخوضون في أسباب النكسة بغرض تصفية حساباتهم
القديمة مع عبد الناصر . ووجدت فيها منظمات
وأحزاب طالما نافقت عبد
الناصر الفرصة متاحة للانتقام من الرجل الذي
حكم عليها بالذيلية الجماهيرية لسنوات طويلة
. وهكذا ظهرت
المعلقات اليساروية عن " البورجوازية
الصغيرة المهزومة " و " الحرب الشعبية
" والمقاومة الفلسطينية التي سترد على
هزيمة البورجوازية الصغيرة !!
.. الخ المعلقات التي أطلقتها في ساحة
العمل السياسي كل الفئات الصبيانية
المنفلتة من حزب البعث والقوميين العرب
والمنظمات الفلسطينية "
الفداوية " واليساروية
.
وسط
هذه " الهزيمة العسكرية
" تمالكت الجماهير العربية نفسها وطالبت
قائدها بالاستمرار في القيادة ومواجهة
الهزيمة . ووقف القائد وبدأ في مواجهة الهزيمة
رغم آلامه الشخصية وكان لابد له من أن يعيد
النظر كاملا في بنية الدولة والمؤسسات التي
شيدها بنفسه وبالثغرات التي سمحت للعدو
بالنفاذ منها وتحقيق نصره . لحظة شاملة من
مراجعة النفس قادها عبد الناصر مع فكره
ودولته ومؤسساته
( مراجعة يعرفها الكثيرون ممن اهتموا بفكر
الرجل وحياته ) .
ووقف
في نفس الخط - نقد
الذات - كل القوميين الذين هزتهم" الهزيمة
" فلم يستسلموا لردود الفعل المرتاعة التي
استسلمت لها
" الجملة المثقفة الطفولية " .
لقد
أتضح " لعبد الناصر " وكل القوميين أن
هناك ثغرة واسعة ومفتوحة في بنية الثورة .
وكما خرجت الجماهير تطالب " عبد الناصر "
الاستمرار في موقعه في 9 و10 يونيو 1967 خرجت مرة
أخرى تطالبه محاسبة المسئولين عن الهزيمة في
مظاهرات 1968 .
وكان
من هؤلاء " عصمت سيف الدولة " .
لقد
أدرك " عصمت سيف الدولة "
بشكل واضح طبيعة الخلل في الدولة
الناصرية . إنها "
الأجهزة الأمنية " التي
حاولت أن تحجز القائد عن جماهيره بكل وسائل
النفاق والقهر والبيروقراطية .
كيف
يمكن - إذا - تخليص البطل من قبضتها وإعادته
لجماهيره ليعاود بها ومعها انتصاراته
؟
10
- وفي أكثر من موضع من هذا " المنشور " أكد
" عصمت سيف الدولة " إيمانه كمناضل
قومي , بقيادة عبد
الناصر للحركة القومية وللتنظيم القومي الذي
يدعو لبنائه .
ولكن
قيادة عبد الناصر للحركة العربية الواحدة أو
" التنظيم القومي " شيء , ووجود " أجهزة
عبد الناصر " الإقليمية في هذا المشروع شيء
آخر , وهو أمر لم
يتوان " عصمت سيف الدولة " عن التحذير منه
.
ولكن
لنتصور سيناريو وقوع هذا
" المنشور " أو
" الكتيب " في
يد أجهزة عبد الناصر ( وهو لابد قد وقع ) , فهل
كانت لتغفر لعصمت سيف الدولة
هجومه عليها واتهامها بألفاظ صريحة
في " بيان
طارق " بأنها : "
ضيقة النظر .. تنظر الى النضال العربي وتعالجه
بطريقة إقليمية .. تفتقد الكفاءة الفكرية
والعقائدية اللازمة لأية مساهمة مجدية في
النضال القومي الجماهيري .. لا تتمتع بأية
كفاءة في تنظيم الجماهير وقيادتها وقد فشلت
في كل مرة حاولت هذا..( بيان طارق)
والسؤال
الذي لابد يحتاج إلى
إجابة منا هو :
هل
كان " عصمت سيف الدولة " محقا في نقده
لهذه الأجهزة لصالح قيادة
" عبد الناصر " للجماهير العربية أم
كان على خطأ ؟
ولابد
أن نسترعي نظر القارئ الى أن كل هذا النقد "
لأجهزة عبد الناصر
" كان بعد نكسة يونيو / حزيران .. النكسة التي
كشفت فقر هذه
الأجهزة ..
الأجهزة التي أنتقدها عبد الناصر بعد النكسة
فيما أطلق عليه هو نفسه "
دولة داخل الدولة " ..
ايا
ما كانت الإجابة التي سيخرج بها المنتدون حول
فكر " عصمت سيف الدولة "
على هذا السؤال , فأن
قصة " بيان طارق "
لم تكن قد انتهت عند حدود كتيب أو "
منشور " كتب ونشر ووزع على دائرة ضيقة أو
واسعة من " أنصار
الحركة العربية الواحدة "
أو " التنظيم القومي " .
لا
نملك في أيدينا من الوثائق ما يمكننا من الجزم
من أن " أجهزة عبد الناصر " لم تحصل على
هذا الكتيب " المنشور " , وليس لدينا ما
يدعونا على الإعتقاد انها أنها
" رحبت " بما
جاء فيه من نقد مرير لها بسبب
عدم كفاءتها وضيق افقها .
ولن
يكون صعبا , والحال هكذا , أن نتصور كيف يمكن أن
يكون رد فعلها على هذا النقد !!
ما
هو موجود تحت أيدينا
ان " عصمت سيف
الدولة " سيقبض عليه في الأيام الأولى
لحكم " السادات " وسيتهم بإنشاء "
تنظيم قومي " هدفه قلب أنظمة الحكم في
الوطن العربي . ليصبح ما سمي " بتنظيم عصمت
سيف الدولة " أول تنظيم
يتم القبض عليه في
عهد الرئيس السادات ومحاكمة
أفراده والحكم عليهم بسنوات طويلة في السجون
. وسيتردد في محاكمة " عصمت سيف الدولة
" ورفاقه أن أجهزة الدولة كانت " تراقبه
" عن قرب ,
وقبل سنوات قليلة
من القبض عليه بالجرم المشهود ..
" جرم التنظيم
قومي " !!
فإذا
عرفنا أن القبض على " عصمت سيف الدولة "
كان في عام 1972 فإن هذا يعني أن
" أجهزة عبد الناصر " كانت قد وضعت
عيونها علىه قبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر
نفسه ؟!! .
وهو
أمر يعني أن هذه " الإجهزة " كانت قد بدأت
في تصنيف " عصمت
سيف الدولة " في قائمة المعادين لها مع ما
يحتمله هذا من سوء
ظن .. ومراقبة
وتحذيرات.. وإشاعات .. وحملات دعائية .. الى
آخره .
وعلى
من يهوى متابعة بقية
هذه القصة فعليه أن يقرأ
" بيان طارق
" و
" إعدام السجان " و " عن الناصريين
.. وإليهم " فقد يساعده هذا في الإجابة على
السؤال الذي طرحناه : هل كان " عصمت سيف
الدولة محقا في نقد " أجهزة عبد الناصر "
أم كان مخطئا ؟
وسيساعده
حتما في الإجابة على هذا السؤال
بالذات ما كشف عنه التاريخ من حوادث
ومذكرات وأحداث خلال الثلاثين
عاما التي مرت على
وفاة الزعيم الخالد
" جمال عبد الناصر " .
هل
يكفي هذا كله لكي
يعرف البعض لماذا كان يجيب " عصمت سيف
الدولة " على السؤال : هل أنت ناصري ؟ بإجابة
أكثر استفزازا : قل لي ما هي الناصرية
فأجيبك على سؤالك ؟!
بالقطع لا !!