|
|
رؤية ناصرية من القضية العراقية 6 - عبد الستار الجميلي العلاقات العراقية - الكويتية وصناعة المشكلات لا يمكن فهم "مشكلة الكويت" في الذهن السياسي لقطاع من "العراقيين" التقليديين والاقليميين، الا في اطار "الظرف" الذي اختمرت فيه فكرة تشكيل "الدولة العراقية" في العام 1921، بكل عناصرها واصحابها ومواصفاتها، التي افرزت او صنعت تلك "المشكلات" المرة، التي مازلنا نعاني منها الى الآن، ومن بينها "المشكلة العراقية-الكويتية"، التي لم تدخل حياتنا الا بعد تشكيل تلك الدولة "المفتوحة" لكل الاحتمالات.. لذلك فإننا سنحاول من خلال هذا المقال، ان نضع مقاربة اولية لفهم تلك "المشكلة"، بهدف تجاوز مجرد ادانة غزو النظام الديكتاتوري لدولة الكويت العربية واحتلالها ارضا وشعبا، الى العمل من اجل الغاء هذه الجريمة الغادرة من ذاكرة الشعبين الشقيقين، ومنع احتمالات تكررها في المستقبل، وبناء علاقات سليمة في اطار الاخوة القومية والمصير القومي الواحد واحترام ارادة الشعبين.. *عودة الى الماضي: مع قيام ثورة العشرين، كان قد تبلور مشروع دولة حديثة ذات افق قومي في العراق، وقد ظهر ذلك واضحا في مضمون المطاليب المعلنة التي تقدمت بها قوى الثورة وهي تقاتل قوات الانكليز على امتداد الارض العراقية، بعد ان تفجرت شرارتها الاولى في الرميثة والفرات الاوسط.. وازاء خطورة مشروع الدولة القومية التي تقدمت بها ثورة العشرين وقاتلت من اجلها، احس الانكليز بضرورة التحرك السريع لاجهاض هذا المشروع بعد ان تمكنت قواتهم من اخماد قوى الثورة الاساسية بالقوة والخداع معا، فقرر الانكليز التقدم بمشروع "دولة" اخرى، يلغي مشروع دولة ثورة العشرين، بأن يأخذ منها بعض ملامحها الاساسية بعد ان يفرغها من مضمونها الحقيقي.. فتحدد شكل ومضمون "دولة الانكليز" بنظام ملكي "دستوري" يديره ثلاثي مترابط المصالح والاهداف.. الانكليز في المقدمة وعلى القمة، وتحتهم "ملك" يتنقل "تحت الطلب" بين الجزيرة العربية وسوريا والعراق، ومجموعة من الضباط العراقيين "العثمانيين" الذين كان البعض منهم اسرى في الهند، وقبلوا جميعا التعاون مع الانكليز، وموظفين ومتنفذين عراقيين من مواقع مختلفة، اجادوا منذ زمن ليس بقليل فن تغيير الولاءات في اطار لعبة المصالح.. ولما كان الانكليز-بحكم تاريخهم الاستعماري الطويل-قد تعلموا امام ثورات الشعوب وضغطها المستمر، تعلموا واتقنوا "طقوس" الخروج من الباب والدخول من الشباك بعد ذلك، وحتى يضمنوا مصالحهم في العراق، فإنهم شكلوا "دولتهم" في العراق بمواصفات "سايكس بيكو" المتفجرة عند الضرورة وفق العناصر التالية: 1-البناء القسري لجغرافيا الدولة العراقية-بشرا وارضا-بحيث تضم المنطقة الكردية-وبغض النظر عن رغبة الكرد انفسهم-، بعد ان كانت المنطقة الكردية قد قسمت-كالمنطقة العربية تماما- بين عدة دول ومن بينها العراق، كجزء من لعبة الموازين الدولية التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، بما يؤجج الصراع القومي ويخلق مشكلة "متفجرة" عند الضرورة. 2-البناء الطائفي لهرم السلطة ومفاصلها الاساسية، بحيث تقتصر على طائفة اسلامية دون الاخرى، بما يكرس التقسيم الطائفي، ويحوله الى طائفية سياسية لا علاقة لجماهير وممثلي الطوائف الاسلامية بها. 3-خلق حدود جغرافية متحركة، بحيث تكون مثار مشاكل دائمة على المستويين العربي والاقليمي، وتستعصي على الحل، الى الحد الذي لا توجد فيه دولة محيطة بالعراق الا ولها خلاف حدودي مع العراق، ومن بينها دولة الكويت. وهذا يعني-وفق العناصر الثلاثة اعلاه- ان الدولة التي اقامها الانكليز في العراق من خلال دمج ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة، كانت-وكما خطط لها الانكليز-"عنصرية" في مواجهة الاكراد، و"طائفية" في مواجهة الشيعة، وحدود "متحركة" مثار خلافات دائمة مع كل الدول المحيطة-بما فيها دولة الكويت-.. والنتيجة "المنطقية" لهذه العناصر، هي "ضرورة" قيام حكم ديكتاتوري مركزي-وبغض النظر عن شكل الدولة-لمواجهة هذه "الموازنة" الصعبة "اثنيا وطائفيا" والاستعداد الدائم "لحروب الحدود" المشتعلة جمرتها-وكما خطط لها الانكليز تماما- على الدوام.. مشكلة الكويت: من داخل هذا الاطار التاريخي-السياسي لتشكيل الدولة العراقية، يمكن فهم موضوع "الكويت" في سياسة "التقليديين" و"الاقليميين" العراقيين بدءا بفيصل ونوري السعيد وانتهاءً بوريث "الدولة الانكليزية" الشرعي، النظام الديكتاتوري الحالي في العراق.. فالكويت، الذي تشكل ككيان دولة قبل تشكيل الدولة العراقية بأكثر من قرن، لم يكن في يوم من الايام جزءا مما سموه "العراق"-وفقا لتصورهم الخاص-، لأن التاريخ لم يسجل وجود "دولة" عراقية بحدود "ثابتة" و"خالدة" كالذي تحدث عنها "الانكليز" وفقا لمصالحهم، وتبعهم بعد ذلك تلامذتهم المخلصون.. لكن الحقيقة التي تمتلك اكثر من سند من الطبيعة والتاريخ، ان الكويت والعراق، بحدودهما "الطبيعية" المثبتة في المواثيق والمعاهدات الدولية كانا ومازالا، جزءا من الارض العربية الواحدة.. ولم يدخل موضوع "الكويت" السياسة العراقية، الا في اطار التخطيط الانكليزي-والغربي بشكل عام- لمواصفات الدولة العراقية "المتفجرة" على الدوام.. وتأسيسا على ذلك، فإن كلا من الملك غازي، حين أسس اذاعة موجهة من قصر الزهور للمطالبة بالكويت العام 1938، والدكتاتور المتخلف حين غزا دولة الكويت في 2 آب 1990-ومثلهما الباقين-لم يعبرا ابدا عن تطلع او وعي "شعبـي" عراقي لضم دولة الكويت، بقدر ماكانا يعبران عن سياسة انكليزية، رسمت خطوطها العامة والمستقبلية مع تشكيل الدولة العراقية في العام 1921. لذلك فإن البحث عن "مبررات" مطالبة قطاع من العراقيين بالكويت، ثم غزوها بعد ذلك، خارج الاطار التاريخي لمخطط "سايكس بيكو" في تشكيل الدولة العراقية وغيرها من الدول القطرية الاخرى، ظل يدور في حلقات "ذاتية" لا تمتلك حدا ادنى من القدرة على الاقناع، لذلك فإن صورة الغزو ظلت تدور بين "آراء" متناقضة حتى في اطار "الموقف" الواحد، سواء كان معارضا للغزو او مؤيدا له.. وكلا الموقفين (المعارض والمؤيد) لم ينطلقا من موقف واع لجذور وابعاد الغزو، بقدر ما عبرا عن رد فعل آني للغزو سرعان ما تفتت وانهار بعد تحرير الكويت.. فمن جانب الآراء المعارضة-مثلا- فإنها ظلت تدور في اطار من مفاهيم الجامعة العربية والامم المتحدة السلبية، ولكنها لم ترق الى مستوى وعي الجذور التاريخية للغزو باعتباره جزءا من مخطط غربي اكبر يستهدف تجزئة "التجزئة العربية" ذاتها الى ذرات اصغر وتحت ستار من "الوحدة العربية" المغدورة من قبل الديكتاتور نفسه قبل أي طرف آخر، وبالتالي فشلت في ادراك الترابط المصيري بين النظام الديكتاتوري ومخطط "سايكس بيكو" والثلاثي الذي تشكلت منه الدولة العراقية، وكان فشلها الاكبر هو في التعامل مع "المعارضة العراقية" تحت دعاوى مزيفة كثيرة، ولتقع في الخطأ نفسه مرة اخرى. فكما تركت شعب الكويت وحيدا في مواجهة الغزو الديكتاتوري، واكتفت بوجود رمزي، مما اضطره (أي شعب الكويت) الى طلب. "المعونة الخارجية" لتحرير ارضه، وهو ما كان قد استهدفه الغزو تماما (تثبيت الوجود الاجنبـي في الخليج العربي كان في مقدمة اهداف غزو الديكتاتورية لدولة الكويت)، فإن الموقف العربي، يقوم الآن بترك الشعب العراقي وحيدا في الميدان، ليواجه اكثر الانظمة دموية ووحشية منذ العصر الحجري والى الآن، وليواجه-وحيدا- ايضا، ضغط المجتمع الدولي وقبول شروطه من خلال المعونة الخارجية للخلاص من كابوس الديكتاتورية، التي كانت القوى الخارجية نفسها-وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية-وراء فرض هذه الديكتاتورية وديمومة تسلطها على الشعب العراقي.. وفيما يخص الآراء "المؤيدة" للغزو، فإن التناقض في مواقفها اكثر وضوحاً ومأساوية، حيث تجاوزت "الخطأ" في الموقف الى "الخطيئة"، حين تعاملت مع الجريمة والمجرم بمنطق قومي وتحت ستار "الوحدة العربية"، ولكنها لم تجشم نفسها عناء التساؤل "القومي" البسيط في مواجهة "الجريمة" الواضحة، عن المعنى المتبقي "للوحدة العربية" حين تقوم دولة عربية تدعي "القومية" باحتلال دولة عربية اخرى وتشريد شعبها بالكامل، تماما كما طردت "اسرائيل" الشعب العربي من ارض فلسطين العام 1948 بل واكثر. *موقف عبدالناصر من مشكلة "الكويت": ولا بأس ونحن ننهي المقال من تذكير القوميين، وفي مقدمتهم التيار الناصري-خصوصا في مصر- بموقف عبدالناصر، من مطالبة بعض العراقيين بضم "الكويت" في بداية الستينات، وقد انطلق عبدالناصر وهو الرمز القومي الكبير-من موقف قومي محدد وواعي للمشكلات "العربية" يحيلها الى جذورها التاريخية ويتعامل معها بروح الاخوة العربية والتسامح القومي.. حدد عبدالناصر موقفه من المشكلة وفق النقاط التالية: 1-ان ج ع م تؤمن بأن العلاقات بين الشعوب العربية لا تحكمها معاهدات او اتفاقيات قديمة او حديثه.. 2-ان حركة الشعوب العربية في الوحدة، يجب ان لا تكون على النموذج التقليدي الذي ساد اوربا قبل الحرب العالمية الثانية وقاد اليها بسبب التمسك بالمطالب الاقليمية القائمة على نصوص معاهدات قديمة، ولذلك فإنه لا يمكن قبول الضم وان كان من الممكن تأييد منطق الوحدة الشاملة.. 3-ان العراق والكويت يملكان الكثير من اسباب الدعوة الى الوحدة بينهما، بما هو اعمق وابقى من وثائق الامبراطورية العثمانية.. 4-ان ج ع م تفرق بين الضم الذي يريده عبدالكريم قاسم(والدكتاتور حالياً) وهو ما ينبغي رفضه وبين الاجماع الشعبـي المقام على اساس الوحدة والاختيار الحر وهو ما ينبغي احترامه.. (الكويت وجودا وحدودا- ط1-1991- مصر ص102-103) والموقف الناصري هذا، مازال صالحا لأن يكون قاعدة متينة لعلاقات مستقبلية سليمة بين الشعبين الشقيقين، قائمة على الاخوة القومية واحترام ارادة الشعوب.. واذا كان ثمة مشكلات بين الدولتين-بما فيها المنفذ البحري للعراق والحدود-فإن الحوار على اساس هذه الاخوة واحترام الارادات، وبعيدا عن معطف "سايكس بيكو" ومشاريع كوكس، كفيل بحل اية مشكلة، ومهما كانت مستعصية.. رؤية ناصرية للقضية العراقية 7 - عبد الستار الجميلي حزب ( حليحل ).. بين عامي 1971 و 1972، كنا مجموعات سياسية كثيرة.. ناصريين وبعثيين، شيوعيين واسلاميين، واكراد.. الخ، جاءت بنا أقبية الدكتاتورية الى موقف "الفضيلية" في بغداد.. وموقف "الفضيلية" هذا، كان "استراحة" يقضي فيها المعتقلون السياسيون "عطلة قصيرة" او طويلة (حسب الموقف)، بعد أشهر او سنوات، يتنقلون فيها بين "قصر النهاية" او "مديرية الأمن العامة" او "قصور ومديريات الأمن" في المحافظات والاقضية والنواحي والقرى والارياف، حيث التعذيب الذي كان يتلذذ به "متوحشون" الى حدّ المتعة، ويشتهونه الى حدّ "الموت".. وكانت "عطلة" الفضيلية، هي الاخرى، "طقسا" تمارسه الدكتاتورية -بتشويق وتشفي- قبل ان يُساق المعتقلون الى اقرب الأجلين، الموت او سجن "أبي غريب" لذلك كان موقف "الفضيلية" فرصتنا المتاحة بقدر، لكي نتعامل ونتحاور "انسانيا" بعد العناء "الخاص" لكل واحد منّا. وكانت عوامل الاقتراب بيننا كثيرة.. من المعاناة المشتركة في مواجهة قمع السلطة، الى الالعاب والنكات السرية التي كنا "نخترعها" قتلا للفراغ وخلاصا من أرق نهاية "العطلة" الى البحث عن أي منفذ يصل بنا الى العالم الآخر خلف القضبان.. لكن "لغة" التقرب والاقتراب تلك، سرعان ما تتعطل دون سابق إنذار، حين نتحاور "سياسيا" فجأة، يستيقظ في دواخلنا ذلك "الوحش" المعمِّر منذ آلاف السنين.. يشحذ كل قوى "الخوف الجماعي"، لينقضَّ على "الآخر" ويلغيه.. "أنا" ولا "آخر".. تلك كانت "ابجديتنا" السياسية الأحادية، التي عطلت فينا ومن حولنا "جدل الحياة" الذي كنا "نتزاود" في رفعه "طوطماً" مقدسا على ابواب "تنظيماتنا/ خاصتنا السياسية". ليتسلل من خلالها وبعد سنوات، كل ذلك "الحصاد" الذي نجمع حاصله اليوم. لكن، من داخل ذلك "الاقتراب" المعطل في موقف "الفضيلية" واجهتنا حالة "غريبة".. وكان مصدر غرابتها، انها جاءت من خارج "لزوميات" ابجديتنا تلك.. لذلك كان "موقفنا" منها "موحدا" لأول مرة. كان هناك من بين المعتقلين مواطن عراقي، لم اتمكن الا من معرفة وحفظ اسمه الأول.. "حليحل".. جاء ومعه مجموعته الصغيرة.. وبعد ساعات او يوم من مجيئه، تحول الرجل الى "موضوع" للتندر والسخرية والضحك منه وعليه، في السرّ او العلن.. لماذا..؟ لأن الرجل –ببساطة- قام بتشكيل حزب عراقي جديد.. طيب.. وما المضحك في هذا..؟ وأحزابنا "العراقية" كثيرة، خصوصا داخل التيار الواحد.. ان المضحك من وجهة نظر "ابجديتنا" هو في اسم الحزب.. ولكن، كيف يكون الاسم مصدرا للضحك..؟.. ان المضحك في الامر، هو في مضمون الاسم.. لقد أطلق الرجل على حزبه اسم "الحزب القومي الماركسي الاسلامي".. تصوروا!!؟.. وما ان تلفظ الرجل ذلك الاسم -وربما قبل ان يكمل- حتى انطلقت بين ارجاء "استراحة" الفضيلية، صيحات مكتومة اول الامر، من السخرية والاستهجان والاحتجاج.. تحولت الصيحات الى ابتسامات على حياء، وبعدها الى ضحكات وقهقهات، لقتل ارق نهاية "العطلة".. وفي النهاية، صار "حزب حليحل" مثلا من التراث، نطلقه في وجه "الآخر" حين نريد ان نسخر منه ونستهين بجهده ورأيه. لكن "حليحل" لم يسكت امام السخرية التي واجهناه بها جميعا. صبر علينا قليلا او كثيرا.. وحاورنا بمنطق بسيط. * قال حليحل: .. من خلال قراءاتي البسيطة وتجربتي المتواضعة، ومعايشتي للاحداث السياسية في العراق والوطن العربي، وجدت ان هناك ثلاث تيارات سياسية اساسية، هي وراء ما نشهده من "مشكلات" و"مصائب" و"تخلف" و"دم" مهدور مسفوح على الدوام.. وهذه التيارات، هي التيار القومي والتيار الماركسي والتيار الاسلامي، المشغولة منذ ما يزيد على خمسين عاما بقتل "بعضها الآخر" واهدار دم "بعضها المتبقي"، اكثر من أي شغل آخر.. فلو اجرينا مقارنة بسيطة -في العراق مثلا- بين عدد الذين قتلوا بيد "الاستعمار"، وبين عدد الذين قتلوا في حرب "الاخوة الاعداء" بين ابناء الوطن الواحد، لأُصبنا بالصدمة وبعدها بالسكتة.. فقتلى وشهداء حرب "الاخوة الاعداء" أضعاف مضاعفة، حتى بين "رفاق" التيار الواحد.. لذلك-والكلام لحليحل- قررت جمع هذه التيارات الثلاثة في حزب واحد.. لعلي اساهم في خروجنا جميعا كمواطنين من مسلسل "الدم" الذي لا ينتهي.. منطق بسيط، فيه من الواقعية الشيء الكثير، ومؤشر لبداية "وعي" جديد.. لكنه كان وفق "الجدل التاريخي" لسياق "المنطق الثوري" لأبجديتنا "الواحدة والوحيدة"، منطقا "ساخرا"، لأنه يجمع بين "متناقضات" و يتجاوز "الملكية الخاصة لكل تيار" ويكفر "بالمرجعية الطوطمية المقدسة لكل تنظيم سياسي" ويتجرأ على "المستقرات المستقبلية".. دفع الرجل حياته ثمنا مع المجموعة الصغيرة، التي استطاع ان يقنعها "بمنطقه البسيط"، حيث اعدم "حليحل" مع مجموعته، لأنه كان -في نفس الوقت- منتميا "لحزب" السلطة بدرجة رفيق، وتعليمات الدكتاتورية كانت قد قررت اعدام أي شخص يعمل في "حزبها" اذا ما تبين انتمائه لحزب آخر.. او كما يسمونه "خط مائل".. ولم يذكره ويتذكره أحد.. الا حينما نسخر من "الآخر".. "حزب حليحل"، صار مثلا للاستهانة "بالآخر" والغاء دوره.. "لكن حليحل" بدأ يطرق "وعيي" منذ سنوات طويلة.. صار "الوعي" به اكثر الحاحا مع التطورات المتسارعة بعد جريمة 2/آب/1990، فحاولتُ ان اطور "وعيي" بحليحل وحزبه، باتجاه قراءة جديدة لهما من زاويتين.. *الأولى/ وعي ذلك "المواطن البسيط"، الذي حول معاناته وانفعالاته بما حوله -وطنيا وقوميا- الى"وعي" جديد باتجاه "الافق الديمقراطي" وان لم يسمه.. لكنه كان "كامناً" في وعي الحاجة الى عالم جديد، لا يكون فيه "للدم" كل ذلك الحيز الواسع الذي احتله في تاريخنا وحياتنا، الى الحد الذي صار فيه مرأى "الدم" منظرا عاديا لا يحرك فينا اية حساسية انسانية. *الثانية/ وعينا "نحن"، المعتقلون السياسيون، الذين كنا نواجه "هول" الدكتاتورية، فمع انها (أي الدكتاتورية) كانت تقمعنا وفقا "لمخطط منظم واحد"، الا اننا كنا -جميعا- مشغولين بـ"الأنا" الخاصة، التي وصلت "نرجسيتها" في رفض "الآخر" الى السخرية حتى من مجرد "فكرة" قبوله، ولو على مستوى الاسماء.. كان كل واحد منا يحمل في داخله "دكتاتورية" اخرى، وقد نُظم كل شيء في حياتنا لخدمة "مشروعها" الكامن.. من "الايديولوجيا" الى "الوعي" الى "التنظيم"، والى.. حتى علاقات الحياة اليومية.. وكانت "مشاعرنا" مستنفرة لتحيّن "فرصة" تحققها على الواقع، عند اول "ضربة حظ" تتاح لنا بانقلاب عسكري مفاجئ نحتل به "القصر الجمهوري" و"كرسيه الساحر"، ليعلن "احدنا" نفسه "قائداً ورمزاً" للمراحل السابقة واللاحقة والى يوم الدين، او بالتحالف "التكتيكي" المؤقت –اذا لم نكن نملك القوة- مع "الآخر" عدونا اللدود، لنضربه بعد اسبوع من "القاء القبض" على السلطة وفق "خطة تاريخية حكيمة".. هكذا تتكلم ابجديتنا "الواحدة والوحيدة".. حلقات متواصلة من "الدكتاتورية" و"الدكتاتورية الاخرى"، ودوائر "دم" تلد اخرى، وافكار جميلة تتحول مع الممارسة "الاحادية" الى كوابيس.. من ديمقراطية "تحالف قوى الشعب العامل" ودكتاتورية "البروليتاريا"، الى دكتاتورية ووحدانية (الأمين العام).. ومن "سيادة الشعب" و"مصالح الكافة وضرورات الحياة الخمس"، الى دكتاتورية ووحشية وعصمة وتأليه الحاكم و حاشيته المبجلة.. لكننا -ابدا- لم نستطع يوما تطوير افقنا العقلي واطارنا الثقافي، لتجاوز "المشروع الدكتاتوري الكامن"، الى "مشروع وطني عام" نقبل ونؤمن من خلاله "بضرورة" الآخر، ونلتقي على ارضيته "جميعا" لتأسيس آلية ديمقراطية نخضع من خلالها لحكم "الشعب" الذي ملأنا "بسيادته" دساتيرنا الحاضرة و"المؤمّلة".. لذلك كله، كان من السهل على السلطة -أية سلطة- وقد قبضت على مركز القوة والثروة، ان "تقمعنا" فرادى او جماعات، مادامت السلطة صارت "هدفا" لذاته، نسعى اليه "جميعا" وبأية وسيلة.. والدكتاتورية تحولت الى "فلسفة ومشروع حياة" نعمل جاهدين لتنظيم حياتنا وفقا لها، داخل السلطة اوخارجها.. وكان "حصادنا" مريراً، داميا، ومرعبا.. بدأنا -ومنذ وقت مبكر- ندفع الكثير ثمنا له، من حياتنا ومستقبلنا.. ولكننا مع ذلك كله، لم نتعظ.. لا زال "الاطار الثقافي الايديولوجي" الضيق، و "الافق العقلي الملغي" الاضيق.. هما معا العنصر الغالب في حياتنا.. وكلما حاولنا تجاوزه في جانب، برز الينا من جانب آخر.. ظهر ذلك ويظهر في محاولاتنا المتكررة -في اطار المعارضة العراقية- لتجاوز ذلك التراث "الدكتاتوري" في بنية وعينا السياسي الذي "تمرّس" على فنون إلغاء الآخر، والوصول الى "مشروع وطني عام" يعيد "الاعتبار" و"المشروعية" لمفاهيم مثل الانسان والمجتمع، والوطن، والدولة، والسلطة والحزب، يكون فيها الانسان، هو "الصانع" لهذه المفردات، وغايتها تحقيق حاجاتها المادية والمعنوية، اليومية منها والمستقبلية.. لا أن يكون "وقودها" و "ضحيتها"، كما كانت في كل المراحل والأزمنة، وكما هي الآن. ان "حزب حليحل" ذلك الذي حولناه الى موضوع للسخرية وفق منطق "ابجدية" جهلنا المطبق يدق علينا ابواب الخطر من جديد".. ويطرح نفسه بالحاح اكثر من أي وقت مضى، لا كإسمٍ لحزب جديد، يضاف الى قائمة الاسماء الموجودة، لكنه يطرح نفسه، كفكرة واقعية عملية لإطار وطني جامع، تلتقي في رحابه كل التيارات والمكونات القومية والسياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية والثقافية، على مشروع وطني عام يؤسس دولة حديثة على اساس قيم المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن ذلك يحتاج قبل كل شيء الى اسقاط الدكتاتورية داخل "انفسنا" اولا.. حين ذلك فقط تنفتح الطرق -موضوعيا- امام ازالة الدكتاتورية الجاثمة على صدر شعبنا. رحم الله "حليحل" واخوانه الشجعان، الذين استشهدوا وهم يقاتلون الدكتاتورية، "بوعي" متقدم على كل الذين سخروا منهم.. وآن الاوان ، لان نعيد الاعتبار "لحليحل" واخوانه، بأن نسخر"نحن" مما كنا فيه.. ونفتح ابواب "عقولنا" لانسانية الانسان وكرامته وحقوقه، وحاجاته المادية والمعنوية.. وهذا هو المقياس الموضوعي الوحيد "لجدية" أي فكر، و"مشروعية" أي نظام.. رؤية ناصرية للقضية العراقية 8 - عبد الستار الجميلي عبدالناصر_ الطالباني.. ما احوجنا اليوم لتلك العلاقة مع اقتراب الذكرى الثالثة والثمانين لميلاد جمال عبد الناصر، في السادس عشر من شهر كانون الثاني الماضي، كانت قد تجمعت في ذاكرتي ملامح مقالة عن دلالة الذكرى والرجل.. دلالتهما في مسيرة الامة العربية خلال القرن العشرين، ثم دلالتهما بالنسبة للمستقبل.. لكن الاخ مام جلال الطالباني، كما عهدناه دائما، كان سباقا في الوفاء، لرموز الوفاء، في عصر بات فيه الوفاء قيمة نادرة.. فقدم لنا من خلال مقالته المنشورة على حلقتين في جريدة الاتحاد الغراء بعدديها (354،355) احياءً لهذه الذكرى العطرة (ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر)، قدم لنا وثيقة هامة لها دلالتها الكبيرة بالنسبة للمستقبل، خصوصا مايتعلق منها بواحد من اهم اسباب التأزم في القضية العراقية.. القضية الكردية. وكان مام جلال في كلتا الحالتين.. الوفاء والوثيقة.. يقدم لنا نموذجا متأصلا للمبادئ التي ينعى وينظر الكثيرون لموتها هذه الايام، وفي وقت شهدت فيه الساحة العربية ردة كاملة عن كل ماكان يمثله جمال عبدالناصر من قيم ومبادئ ومُثل سياسية واخلاقية، حتى ممن كانوا محسوبين على عبدالناصر والناصرية، في الطليعة من حملة الشعارات، يوم كانت الناصرية تدر الشهرة والموارد بأنواعها في حياة عبدالناصر، والى فترة من الزمن كانت الناصرية فيه فاعلة، في مصر وغيرها من الاقطار العربية، بعد رحيل عبدالناصر.. اما الآن وقد انتقلت الناصرية الى موقف المعارضة في كل الساحات العربية، بما فيها مصر والاقطار التي طرحت نفسها في يوم ما استمرارا لمبادئ عبدالناصر، فإن اعدادا ليست قليلة من ناصريي الأمس، قد اعطت ظهرها للناصرية بعد ان انتفت فيها المصالح الخاصة ولم يتبق الا النضال السري وحده.. وما اصعبه..! وكان على هذه القوى ان تبرر.. وكانت المبررات كثير: منها، إن الناصرية كانت جزءا من مرحلة قد انتهت، وتناست ان التاريخ حركة تراكمات مستمرة، لذلك فإن مراحل التاريخ لا تنقطع ولاتنتهي.. ومنها، ان الناصرية بحاجة الى المراجعة وفق المتغيرات، وتناست هذه القوى ان المراجعة شيء والتراجع شيء آخر. المراجعة تقدم الى الامام، والتراجع تقدم الى الخلف.. ومنها، ان القومية فات اوانها وان نموذج عبدالناصر القومي لم يعد له وجود في عالم "العولمة وقيمها الليبرالية"، وتناست تلك القوى، ان عالم المتقدمين الذي يحاججوننا بعولمته وقيمه الليبرالية، لم يصل الى ما وصل اليه من تقدم وحضارة الا بعد ان حقق دولته القومية، لتصبح القومية سمة حضارية تجاوز فيها المتقدمون، نمط وقيم العلاقات الاسرية والقبلية، التي مازالت هي السائدة في عالم المتخلفين (وهم منه).. ومنها، ان عبد الناصر لا يتلاءم مع عصر الديمقراطية، ويتناسون ان الظرف التاريخي الذي جاء فيه عبد الناصر كانت الاولوية فيه تعطى لمشكلات التحرر الوطني في بلدان محتلة بالكامل من استعمار تقليدي مباشر، وسيطرة مطلقة للاقطاعيين والرأسماليين على مقدرات الشعوب، وبالتالي على لعبة الديمقراطية، التي لم ترتبط بحضارة العصر وقيمه الليبرالية الا بالاسم فقط. لذلك فإن المقياس الموضوعي في عصر عبد الناصر، للترجيح في شأن الديمقراطية هو الوقوف مع الشعب (اغلبية الشعب) والنظر الى مشكلة الديمقراطية على ضوء معاناته والبحث عن حلها في ضوء احتياجاته، بدون انكار او تنكر للجوانب الاخرى من مشكلة الديمقراطية كما تعانيها القلة الممتازة، لأن الديمقراطية نظام لحكم الشعوب وليست نظاما لطموح القلة في الحكم. لكن مام جلال، الذي اخذ موقعه-وعن جدارة- كقيادة قومية كردية ومرجعية وطنية عراقية للعرب والاكراد معا، وعلى الضد من تلك التبريرات كلها، قدم لنا من خلال هذه المقالة، نموذجا للوفاء افتقرت اليه ساحتنا العربية المشغولة منذ السبعينات والى الآن بجلد الذات والتنظير للآخر، كما قدم لنا دروسا مستخلصة من التجربة، ما احوجنا اليها اليوم، في مرحلة يتداعى فيها كل شيء وينهار في واقعنا وحتى في وعينا، مما يستدعي التدخل الايجابي في اعادة تشكيل صورة المستقبل كما نريده-افرادا وشعوبا- لا كما يريدونه لنا.. وفي هذا الاطار، فإننا سنحاول هنا تقديم قراءة تأسيسية للمقالة-الوثيقة، للامساك بما نزعم انه يؤسس "موقفا ناصريا" للقضية الكردية، ببعديه، النظري (رؤية المشكلة) والعملي (المساهمة في حل المشكلة). وبعد اختراق قشرة النص، الذي يوحي ظاهره بأنه ذكريات كردية (عاطفية) عن الرئيس الخالد جمال عبدالناصر، الذي ربطته مع منتج النص (مام جلال)، "على المستوى الشخصي علاقات نضالية، اسهمت في اظهار الحركة القومية الكردية على حقيقتها وبوجهها الحقيقي للعديد من الناصريين والقوميين العرب". (نلاحظ هنا ان دلالة لفظة "العديد" تشي بعتب خفي خاص وربما مرارة من مواقف البعض الآخر من الناصريين والقوميين العرب). نقول بعد اختراق ظاهر النص، فإننا نجد الكثير من المفردات المنبثة في سياق المقالة ومنتظم اسطرها اللغوي. وحين نحاول-عبر القراءة التأسيسية- اعادة تركيب هذه المفردات بنائيا، سنكتشف اننا امام "موقف ناصري" من القضية الكردية متقدم كثيرا قياسا الى مواقف جيل "الديمقراطية وحقوق الانسان" الحالي. وعلى مستوى المفردات، فإنه يمكن جمعها بالمؤشرات السوسيولوجية والدلالات الألسنية التالية: 1- ان الحركة القومية العربية بسعتها وشمولها بامكانها ان تستوعب كل مطاليب الاقليات القومية الموجودة في الوطن العربي وان تجد لمشاكلها حلولا سلمية (طالب شبيب نقلا عن عبدالناصر، في كتابه من حوار الدم الى حوار المفاهيم. ص250 المعتمد كمصدر للمقال). 2- ظل عبدالناصر مع كل ما وقع من تقلبات حريصا على ان يظل العراق متمسكا في وطنيته وموحدا وظل يسعى بكل ايمانه ليكون هناك وفاق عربي كردي فيه، ولكن ظل يؤيد حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه، بل وعندما عادت الصراعات تنفجر دامية في العراق ظل يعمل للوفاق الوطني والقومي فيه وعندما قام اتفاق السلام بين الاكراد والبعث في 11 آذار/1970 على اساس الاعتراف بمبدأ وجود قومية كردية وحقها في ان يكون لها حكمها الذاتي او استقلالها الاداري في كردستان العراق وقف عبدالناصر دافعا اليه ومؤيدا. (جمال الاتاسي-نقل عنه منذر الموصلي في كتابه العرب والاكراد ص38-39 والمعتمد كمصدر للمقال). 3-ان تفهم عبدالناصر للقضية الكردية وعدالتها استنادا الى اقراره بوجود شعب كردي ومايترتب على ذلك من حقوق دفعه الى الموافقة على تصور مام جلال الذي قدمه خلال مباحثات الوحدة سنة 1963 بين كل من مصر وسوريا والعراق، وهو تصور تجاوز المسائل المبدئية والقضايا النظرية الى الحلول العملية، حيث اكد مام جلال على التصور التالي "اذا كنتم بصدد اقامة اتحاد جمهوريات كصيغة للوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا، فإن مطالبنا كوطنيين اكراد تبقى كما هي، اي ان يكون لنا حكمنا الذاتي في المناطق الكردية في اطار الوحدة الثلاثية، اما اذا كنتم ستقيمونها جمهورية واحدة متحدة، فنحن نريد لوتصبح المنطقة الكردية اقليما رابعا بين اقاليم هذه الجمهورية". "ولقد كان عبدالناصر-كما يقول جمال الاتاسي- كما علمت مرتاحا لمثل هذا الطرح لما فيه من تطلعات استراتيجية ومنظور مستقبلي يتفق مع تطلعاته ومنظوره" اللتين لم تعترض المسألة الكردية سبيلهما في أي شيء (جمال الاتاسي- المصدر السابق). 4- ان هذا الموقف المتفهم من عبدالناصر-كممثل اصيل للتيار القومي العربي-قد سبقته في الواقع علاقات سياسية بين الحركة القومية الكردية، وفي المقدمة منها مام جلال، و "ج ع م" وشخص الرئيس عبدالناصر، الذي سمح وبناءً على اقتراح قدمه الاخ الطالباني بفتح مكتب للثورة الكردية في القاهرة، كعنوان للعلاقة بين القومية العربية والقومية الكردية، التي اثبتت حضورا مساندا للشعب العربي في مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956. كما امر عبد الناصر بفتح اذاعة كردية في عام 1957، وكانت اذاعة فعالة ومسموعة من الجماهير الكردية ولعبت دورا هاما في اذكاء الشعور الوطني الكردي وتعزيز الاخوة العربية الكردية. كما وافق عبدالناصر على استقبال وفد كردي عام 1957 للتنسيق النضالي مع مصر، كما استقبل عام 1958 وفدا كرديا رفيع المستوى برئاسة المرحوم مصطفى البارزاني. وكان سبق هذه العلاقة (من حيث الجذور التاريخية) ان الازهر الشريف خصص ومنذ عهود رواقا للاكراد تخرج فيه الكثير من العلماء الاكراد، وفي القاهرة صدرت في نيسان 1898 الجريدة الكردية الاولى باسم كردستان وباللغتين التركية والكردية. (مقالة مام جلال وكلمته في الحوار العربي-الكردي المنعقد في القاهرة سنة 1998، والذي جمع وثائقه الاخ عدنان المفتي في كتابه القيم "الحوار العربي- الكردي" الصادر من مكتبة مدبولي في القاهرة). من هذه المؤشرات والدلالات نخرج بموقف ناصري من القضية الكردية مؤسس على عنصرين يفضي احدهما الى الآخر، في اطار الموقف القومي الانساني الذي شكل فكر عبدالناصر وحركته: اولهما/ الجانب النظري (الموقف من المشكلة): ان موقف الحركة القومية العربية التقدمية، وفي مقدمتها التيار الناصري الاصيل الذي مثله عبدالناصر، كان ولايزال الى جانب الاقرار بوجود شعب كردي وما يترتب على ذلك من حقوق، وفي مقدمتها حق الشعب الكردي في تقرير المصير، استنادا الى ان الشعب الكردي- كشقيقه الشعب العربي- يكون امة مكتملة التكوين على الرغم من مظاهر الفرقة والانقسام. لذلك فإن الموقف الناصري ليس مع اية حلول عسكرية وادارية، وعلى الضد تماما من كل سياسات القمع والتطهير العرقي والابادة الجماعية (الجينوسايد) التي مارسها ويمارسها النظام الديكتاتوري في العراق ضد الشعب الكردي. ثانيهما/ الجانب العملي (حل المشكلة): ان الموقف الناصري تجاوز الموقف النظري الذي يكون قابلا للمناورة من خلال النصوص التي تحتمل التأويل عادة، تجاوزه الى الحلول العملية، التي تمثلت بالموافقة على "الحكم الذاتي"في حالة الاتحاد بين الدول العربية، و"الاقليم الفيدرالي" في حالة الوحدة الاندماجية بين الدول العربية، بناءً على التصور الذي قدمه مام جلال، وارتاح له ووافق عليه عبدالناصر. لذلك فإن الموقف الناصري الاصيل-الممسك بجوهر الناصرية وأفقها المفتوح دائما الى المستقبل- وبعد ان تطورت القضية الكردية على الارض منذ الستينات وحتى نهاية القرن الماضي، هو مع الفيدرالية الكردية كما طرحها البرلمان الكردي، كمظهر من مظاهر تعبير الشعب الكردي عن حقه المشروع في تقرير المصير. ودلالة ذلك الموقف الناصري من القضية الكردية، يبرز واضحا في التناقض بين الامس واليوم. تناقض نلمسه في التعامل الايجابي للحركة القومية العربية التقدمية وهي في ذروة مدها الناصري في الستينات، مع اطروحة الفيدرالية الكردية، ولم تر فيها فكرة مستوردة من(اعداء العراق والامة العربية) او خطورة عليهما، كما يدعي اصحاب "المصلحة الوطنية والقومية". وهذا يعني بوضوح، ان الموقف الناصري من القضية الكردية في ستينات القرن الماضي، كان اكثر تقدما وجذرية وانسانية بكثير من مواقف اصحاب قرن الألف الثالث للميلاد، قرن الديمقراطية وحقوق الانسان كما يقولون.. وهو مايعني ايضا، ان الموقف الناصري يتطلب ان يوازيه تفهما واعيا من الشعب الكردي لحقيقة الحركة القومية العربية، التي لايمكن ان تشوهها ممارسات النظام الديكتاتوري الذي يدعي زورا انتماءه الى هذه الحركة، ويتطلب ايضا التمييز بين الحركة القومية العربية التقدمية وبين الانحرافات الفاشية والعنصرية والديكتاتورية داخل هذه الحركة. لقد قدم لنا مام جلال الطالباني من خلال مقالته الهامة، مبادئ اصيلة، مازالت صالحة لأن تعيد انتاج العلاقة ما بين الحركة القومية العربية التقدمية والحركة القومية الكردية، انسانيا ونضاليا، في فضاء جديد منحاز للانسان وحريته وكرامته، ضد كل انواع القمع والتطهير العرقي والابادة الجماعية. - يتبع - |
الناصرية
رؤية ناصرية للقضية العراقية 9 - عبد الستار الجميلي وجهة نظر عربية ناصرية في قضية حساسة انعكاسات السلام الاسرائيلي- السوري على القضية العراقية.. رؤية للمتوقع والمحتمل مع بداية الألف الثالث للميلاد, يبدو المجتمع الدولي مصمما على وضع نهاية لقرن كامل من الصراع العربي-الصهيوني، الذي شكل بفصوله الدامية واقداره المتصادمة، واحدا من اخطر تحديات القرن العشرين التي واجهت العالم ومنظماته وقوانينه، وربما مستقبله ايضا.. فقد شهدت الايام الاخيرة مفاوضات مباشرة بين "اسرائيل" والحلقة الاخيرة من الانظمة العربية، التي كانت تشكل -بحسب موقعها السياسي او الجغرافي او الاقتصادي-دول المواجهة, او المساندة منذ سنة 1948, تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني وحتى حرب تشرين/1973. وكل المؤشرات تؤكد بأن التوقيع على معاهدة السلام الاسرائيلية-السورية، اقرب من كل التوقعات.. وبالتالي، فإن ستارا من الأمل أو الفجيعة (حسب زاوية النظر) سوف يسدل على مشاهد كثيرة، كانت والى وقت قريب، جزءًا من التاريخ الشخصي لأجيال كثيرة، لتبدأ مرحلة جديدة، ستلقي بظلالها على كل شيء في المنطقة العربية، والشرق الاوسط، والعالم كله.. وسيكون العراق، واحدا من المواقع التي ستطالها تلك الظلال، سلبا او ايجابا، لا لأنه قريب مكانيا من اطراف الصراع بحكم الجغرافيا والتاريخ، بل لأنه ببساطة، كان يشغل- ولايزال- حيزا رئيسيا من مقدمة جدول اولوية المفاوضات، حتى من قبل ان تدخل مرحلة العلن، بعد ان توحدت لعنة الاقتصاد والاستراتيجيا، بلعنة الحكام المصابين بلوثة الدونية وذهان الدم، لتصنع بعد ذلك مأزق القضية الوطنية العراقية الممزقة بين حساسيات وحسابات وشراهة النظام الدولي والاقليمي والعربي.. لذلك فإن محاولة التعرف على ما ستؤول اليه مشاهد هذه الظلال على الساحة العراقية، تصبح امرا مشروعا، ونحن نكاد ان نختنق في عنق الزجاجة، الذي تحول فيما يبدو الى حبل ملفوف حول اعناقنا، كلما غاص عميقا في اللحم، والتقادم المصاب بلعنة الزمان هو الآخر.. إستدراك لابد منه ولابد ان نستدرك، بأننا لا نبحث هنا عن موقف للشعب العراقي من السلام القادم.. فالسلام الذي بدأ منذ حرب تشرين/1973، لاعلاقة تربطه بالشعوب من ناحيتين: الاولى: ان السلام كان ولايزال، صناعة "قمم".. ولاعلاقة للشعوب به، إلا من زاوية الواجب الذي يفرض عليها ان تقدم الضحايا والتضحيات في معارك الحرب والسلام معا.. وذلك هو قدرها.. اما الحقوق فهي مؤجلة، أو تلك مسألة اخرى..؟ الثانية: ان عملية السلام المسلحة بكل طاقات العولمة، الكائنة والمحتملة، قد تحركت.. ولا قبل لأي شعب في مواجهتها، فضلا عن ان رفض او قبول الشعوب"لاقيمة له" من اية زاوية تنظر.. لذلك فإن البحث عن موقف للشعب العراقي من السلام لايعنينا ولا يعيننا في شيء.. لكنّا نبحث هنا عن ظلال السلام المتوقعة والمحتملة على القضية العراقية. كيف ستكون..؟ وما هو السيناريو الأكثر احتمالا لمستقبل العراق في ظل مرحلة السلام الاسرائيلي-الامريكي- العربي..؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة وغيرها، ليست مسألة سهلة، في ظل المتغيرات المتسارعة، وعواصف الانترنيت, التي تحمل كل يوم, بل كل ساعة ودقيقة الجديد في المواقف, وسيول من الكلمات التي تكاد ان تضيف بذاتها, مشكلة جديدة الى جانب مشكلة الصفرين التي برزت على شاشات كومبيوتر 2000, لكننا سنحاول اجتياز صعوبات المرحلة بحذر شديد, لعلنا نمسك بالخيط الاساسي الذي يساعدنا في تقديم قراءة قريبة من الواقع وصوره المحتملة.. الخطوة الاولى: الخطوة الاولى التي نتصور انها ستعيننا في تلمس طريقنا, هي ان القضية العراقية, لم تعد شأنا يهم العراقيين وحدهم, كما دأبت الكثير من القوى- داخليا وخارجيا- على التصريح بذلك عند كل مناسبة واخرى, وهي اكثر ادراكا من غيرها بهذه الحقيقة.. لكن للتصريح اهدافه التي تكاد ان تقول خذوني..!؟.. لقد اصبحت القضية العراقية, في صميم اولويات الكثير من الاطراف, دوليا, واقليميا, وعربيا.. ولكل طرف اسبابه واهدافه وحساباته.. وتأتي الولايات المتحدة الامريكية, في مقدمة هذه الاطراف واكثرها تأثيرا وحسما في سير الحوادث والمواقف.. والواقع ان الولايات المتحدة الامريكية, لم تكن بعيدة عن مسرح الحوادث وتطورها في العراق, منذ ان بدأ النفط يأخذ دوره المركزي في دورة الارض الاقتصادية المعاصرة.. وبدون ان نتعمق في الجذور التاريخية لما هو حاصل الان, يكفي ان نذكر ان الاستراتيجية الامريكية في المنطقة العربية- والعراق منها- كانت تحكمها ولا زالت- وان اختلف الخطاب وتغيرت الاساليب- عدة محاور.. الا ان الأهم في تلك المحاور, نقطتان جوهريتان, متداخلتان مع بعض, هما: الاولى: المصالح الاقتصادية/ وهي كثيرة.. لكن النفط, كسلعة استراتيجية وفق منظور الآلة الاقتصادية الرأسمالية, يبقى هو الأهم.. والمنطقة العربية- ومن ضمنها العراق- تمتلك اكبر المخزونات والاحتياطات النفطية في العالم. لذلك فإن الولايات المتحدة الامريكية (والمعسكر الغربي معها) معنية بهذه المنطقة ومستقبلها بهذا الشكل او ذاك.. أليست المنطقة العربية-والعراق منها- خزان امريكا النفطي, ومحطة وقود لآلتها المتحركة, غير القابلة على التوقف على الاطلاق..؟ الثانية: المصالح الامنية وتأسيسها على المصالح الاقتصادية.. فإن امن الولايات المتحدة الامريكية (والمعسكر الغربي معها) كدولة كبرى, يتجاوز حتى في حالة الدفاع, حدودها الدولية الى العالم كله.. انها قوانين الآلة الرأسمالية الصارمة.. والمنطقة العربية- بما فيها العراق- تمثل واحدة من اخطر عقد الاستراتيجيا, بالنسبة للموازنة الدولية في كافة ابعادها, ولا فرق في ذلك بين ان تكون المراحل ساخنة, او باردة, او محسومة لصالح العولمة الغربية.. لذلك فإن "اسرائيل"- كقاعدة اختراق متقدمة للمعسكر الغربي في هذه المنطقة الحساسة- وامنها, هما جزء من الامن القومي الامريكي والغربي كله, على اعتبار ان "اسرائيل" تمثل, الى جانب كونها وعدا إلهيا لليهود, وفقا لاساطيرهم المدونة في التوراة والتي ايقضتها الصهيونية مع هيرتزل من جديد, تمثل جزءا رئيسيا من المشروع الرأسمالي الغربي-وامريكا في مقدمته- لترتيب اوضاع العالم ما بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية.. في اطار هاتين النقطتين, يمكن فهم الموقف الامريكي من القضية العراقية, والتعقيد الحاصل فيها كنتيجة مباشرة لهذا الموقف, وبالتالي تصور الانعكاسات المحتملة للسلام الاسرائيلي- السوري, الذي فتحت امامه كل الابواب.. التقدم.. خطوات وحتى نتقدم خطوات مطلوبة في هذا الفهم لابد ان نذكر ونتذكر ان علاقة امريكا بالعراق وما يدور فيه قبل 2/آب/ 1990, كانت غير مباشرة او بالأصح غير معلنة.. لكن الامر اختلف بعد ذلك تماما.. ففي فجر ذلك اليوم بدأ التدخل الامريكي المباشر والمعلن في العراق ومستقبله, ميدانيا على الارض بعد ان وفر النظام الدكتاتوري بغزوه الكويت الشقيقة، الفرصة التاريخية لذلك كله.. ولقد تصور الكثيرون، وفي مقدمتهم الشعب العراقي-بناء على حجم التدخل ونوعه والظروف التي احاطت به- ان تغيير النظام العراقي بات مسألة وقت ليس الا.. حيث شهدت المرحلة ما بعد تحرير الكويت وقمع انتفاضة الشعب العراقي في آذار/1991, التزاما امريكيا معلنا بانهاء معاناة الشعب العراقي عن طريق دعم المعارضة, وبما يحقق الاطاحة بالنظام. وقد شهدت العواصم العربية والعالمية فعلا, الاجتماعات تلو الاجتماعات واعلنت كل السنوات تقريبا سنوات حسم مرتقبة.. وكان الشعب العراقي اكثر الاطراف انتظارا لساعة الحسم, فالعقد الاخير من القرن العشرين قد اضاف الى معاناة القمع الديكتاتوري معاناة اخرى هي معاناة الحصار الاقتصادي, الذي وصل بالاكثرية الى حافات المجاعة والكوارث الانسانية الكبرى.. لكن الذي حصل ان التغيير المنشود لم يحدث.. فها هي عشر سنوات كاملة على وشك ان تنقضي ولازالت الدكتاتورية تمارس قتلها المنظم للشعب بأكمله, وسط حشد هائل من الوعود والتصريحات والمشاريع, التي اطلقتها وتطلقها امريكا ودول اخرى في المجتمع الدولي.. مما يفتح المجال واسعا امام طرح مجموعة من الاسئلة المشروعة التي تعبر في جانب كبير منها عن حجم الشكوك المتزايدة حول تطورات الازمة العراقية و"مستحيلاتها" التي طفت على السطح مؤخرا, كمؤشر واضح على حالة الاحباط الحادة التي اصيبت بها اعداد كثيرة من الاطراف، يأتي الشعب العراقي في مقدمتها.. اسئلة ملحة.. واجابات متباينة وكانت هناك ثلاثة اسئلة بدأت تطرح نفسها بالحاح متكرر على العقل العراقي لأنها تكاد ان تكون تلخيصا لازمة القضية العراقية وفقا لمنطوق الخطاب السياسي الذي ساد بعد 2/آب/1990.. وهذه الأسئلة الثلاثة هي: - هل صحيح ان امريكا غير قادرة على تغيير النظام في العراق..؟ - واذا كانت قادرة.. فهل هي جادة فعلا في تغيير النظام..؟ - واذا كانت جادة.. فما الذي يتحكم في هذه الجدية.. الحسابات والموازين العراقية ام الحسابات والموازين الامريكية..؟ واذا كان الاتفاق يكاد ان يكون عاما في الاجابة على السؤال الاول من حيث ان امريكا-كقوة تكنولوجية اولى في العالم- قادرة على ما هو اكثر من مجرد تغيير النظام.. انها قادرة على تحويله الى تراب وحتى الى جليد(وفقا للرأي الذي يقول ان امريكا لو استخدمت ربع قوتها النووية، فإن البشرية ستواجه(150) سنة جليد..!!؟).. الا ان الاجابة علىالسؤالين الثاني والثالث تفتح الابواب واسعة امام الاختلاف والتقدير وبالتالي هذا الحجم المتسع من القراءات المتنوعة والمتناقضة التي انطلق معظمها في تحليل الازمة العراقية من أولويات دأب العقل المتصدي للتحليل على التعاطي معها كمسلّمات.. وفي مقدمتها تفسير الازمة العراقية, على ضوء ما هو مطروح على السطح دون الغوص في اعماق الازمة وتجلياتها المختلفة, والتعامل مع مسألة التغيير و"حتمياته" على ضوء الرغبة العامة لدى الشعب العراقي في مطلب تغيير النظام الدكتاتوري وحدها(وهي رغبة من الوضوح بحيث لاتحتاج الى اثبات), دون ان تدرك- هذه القراءات- حجم المتغيرات التي حصلت في التسعينات كامتداد مستمر لما حصل في السبعينات والثمانينات.. محاولة للقراءة.. والاجابة ان القراءة الموضوعية لما آل اليه الوضع في العراق, ارتباطا بالمتغيرات والظروف الاقليمية والدولية, تؤشر بأن الرؤية الامريكية للتغيير في العراق, لاتخضع للتأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانساني الضاغط على الشعب العراقي, كنتيجة محتمة لمعاناته اليومية بسبب القمع والحصار الاقتصادي المروع, على الرغم من حدة التعاطي مع هذه المسألة في الخطاب الامريكي اليومي, الذي تحتل الديمقراطية وحقوق الانسان موقعا مركزيا فيه على المستوى اللفظي الكلامي.. لكنه يخضع بالدرجة الاولى, وقبل كل شيء, لثوابت السياسة الامريكية وخططها الاستراتيجية, في تحقيق مصالحها العليا على المديين القريب والبعيد.. وقد اعطتنا مرحلة السبعينات مؤشرا على حدوث تغييرات جوهرية في ذهنية المخطط الامريكي, بعد افول عصر التصادم المباشر بين حركة التحرر العربي- كجزء من حركة التحرر العالمي-والولايات المتحدة الامريكية.. واذا كانت المصالح الاقتصادية, كثابت اساسي في الاستراتيجية الامريكية, لم تشهد تحولات جذرية رئيسية على صعيد الوسيلة والاسلوب والخطط المعدة, فإن المصالح الامنية الامريكية والغربية, شهدت تغييرات جذرية وجوهرية في رؤية المخطط الامريكي, وهو يرسم ملامح عصر جديد ساهم في التمهيد له بشكل اساسي. وكانت قضية الامن الاسرائيلي-كجزء من الامن الامريكي والغربي- هي التي شهدت اكثر من غيرها هذا التغير الجوهري.. لقد ادركت امريكا- بعد سلسلة طويلة من الحروب والصراعات- ان الامن الاسرائيلي على المستوى البعيد, لا تضمنه القوة المسلحة مهما كان حجمها ونوعها, والتي تمثل "متغيرا" قابلا للتحول في اية لحظة لغير صالح اسرائيل, فضلا عن انه يمثل حالة استنزاف دائمة وصلت في مراحل منها الى بيت دافع الضرائب الامريكي.. لذلك فإن تحويل هذا" المتغير" الى"ثابت" استراتيجي بالنسبة لأمن اسرائيل يكمن في السلام بين اسرائيل وجيرانها العرب وجوهر السلام المطلوب يتعدى مجرد قبول وجود اسرائيل على المستوى القانوني في اطار مواثيق الامم المتحدة القابلة للتأويل وفق قواعد القانون الدولي العام التي لم تستقر لحد الان, يتعدى ذلك الى شبكة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية وغيرها من العلاقات وقد بدأت مرحلة السلام تلك بعد حرب تشرين/1973 فعلا, واشتركت فيها كل الاطراف بما فيها الصامدون والمتصدون.. وقد افرزت مرحلة السلام تلك، من بين ما افرزت، مجموعة من الخطط الملحقة بهذه المرحلة، ما يهمنا منها اثنان لأن لهما علاقة مباشرة بالقضية العراقية.. اولهما: ان السلام وفق المنظور الامريكي الاسرائيلي ليس مجرد معاهدة قانونية بين طرفين او اكثر، لكنه بداية عصر جديد يقوم على قواعد وعلاقات جديدة لاعلاقة لها بما تعارف عليه في النظام الدولي الحديث والمعاصر من حديث عن القيم المجردة كالحق والعدل والمشروعية. لذلك فإنه يحتاج حتى يستطيع ان يحقق اهدافه الى اجراء تغيير جذري واساسي في المناخ والتربة والبذور.. وفي مقدمتها رسم خريطة جديدة للشرق الاوسط والمنطقة العربية-والعراق منها- حتى يتحول السلام الى "ثابت" في العقل والواقع معا. ثانيهما: حتى تحقق المفاوضات هدفها المطلوب وفق الموازنة الامريكية التي تمتلك 99% من اوراق السلام(على ذمة السادات)، فقد اعتمدت السياسة الامريكية مجموعة من السياسات المكملة.. كان في مقدمتها ابقاء العلاقة بين الدول العربية المواجهة لاسرائيل والدول العربية الاخرى المساندة لها او التي تشكل عمقا طبيعيا لها في حالة توتر دائم تدفع بالاطراف الى المناطق الخطرة في تسلسل الصراعات وهو اجراء ضروري لاضعاف موقف المفاوض العربي وتجريده من مصادر اية قوة محتملة.. وفي هذا الاطار تحددت"الرؤية الامريكية" للتغيير في العراق حيث مثل الثاني من اب/1990 وما رافقه وانتجه من متغيرات عراقية وعربية واقليمية ودولية نقطة تحول جوهرية في الجانب العملي من السياسة الامريكية.. رؤية ناصرية للقضية العراقية 10 - عبد الستار الجميلي مرحلة السلام.. والازمة العراقية كانت امريكا ومعها اسرائيل قد استكملتا كل حلقات السلام تقريبا ولم يتبق الا حلقتها الاخيرة.. الحلقة السورية.. التي عملت امريكا واسرائيل الكثير على طريق اضعاف هذه الحلقة في المفاوضات. ولما كان العراق يشكل دولة مساندة وعمقا طبيعيا لسوريا، فإن المخطط قد استهدف احداث قطيعة كاملة بين البلدين بحيث يخرج العراق وامكاناته من حسابات المفاوض السوري حتى ولو على شكل احتمال. وقد تحقق ذلك فعلا.. ربع قرن من القطيعة مع ان "الخطاب القومي" هو الأكثر علوا وصدى في لغة النظامين.. وحين وجدت امريكا نفسها على أبواب بغداد، بحجم هائل من القوات وشرعية دولية وعربية لأن تفعل ما تريد، وقد تحقق التغيير على الارض في انتفاضة آذار/1991 التي فاجأت كل الاطراف، أدركت (اي امريكا) ان التغيير في العراق في هذه المرحلة لايخدم قضية السلام التي تعاني من اعراض التعثر والتردد على تخوم حلقتها الاخيرة.. لأن اي نظام بديل في العراق، ومهما تكن سياساته واتجاهاته الداخلية والخارجية، سيقوم بدعم سوريا، وبحجم غير مسبوق بعد سنوات القطيعة غير المبررة تلك، وهو ما يعني ان موقف سوريا في المفاوضات، سيكون في احسن حالاته، بعد ان تحققت لها القوة والعمق المطلوبين، وبالتالي فإن السلام مع سوريا سيصبح بعيدا، ومع مرور الوقت سوف يزداد تعقيدا. وستجد امريكا واسرائيل نفسيهما من جديد امام تعطل حقيقي، في تحول" المتغير" الى "ثابت" في خططهما الامنية والاقتصادية والسياسية.. من هنا، فاننا نزعم ان "التغيير الامريكي" المطلوب في العراق، كان مؤجلا بالنسبة لامريكا خلال العقد الاخير من القرن الماضي، لحين الانتهاء من التوقيع على المعاهدة الاسرائيلية- السورية.. بل اننا نجزم او نكاد- استنادا الى تجربة السنوات العشر الاخيرة- ان امريكا واطراف كثيرة معها، عربية واقليمية ودولية، لم تكن تعمل على تأجيل عملية التغيير في العراق وحسب- مع ان شروطه الوطنية والشعبية والشرعية قد تحققت- بل عملت على منع احتمالاته من خارج" الخيار الامريكي المطروح"، عن طريق تطويق المعارضة وتدجينها واحتوائها، وهو ما برز على السطح عندما سحقت انتفاضة الشعب العراقي في آذار/1991 امام أنظار وسمع امريكا والمجتمع الدولي، وربما بمساعدتهم المباشرة ايضا.. والاكتفاء في هذه المرحلة الدقيقة من تطور عملية السلام، بعمليات محدودة ضد النظام الدكتاتوري، والابقاء على الحصار الاقتصادي كسياسة معلنة، مع التشدد في الخطاب الكلامي ضد النظام، واطلاق المزيد من الوعود والمشاريع، وبما يؤمن الابقاء على خيوط الموقف العراقي-داخليا وخارجيا- بيد اللاعب الامريكي، لحين التوقيع على معاهدة السلام المنتظرة.. والآن، ومع بدء المفاوضات الاسرائيلية- السورية، وقرب التوقيع على معاهدة الصلح بينهما، فإن السلام يكون قد القى بظلاله على كل الاطراف.. وسيكون العراق-كما نعتقد من خلال القراءة التي قدمناها-واحدا ممن ستطاله تلك الظلال عن قرب، وبتسارع يتلاءم مع مرحلة السلام في القرن الثالث للميلاد، وستنفتح امام التغيير في العراق احتمالات جديدة.. منها، ان التأجيل قد انقضت اسبابه ومبرراته المشروعة.. وان مرحلة السلام تقتضي خطابا جديدا وعلاقات جديدة، استنفذ النظام الدكتاتوري دوره فيها.. نتيجتان لقد سقنا تلك المقدمات الطويلة لكي نصل الى نتيجتين، نتصور صحتها وفق ما هو متاح لنا من امكانيات القراءة.. وهما نتيجتان جديرتان بأن نعيد التأكيد عليهما من جديد: *اولهما: ان تغيير النظام في العراق كان مؤجلا في انتظار التوقيع على معاهدة السلام الاسرائيلية- السورية، لأن اي تغيير في العراق-وفقا للمنظور الامريكي الاسرائيلي- سيقوي موقف سوريا في المفاوضات، قد يصل الى حد اعادة النظر في قبول مبدأ السلام نفسه.. *ثانيهما: ان التغيير في العراق سيصبح مطلوبا بعد توقيع معاهدة السلام، بل ان التغيير في العراق، سيكون اول نتائج هذا التوقيع، لأن مرحلة السلام تتطلب هذا التغيير بعد ان استنفذ النظام كل ادواره.. التغيير.. ملامح واشكالات، ولكن اي تغيير..؟ ان الاجابة على هذا السؤال تقودنا- منطقيا- الى الاجابة على الاسئلة الثلاثة التي طرحناها في سياق مقالنا هذا.. لنزعم ان امريكا قادرة على التغيير، وجادة فيه فعلا.. لكن الذي يتحكم في جدية التغيير الامريكي، ليست الحسابات والموازين العراقية، اذ لو كانت هذه الحسابات والموازين العراقية هي التي تتحكم في الموقف الامريكي، لحدث التغيير منذ زمان بعيد، لأن مأساة الشعب العراقي تذيب الجليد والحديد!!؟ لكن الذي يتحكم في "التغيير الامريكي" هو الحسابات والموازين الامريكية.. ولذلك فإن "التغيير الامريكي" القادم- وفقا لمنطق المرحلة- سيتلائم حتما مع مرحلة السلام وعلاقاته وثقافاته وديمقراطياته الجديدة في كل شيء.. ولكن هل يعني ذلك كله ان "التغيير الامريكي"، هو الخيار الوحيد المطروح امام الشعب العراقي للخلاص من النظام..؟ ان المسؤولية الوطنية تقتضي اجابة عملية على هذا السؤال.. فالخيارات كثيرة.. لكنها تحتاج الى مشروع وطني ديمقراطي، يؤسس خطابا حضاريا تعدديا جديدا، ويحقق شروط آلية تغيير تعتمد الداخل كقوة اساسية، والتعاطي الايجابي مع كافة العوامل المساعدة، وفي مقدمتها العامل الدولي.. .. ههنا شعب إختار الحياة.. فتعالوا الى ارض كردستان المحررة حين امسكت بالقلم محاولا الكتابة عما شهدته بنفسي من ممارسة ديمقراطية حية في انتخابات المجالس البلدية لكردستان المحررة، واجهت صعوبة كبيرة في التوفيق، مابين انفعالي الداخلي المنحاز لتلك التجربة التي تجاوزت في دلالاتها الكبيرة حدود اقليم كردستان المحررة، لتدخل الى اعماق ووجدان ومشاعر العراقيين جميعا، وربما ابعد.. وما بين الموضوعية المطلوبة في مثل تلك التجارب والظروف المحيطة بها، من اجل استمرار ومستقبل التجربة نفسها. وللانحياز والموضوعية مبرراتهما في مثل حالنا كعراقيين. ففي مواجهة نظام ديكتاتوري بلغ به الاستهتار بالشعب ومقدراته وحياته حدا، انه لم يكتف بالغاء ارادته وقتلها، بل انه زيفها بطرق عديدة، وصلت في يوم من ايام التسعينات، الى حد تجرأ فيه التلفزيون على وصف قرار لما يسمى بـ (مجلس قيادة الثورة) والخاص بتخفيض مبلغ خمسة وعشرين دينارا من رواتب الموظفين، وصفه بأنه "خطوة جبارة" نقلا عن احد المواطنين الذين كان التلفزيون ينتزع ردود أفعالهم على القرار.. لابد ان يكون رد فعلنا كمواطنين عراقيين امام ممارسة ديمقراطية حقيقية، تتاح فيها كل الامكانيات والقنوات للمواطن في ان يعبر عن رأيه، بارادة حرة غير مشوبة بأي عيب من عيوب ديكتاتورية النظام في تزييف الارادة الانسانية.. لابد ان يكون رد فعلنا الفرح والانفعال الى حد الانحياز.. ومن جهة اخرى، فإن التجربة بقدر ما تخص المواطنين الكرد، فإنها تخصنا ايضا كمواطنين عرب، لانها تؤسس- كما نريده ونتصوره- الى جانب الارادة، تؤسس القدرة على الممارسة الديمقراطية.. وقد كانت ممارسة ديمقراطية حقا، قدمت لنا دليلا من الواقع على فشل بضاعة الانظمة الشمولية والاستبدادية التي ظلت لسنين طويلة -منتزعة من عمرنا ومستقبلنا- تروج وتنظر لها، وتدور حول عدم اهلية شعبنا للديمقراطية. لذلك فإن المحافظة على هذه التجربة ودلالتها المستقبلية هي واجبنا الأول في هذه المرحلة الدقيقة من نضال شعبنا، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الموضوعية في دراسة التجربة، بعد فترة من السيطرة على انفعالنا المنحاز للتجربة، والمبرر موضوعيا من الواقع. لكننا نحاول هنا ان نقدم قراءة أولية للتجربة ودلالتها حاضرا ومستقبلا.. فمن مدينة السليمانية، وعلى ارض كردستان المحررة، وفي يوم الثالث من شباط/2000، بدأت ملامح جديدة للتاريخ تتحدد، في بلد وظف حكامه المستبدون كل امكانياتهم المادية والمعنوية لاثبات ان شعبه غير قادر على التعبير عن إرادته، وبالتالي لايستحق- من وجهة نظرهم- الحياة وقد كانت الملامح من الوضوح والدلالة ما أثار دهشة الصحفيين والمراقبين العرب والاجانب، وهم يشهدون عن قرب ذلك الاقبال الجماهيري الواسع، والاصرار على الحضور حتى من العجزة، بما يشبه احتفالية الاعياد، وبنسبة تجاوزت اكثر من 80% (وهي نسبة قلما يمكن الوصول اليها في شرقنا المتوسط خصوصا)، وكان الاكثر دهشة، هذا الهدوء المنظم الذي ساد الدوائر الانتخابية التي لم تسجل فيها أية حادثة سلبية أو خرق، تستحق الذكر، وهو هدوء راهنت على تفجره قوى عديدة، صورت ارض كردستان المحررة، غابة يتصارع فيها الاقوياء، وتزدحم بالجنود القادمين من امريكا والامم المتحدة، لكن جولة واحدة في شوارع واحياء مدينة السليمانية، مدينة الحرية والفداء وملاذ الاحرار، اكتشف فيها محدثونا من الصحفيين والمراقبين العرب والاجانب، الحقيقة التي حاول النظام الديكتاتوري والمأجورون والمخدوعون تزييفها تحت ستار كثيف من الادعاءات الكاذبة.. اكتشفوا ان مدينة السليمانية وضواحيها والمدن والقصبات والقرى لاتطرقها إلا اقدام ابناء شعبها الكردي واخوانهم من العرب العراقيين الذين اختاروا الحياة والحرية معا. وكانت للتجربة دلالاتها الكبيرة والكثيرة.. منها: أولا- ان الشعب الكردي وعلى الرغم من كل الاسباب التي اعاقت في الماضي تطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فقد أثبت فاعلية وجدارة في التعبير عن رأيه، وممارسة الديمقراطية، وفرض ارادته كمصدر لكل سلطة وقرار. ثانيا- ان هذه التجربة وبغض النظر عمن فاز فيها أو خسر، فقد احرزت فوزا ساحقا للديمقراطية كنظام للحياة وخيار مستقبلي مارسه الشعب الكردي في مواجهة نظام ديكتاتوري، ووسط ظروف محيطة تعمل كلها لتعطيل هذا الخيار. ثالثا- ارتبطت الممارسة الديمقراطية الكردية وابتدأت، باكثر الحلقات مساسا بالشعب من حيث الحاجات والخدمات، المجالس البلدية، لذلك فإن الطابع الاجتماعي فيها يتجاوز الطابع السياسي ويحتويه.. انها ممارسة ديمقراطية في القاعدة الاجتماعية بعد ان تعودنا طويلا على الممارسة في "الفوق" السياسي المشغول بهمومه "الخاصة والضيقة جدا". رابعا- ان هذه الممارسة الديمقراطية تتجاوز في دلالتها وتأثيرها حدود اقليم كردستان، لتكون رصيدا نوعيا مضافا للشعب العراقي كله، من حيث انها تؤكد ان هناك تقدما حقيقيا قد حصل في الاتجاه الديمقراطي على صعيد الوعي والممارسة بعد اكثر من ثلاثين عاما من الديكتاتورية المقيتة، وبالتالي فإنها تؤسس نموذجا وطنيا لعراق المستقبل، يثبت للعالم كله ان الشعب العراقي والمعارضة العراقية معه قادران على بناء نظام وطني ديمقراطي يؤمن المشاركة الشعبية الواسعة والانتقال السلمي للسلطة. خامسا- ارتبطت هذه الممارسة تاريخيا بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني والجبهة التي يقودها، مما يضيف رصيدا نوعيا لنضاله الوطني والديمقراطي، ويفرز قوة اساسية منحازة عمليا للتيار الديمقراطي، الذي بدأت تتمحور حوله فرص بناء دولة حديثة ومجتمع مدني. ولكن هل يعني هذا ان التجربة قد جاءت خلوا من كل السلبيات وانها جسدت الحالة المطلوبة..؟ بالتأكيد ان هناك قدرا ليس قليلا من السلبيات قد رافق هذه التجربة، وهي حالة طبيعية في تمارين الثقافة الديمقراطية الأولى، ولكن حتى يكون التقييم موضوعيا، والقياس منطقيا، يجب ان لانقيس التجربة بما هو متحقق في الدول المتقدمة بعد سلسلة طويلة من الممارسات والتجارب، بل علينا –وارتباطا بمستقبل العراق- ان نقيسها بممارسات النظام الديكتاتوري على هذا الصعيد، حين ذلك سنكتشف –موضوعيا- ان النظام الديكتاتوري ينتمي الى الماضي وحده.. اما هذه الممارسة الديمقراطية فوحدها تنتمي الى مستقبل العراق وشعبه.. وهو مستقبل اختار الشعب كله، ان تكون فيه القطيعة كاملة مع الديكتاتور، و أي شكل من أشكال الدكتاتورية، ومظاهرها المختلفة في حياتنا وآمالنا.. وحتى في آلامنا.. |
رؤية ناصرية للضية العراقية 12 - عبد الستار
الجكيلي
القانون.. والنظام الديكتاتوري
(توصيف عام)
منذ زمان قديم في الماضي، لم تكن هناك قوانين،
ولم يكن هناك قضاة. لذلك، فإن القوة كانت هي
القانون السائد، وكان الانسان هو قاضي نفسه،
يقرر هو كيف ومتى يقتل ليقتضي حقه من الآخرين..
لذلك فقد اطلق الناس على تلك الفترة بالوحشية
مرة، لأن الانسان كان فيها لا يختلف عن وحوش
الارض الاخرى، فهو على استعداد ولأتفه
الاسباب، لأن يفترس اخاه الانسان الآخر او ان
يكون هو فريسة يلتم حولها الآخرون.. وفي مرة
اخرى، اطلقوا عليها العصر الحجري، لأن
الانسان في ذلك الزمن كان يستعمل الحجر في دق
رؤوس الآخرين اكثر مما يستعمله في صنع ادواته
وقضاء حاجاته.. لكن البشر في لحظة عظيمة
وحاسمة، سرعان ما اهتدوا الى القانون، ونصبوا
من بين "حكمائهم" قضاة لتطبيقه، بعد ان
وصل الحال بهم الى حدود لا تطاق صار فيه
الانسان لا يأمن على حياته حتى وهو في حضن
زوجته وبين عائلته.. فانفتحت مع القانون
ورجاله "الحكماء" ابواب جديدة امام
البشرية، تطورت من خلاله حياة وعقول ابنائها،
وتجاوزت به مراحل البدائية الاولى حتى عبرت
الارض الى آفاق الفضاء.. وصار القانون وسيادته
واحترامه مظهرا رئيسيا من مظاهر الرقي
الانساني والتطور الحضاري والعقلي والاخلاقي
لأي شعب.. وعلى اساس العلاقة الوظيفية
بالقانون قسمت سلطة الدولة الى ثلاث، سلطة
تشرع القوانين، واخرى تنفذها، وثالثة تطبق
وتراقب التشريع والتنفيذ، والى الحد الذي
اصبح فيه الفصل بين السلطات الثلاث هو الفيصل
بين دولة الاستبداد، حيث يجمع الدكتاتور بين
يديه وحدة التشريع والحكم والقضاء، وبالتالي
السلطة والثروة والقوة، وبين دولة
الديمقراطية حيث تفصل السلطات وتتوزع
وظائفها بين ثلاث جهات، عمل كل واحدة منها يحد
ويراقب عمل الاخرى..
وكان العراق من الدول التي حاولت قدر الامكان
ان تؤسس قوانينها الخاصة كجزء من محاولات
بناء دولة حديثة.. ومن اجل ذلك، فقد تأسست
كليات القانون ومعاهد القضاء والسلطات
التشريعية (على سلبيتها)، وبذل الرعيل الاول
من رجال القانون جهودا مضنية في تشريع واصدار
القواعد القانونية بمختلف انواعها وفروعها..
وقد قطعت البلاد اشواطا لا بأس بها في هذا
المجال الى الحد الذي استقرت فيه بعض هذه
القواعد، ومع الاستقرار قدر كبير من الاحترام..
الا ان الامر لم يستمر على هذا المنوال، اذ
سرعان ما ابتليت بلادنا بأناس كان القانون
اول ضحاياهم، فكانت النتيجة ان عدنا القهقرى
الى العصور البدائية الأولى.. الوحشية والعصر
الحجري..
ونظرة سريعة الى حال القانون ورجاله من
مشرعين وقضاة ومحامين ومنفذين في ظل المرحلة
الحالية، كافية لأن تصيبنا بالدوار ومن ثم
الغثيان.. فالسلطات الثلاث، يملكها شخص واحد(الدكتاتور
المتخلف) ، هو المشرع والمنفذ والقاضي.. لذلك
فانه ومنذ انقلاب 17 تموز 1968 الاسود والى الآن،
لم يصدر أي قانون الا واحتاج الى توضيح وتفسير
وتعديل، وتعديل للتعديل، وبلغت الاستهانة
بالقانون. ان القوانين التي صدرت قبل 17 تموز
1968- وفي مقدمتها القانون المدني رقم 40 لسنة 1951-
قد طالتها التعديلات الكثيرة الى الحد الذي
صارت فيه التعديلات اكثر واكبر من المتون. ولم
تعد في قدرة القاضي او المحامي متابعتها، مما
اصاب معاملات الناس بالارباك وعدم
الاستقرار، وشيوع ظاهرة الاحكام المتناقضة
حتى داخل محكمة الدرجة الواحدة..
اما جهاز القضاء، فقد اختل فيه ميزان العدل
وانقلب، منذ ان ابتدأت عملية "تسييس"
القضاة ومعهد القضاء، فادخلوا الى هذا الجهاز
الحساس، الذي ترتبط به مصالح الناس الخاصة
والعامة، نماذج من اكثر الناس جهلا بالقانون
واستهانة به وعدم احترامه، واقصوا القضاة
الحقيقيين او عطلوا دورهم او حاصروهم
وارهبوهم.. وكانت النتيجة ان اصبحت الرشوة "دستورا"
اعلى فوق كل القوانين، حيث يرتكب من خلاله
الجناة والمجرمون ابشع واقسى الجرائم بحق
الفرد والمجتمع، لكنهم سرعان ما يفلتون من
العقاب "ببراءة" يدوس فيها "قاضي معهد
القضاء العتيد" قَسَم المهنة وكل القوانين
والاعراف والحقوق الخاصة والعامة، يخرج
بعدها المجرم ليرتكب جرائمه "المعتادة"،
لكن هذه المرة مناصفة مع السيد "قاضي معهد
القضاء".. وصل الامر ببعض هؤلاء "القضاة"
انهم يقومون بأنفسهم، بمساعدة الاجهزة
الامنية في انتزاع "الاعتراف" من
المواطنين سياسيين وغير سياسيين ممن لا ينطبق
عليهم "دستور" الرشوة، فيقومون بأنفسهم،
بضرب وتعذيب الضحية، وحتى قتلهم والقاء جثته
في المقابر وعلى اطراف المدن، كما هو حال قضاة
تحقيق الامن والمخابرات والحزب وباقي
الاجهزة القمعية.. وليس هناك من مأساوية
واذلال اكبر من منظر "القاضي" وهو يرتجف
بين يدي "شرطي الامن" الذي يقف بجانبه
على المنصة ليملي عليه ما شاء من احكام "الادانة"
و"البراءة" وكيفما هو متفق عليه مع
الزبائن "الكرام" في كل شيء، الا الحق
والعدل..أما حال محكمة التمييز، فحالها يصعب
على "الكافر"، يكفي ان نذكر -مثلا- ان بعض
القضايا من الوزن "الثقيل" وحتى تصل الى
محكمة التمييز الموقرة، صار من "الوجوب"
القانوني ان تمر باللجنة الاولمبية.. تصوروا..
وحال المحامين ليس أقل مأساوية واذلالا من
حال القضاة.
فالمحامون "المسيسون"، هم الآن في مقدمة
الهجمة التي اخذت على عاتقها تدمير وتخريب
القانون وتعطيل متونه واحكامه واشاعة مظاهر
الفوضى وعدم الاستقرار في معاملات الناس
ومصالح المجتمع، لصالح المجرمين والمهربين
الدوليين والمتاجرين بقوت الشعب وحاجاته
اليومية، ووصل الامر بأكثرهم- ان لم يكن
جميعهم- ان اصبحوا" الوساطة" بين القضاة
والمجرمين، في اصدار احكام "البراءة"
وفقا لمتون"دستور" الرشوة الذي أصبح
معمولا به منذ انقلاب 17 تموز الاسود والى ان
تنتفي الاسباب الموجبة له.. كانت "قدرة"
هؤلاء المحامين" المسيَّسين" المتميزة
في كتابة التقارير"الأمنية" على زملاء
المهنة من المحامين الذين بقوا على التزامهم
المهني والاخلاقي والادبي بحقوق الناس
ومصالحهم، لاتتناسب مطلقا مع "قدرتهم"
المتدنية على كتابة مرافعات قانونية حقيقية (وهي
واجبهم الاساسي) يدافعون فيها عن الحقوق
والمصالح المكفولة بالقوانين السائدة، والتي
اقسموا بكل مقدسات المجتمع الاسلامية وغير
الاسلامية على مراعاتها والعمل بموجبها، وفي
مقدمتها حياة واعراض وأموال الناس، التي
اهدرت ضماناتها بالتعاون المشترك بين النظام
و"محاميه".
وفي غياب سلطة قضائية مسؤولة، عن حماية حقوق
الناس ومصالح المجتمع، ومراقبة اجراءات
اصدار القانون وتنفيذه وتطبيقه، وضمان حرية
ونزاهة الدفاع والاحكام.. وفي غياب سلطة
تشريعية مشروعة، مؤهلة وقادرة على صياغة
قواعد قانونية عامة ومجردة وملزمة للأفراد
والمجتمع والدولة، في موازنة دستورية تلائم
بين الحقوق والواجبات، بين الواقع والاهداف،
بين الظروف المحيطة بالانسان وبين ما يجب ان
يكون عليه هذا الانسان وتواكب التطورات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. في غياب
هاتين السلطتين في عراق (اليوم)، فإنه من
الطبيعي ان ينفلت زمام السلطة التنفيذية
وتتحول الى جهاز قمعي للفرد والمجتمع معا،
يبتز المواطن ويفرض عليه الاتاوة ويجرده من
كل الحقوق ووسائل الدفاع عنها ويحوله الى
حالة من الخوف الدائم حتى وهو في حضن زوجته (ما
أشبه الليلة بعصور الوحشية الاولى)، ويعتدي
على حرمات المجتمع والمال العام ويمارس القهر
السياسي والاجتماعي والاقتصادي ويحول
المجتمع الى حقل استثمار خاص به، تحول
المواطنون فيه الى مجرد "عبيد" في مزرعة
الجهاز التنفيذي التي تتبادل من خلالها اذرعه
الأمنية الاخطبوطية الادوار وتتعاون فيما
بينها في "تنسيق أمني" جرد المواطن من
ابسط حقوق الانسان وفي مقدمتها حقه في الحياة
والكرامة، وجرد المجتمع من كل امكانيات
التقدم وتركه بلا مستقبل تحت رحمة من لا رحمة
في قلوبهم من "لصوص" السلطة التنفيذية..
ومادام الامر هكذا، صار من الطبيعي ان "يتعاون"
"قاضي معهد القضاء" والمحامي" المسيس"
وضابط "شرطة النظام"، حيث يتقاسم هؤلاء"
الثلاثي" فيما بينهم المناطق ومراكز
الشرطة في المحافظات والاقضية والنواحي،
وحسب نوعية ووزن الدعاوى والقضايا، التي يحسم
بعضها عند" السيد" ضابط شرطة المركز،
وبعضها الآخر عند" السيد" قاضي المحكمة،
ويبقى المحامي" المسيس" محتفظا بدوره"
الوسيط" بين الطرفين وحسب النسب المتفق
عليها سلفا..
لذلك صار المواطنون في الموصل وكركوك-مثلا-
يعرفون سلفا الى اي ضابط شرطة او قاض او محام
يذهبون، ليضمنوا سلفا- ايضا- القضية لصالحهم
بعد دفع "الاتعاب".. وصار شعار المجرمين
والمهربين وتجار قوت الشعب ولقمة عيشه
اليومية" أقتل من تشاء وادفع تضمن البراءة
مقدما".. تماما كالشعار الصهيوني" ادفع
دولارا تقتل عربيا".. هكذا صار حال القانون
في ظل النظام الديكتاتوري في عراق اليوم "ادفع
دولارا امريكيا تقتل مواطنا عراقيا"..
تلك كانت مقدمة عامة لدراسة القانون في ظل
النظام الديكتاتوري، على أمل ان نتناول
المتون والوقائع في دراسة "عينية"
موسعة، تتجاوز التوصيف العام الى الواقع في
جميع نواحيه السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والمستقبلية.
الفهرست
التيار القومي العربي في العراق.. و النظام
الدكتاتوري ........
التيار القومي العربي في العراق و المعارضة
العراقية ........
الديمقراطية على الطريقة الدكتاتورية
.............................
الحصار الاقتصادي في العراق .. مسؤولية من؟.................
وجهة نظر عربية.......................................................
العلاقات العراقية – الكويتية و صناعة
المشكلات .............
حزب (حليحل) ..........................................................
عبد الناصر – الطالباني
..............................................
وجهة نظر ناصرية في قضية حساسة..............................
ههنا شعب إختار الحياة
..............................................
القانون و النظام الدكتاتوري.........................................
إصدار مكتب الإعلام القومي الناصري
من منشورات الحزب الطليعي الاشتراكي الناصري
في العراق
مكتب أوروبا
د. جمال السامرائي
Postbus :32352
2503 AB Den Haag
HOLLAND
تلفون : 0031 70 3096591
فاكس : 0031 70 3672191
البريد الالكتروني : samaraiy@wanadoo.nl
مكتب العراق ـ السليمانية
عبد الستار ألجميلي
تلفون : 00447077520766
فاكس :004724135515
البريد الالكتروني Aljumailee@yahoo.com