الـدكـتـور صـفـوت حـاتـم
[مـقـالات مـتـنـوعــه]


 



ملاحظات أولية حول الوحدة والإنقسام في الحركات السياسية

بقلم : دكتور صفوت حاتم

مقدمة :

تعاني الحركة الناصرية منذ ربع قرن من ظاهرة الإنقسام والشللية , وهي ظاهرة تبدو حتمية في الحركات السياسية الراديكالية بشكل عام .
ولكن مع تعقد الواقع السياسي العربي وترديه , وفي ظل غياب ديمقراطية وتعددية حقيقية , تتحول الشللية والحلقية الى مرض عضال يساهم في تردي الواقع السياسي وتدهوره .
وعلى الرغم من كل الجهود التي تبذل لمواجهة هذا الوضع الشاذ , إلا أن الجهود التوحيدية لم تنجح على الرغم من كل النوايا الطيبة التي كانت تصاحبها و وربما بسببها !!

ومنذ أن بدأت الحركة الناصرية طرح مشروع وحدتها التنظيمية , ظهرت على السطح أهمية طرح المسألة على مائدة البحث والتحليل .

فقضية الوحدة والإنقسام في الحركة الناصرية لم تطرح على صعيد البحث الموضوعي بإعتبارها قضية فكرية بالأساس وليست مجرد عملية سياسية يتحكم في نجاحها أو فشلها نوايا ووعي القائمين عليها .
ما من شك أن تكوين علاقات متينة بين أعضاء التيار السياسي الواحد هو أمر حيوي يقوي من وحدته ويمنع من تفتته الى " شلل " تلتقي كل شلة حول شخص , ويصبح الولاء السائد داخل التيار السياسي هو ولاء للأشخاص وليس ولاء للأفكار السياسية أو مصلحة العمل التنظيمي .. وهكذا يصبح إنحراف زعامة الشلل القائمة كفيلا بإنحراف التنظيم , او تحول التظيم القائم الى مجموعات متنافرة من الشلل المتصارعة . ومهما إدعت هذه الشلل بموضوعية الخلافات السياسية والتنظيمية , فإن ذلك لا يخفي طبيعة المصالح الشخصية وصراعات النفوذ التي تحكم هذه الخلافات .
والواقع أن ثمة ظاهرة " طبيعية " خضعت لها - كما يبدو - معظم المؤسسات العقائدية في التاريخ , سواء منها المؤسسات الدينية أو الثقافية أو الحزبية السياسية , فهي كانت تسير من الواحد الى المتعدد , ومن الإلتزام البسيط الى الإلتزامات المتعددة المتناقضة . ولقد خضعت الأحزاب العربية التقدمية بشكل خاص الى هذا القانون , سواء كانت أحزابا وحدوية أو أحزابا شيوعية . فالأحزاب التقدمية العربية كانت تتجه الى الإنقسام والتشلل , قبل حتى أن تكبر وتغتني فكريا أو سياسيا وتنظيميا .

1 - الوحدة والإنقسام في الحركة الشيوعية العربية :

لا ريب ان الأحزاب الشيوعية هي من أقدم الأحزاب في الوطن العربي . وقد لعبت الأحزاب الشيوعية العربية أدوارا تاريخية حاسمة أحيانا و ثانوية أحيانا أخرى في رفع مستوى الوعي السياسي في العالم العربي بإتجاه فكرة الإشتراكية وتحسس دور الطبقات الكادحة في الصراع السياسي .
وعلى الرغم من هذا الأحساس المبكر لدي هذه الأحزاب لدور الفكر السياسي والتنظيمي على مسار النضال السياسي , إلا ان هذا لم يمنع أبدا من أن تعاني هذه الأحزاب - وربما أكثر من غيرها - من مشكلة الإنقسام والتفتت التنظيمي .
ولا ريب أن هناك عوامل كثيرة متعددة قد ساهمت في حدوث هذه الظاهرة . فالبنية " الستالينية " للأحزاب الشيوعية العربية تفسر جانبا من ظاهرة التفتت والإنقسام . فلقد كان الفصل من الحزب أو التنظيم الشيوعي , هو ابسط " عقوبة " تنزل بكل من يخطر له أن يطور بعض الآراء والتي يعتبرها البعض خطرا يضر بوحدة الحزب الصخرية وأحادية اتجاهه .
ولقد كشفت مجموعة الوثائق التي نشرت في السنين الأخيرة عن كم من المعلومات تفسر وتحلل ظاهرة الإنقسام داخل الحزبية الشيوعية العربية .. كما تفسر من ناحية ثانية عمليات الوحدة التنظيمية التي كانت تحدث داخل هذه الحركات في لحظات معينة من تاريخها الطويل . وهو ما ستحاول هذه الدراسة الأولية أن تركز عليه .



2 - الحركة الشيوعية المصرية وتجربة الوحدة الأولى عام 1947 ( حدتو ):

تميزت نشأة الحركات والتنظيمات الشيوعية المصرية في مطلع الإربعينات بالتعددية منذ البداية كجلقات صغيرة أو كبيرة تعمل جنب بعضها البعض دون صدامات أو حساسيات كبيرة . وفي البداية كان " التباعد المكاني " هو السبب الأساسي لهذه النشأة المتعددة . بمعنى أن معظم المنابر الشيوعية لم تكن تختلف عن بعضها البعض إلا في بعض التفاصيل المحدودة . وحتى عندما يحاول بعض المؤرخين الآن أن يقدحوا ذهنهم بحثا عن أسباب الخلافات الفكرية أو العقائدية التي تبرر هذه النشأة المتعددة , فهم لا يجدون سوى أسبابا واهية , بعضها شخصي وبعضها يعود الى اساليب العمل داخل المواقع الجغرافية كالعمل في الجامعات والنوادي الثقافية أو العمل داخل الحركة النقابية العمالية أو في الريف .
ولكن مالبث هذا التباعد المكاني أن أوجد بالضرورة تباعدا في منهج التفكير ووسائل معالجة القضايا الفكرية والتنظيمية .
ولقد تنوعت التفسيرات المقدمة من قادة الحركة الشيوعية العربية لأسباب حالة الشللية والإنقسامية التي عانت منها هذه الحركة على مدار تاريخها الطويل .

3 - التفسير الطبقي لظاهرة الإنقسام والشللية في الحركة الشيوعية العربية :

وربما كان التفسير الجاهز دوما لهذه الظاهرة هو ما يراه قادة هذه الحركة ذاتها من سيادة عنصر المثقفين أو روح " البورجوازية الصغيرة " التي كانت مهيمنة على الحركة الشيوعية العربية في بداياتها . فهذه البورجوازية الصغيرة تتسم في الفهم الماركسي بسيادة روح التكتل والإنقسام والحلقية من خلال الجو التنظيمي الذي تخلقه حولها وتعيش فيه .. جو الطموح الذاتي والإغراق في الفردية والإنتهازية والتردد وسيادة روح التذبذب السياسي في المواقف العملية واغراق العمل الحزبي في جو من المناقشات والسفسطات النظرية والبيزنطية والإنسحاب من النضال العملي الى التفلسف النظري .

عن تأثير هذه الروح يقول " أحمد صادق سعد " أحد قيادات الحركة الشيوعية الأوائل : " … لقد شاع وقتا طويلا الإعتقاد ان الخلافات المستمرة بين المنظمات الماركسية في تلك الفترة تعود الى اسباب " حلقية " اي شعور بالترابط الشللي بين أفراد الحلقات … وأنا لا أنكر وجود هذه الحلقية التابعة من ضيق أفق والإنعزالية في طبيعة " البورجوازية الصغيرة " , فالغالبية العظمى من ماركسيين هذه الفترة كانوا من أبناء هذه الطبقة.. " ( أحمد صادق سعد . صفحات من اليسار المصري في اعقاب الحرب العالمية الثانية , مكتبة مدبولي - وهو أحد قيادات منظمة الفجر الجديد الشيوعية التي تحولت عام 1946 الى منظمة " الطليعة الشعبية للتحرر " ثم غيرت اسمها لتصبح " طليعة العمال والفلاحين " ثم الى " حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري " عام 1957 ) .

وفي نفس الإطار يقول " هنري كورييل " احد قادة الحركة الشيوعية والمؤسس لمنظمة " الحركة المصرية للتحرر الوطني - حمتو ) : " .. ان سبب تفشي التكتلية والإنقسامية في الحركة الشيوعية يعود الى سيادة عنصر " البورجوازية الصغيرة " التي دب الرعب في أوصالها عند إقتراب فترة الجذر وبروز احتمالات فترة من الإرهاب من نشوب حرب فلسطين , فآثرت الهرب بجلدها تحت شعارات براقة تدعي " الثورية " ( د. رفعت السعيد , تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940- 1950 , دار الثقافة الجديدة ) .

على نفس هذا الأمر يركز " أحمد نصري " أحد قيادات الحزب الشيوعي السوري في تفسيره للأنقسام الذي حدث في الحزب عام 1970 , فنراه يقول : " .. ان هذه الشرائح من " البورجوازية الصغيرة " تظهر لديها بإستمرار الميول المترددة المستعدة للقفز الى اليمين واليسار , والمستعدة للتنكر للمواقف والتقاليد والتي تتميز بعدم الثبات المادي والمعنوي . ( قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري ) .


4 - دور الخلافات الفكرية :

بصفة عامة .. لم تستطع التجربة الحزبية العربية التقدمية أن تعي ان التنظيم الثوري هو عالم مصغر من العالم الذي سيوجد بعد انتصار الثورة .. لهذا إذا ما ولد الحزب بشكل عفوي ودون فهم واضح لطبيعة الواقع السياسي الذي يطمح الى تغييره و فإنه يصبح بسرعة مجرد شكل تنظيمي عاجز تدب الفوضى والإضطراب في جنباته وسرعان ما يتفتت وينقسم على نفسه الى عشرات من الشلل والحلقات .
ولقد عانت المنظمات الماركسية الأولى من هذا المرض . فعلى الرغم من إهتمامها بالجانب الفكري , إلا أن هذا لم يمنع من ان تحليلها للواقع السياسي الذي كانت تعيش فيه وامكانياته الفعلية , كان يعبر عن تخلف واضح في كثير من الأحوال . وهو أمر ساهم بقدر كبير في ظاهرة التشلل والإنقسام .
ويعترف أحد قادة الشيوعيين في مصر بهذه الأزمة الفكرية حين نراه يقول : " … في رأيي أن الجمود العقائدي كان هو الجذر العميق للأغلبية الكبرى من النقص والقصور التي كانت في الحركة الماركسية المصرية , وأن هذا الجمود وجد أرضية خصبة في طبيعة البورجوازية الصغيرة الماركسية وخاصة القسم منها الذي استوعب الثقافة العلمانية . وظل الماركسيون يشعرون بشكل غامض مدة من الزمن بأن هناك حائلا ضخما بينهم وبين الجماهير الشعبية الراسخة في الريف والمدينة . ورغم كل ما كتب وقيل حينذاك عن التظرية الماركسية - اللينينية وعن الإتحاد السوفييتي والدول الإشتراكية , وكان بلا شك مفيدا للغاية في مسيرة مصر , غير أنه ظل في رأيي , الى درجة بعيدة , أمرا منفصلا عن الطريق الخاص الذي يمكن أن تسلكه مصر نحو الإشتراكية . ( احمد صادق سعد , مصدر سبق ذكره )

ويمكن أن نلحظ هذا في تفسير فشل الوحدة التي تمت في الإربعينات داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني " حدتو " وهي أول وحدة تنظيمية لمنظمات اليسار الماركسي في مصر وبسبب النقاش الفكري الذي دار حول خط القوات الوطنية الذي طرحه هنري كورييل وجماعته وعارضه شهدي عطية الشافعي وجماعته ).


يقول " آلبير آرييه " في شاهدته عن هذه الفترة : " .. بعد هذه السنوات التي مرت أقر ان النقاش الذي دار كان يعبر عن تخلف ولخبطة في التفكير العام للتنظيم وفي الحركة الشيوعية عموما أنني تصفحت خط " سليمان " ( يقصد شهدي عطية الشافعي ) وألاحظ عليه أنه ركز أساسا على الهجوم الشخصي وتجريح كل أشخاص القيادة .. كذلك فإن التكتل الثوري ركز على كشف كل أسرار التنظيم وإباحة الإتصالات الجانبية وإباحة التكتلات بحجة أن " لينين " تكتل .. وقد برروا السرقات التي مارسوها بقصص انتزعوها من تاريخ الحزب الإشتراكي الديمقراطي الروسي .. ومع تصاعد عمليات السطو على أجهزة التنظيم , لجأت القيادة الى نفس الأسلوب .. هكذا تولدت تقاليد سيئة السمعة لم تكن موجودة أصلا في مناخ العمل الشيوعي في مصر . ( راجع رفعت السعيد , مصدر سابق ص 418)

ويحكي " قدري قلعجي عن تجربته في الحزب الشيوعي السوري قائلا : … كثيرا ما كنا نطلب من القيادة الإهتمام بترجمة الكتب العلمية والفلسفية الهامة ليتثقف بها الأعضاء وتقوم عقيدتهم على اسس متينة , ولكن هذا الطلب لم يلق الا الإهمال , وانصرف اهتمام القيادة الى ترجمة كتاب " تاريخ الحزب البلشفي " ولولا أن كتاب " الفلسفة الديالكتيكية " لستالين كان الفصل الرابع من كتاب تاريخ الحزب البلشفي لما أهتمت القيادة بنقله الى العربية . وقد فرضت القيادة على الأعضاء دراسة كتاب " تاريخ الحزب البلشفي " وتلاوته في الخلايا والقاء المحاضرات عنه . فقضى الشيوعيون السوريون واللبنانيون ربع قرن وهذا الكتاب هو مصدر ثقافتهم الوحيد وباتوا يعرفون عن الخلاف بين البلشفيك والمنشفيك وتنظيم الكولوخوز والسوفخوز أكثر مما يعرفون عن تاريخ بلادهم ومراحل نضالها الوطني " ( قدري قلعجي , تجربة عربي في الحزب الشيوعي , بيروت , دار الكاتب العربي , ص 216 ) .





5 - الجهل بقضية الوحدة التنظيمية واشكالها :

يعتبر البعض ان مسألة الوحدة والإنقسام هي مسألة " ذاتية " مرتبطة بطبيعة الشخصيات السياسية التي تقود العمل السياسي والمنظمات السياسية . لذلك كثيرا ما غاب الفهم الموضوعي لطبيعة الشللية والإنقسامية كقضية فكرية بالأساس تحتمل النظر اليها بنظرة بعيدة عن رد الظاهرة في مجملها لإنحرافات الأفراد أو طموحاتهم .. وإن كانت هذه الإنحرافات والطموحات هي امور ينبغي الإلتفات إليها عند التعامل مع ظاهرة الشللية والإنقسام .
الجهل بهذا الجانب " الفكري " و " التنظيمي " يجعل قضية الوحدة التنظيمية تسير في اطار من العلاقات الشخصية أوالمناورات الفردية دون أن تكون للقواعد والجماهير السياسية أدنى دور في مسألة الوحدة وكيفيتها وآليتها .
يرى " شريف حتاتة " في تقييمه لتجربة الوحدة الأولى للمنظمات الماركسية عام 1947 : " ان قضية الوحدة والإنقسام داخل المنظمات الماركسية كانت تتسم بنوع من أنواع الجهل أو التجهيل بأشكالها وعوائقها … لا شك ان عددا من العناصر القيادية والمقربين منهم كانوا يعرفون ما هو أكثر … ولكنني اعتقد أن الأغلبية كانت تعاني من الجهل أو التجهيل الذي كنت أعاني منه , وأنها لم تدرك الكثير مما كان يدور في أعلى المستويات وعن الأبعاد الحقيقية لقضية الوحدة والظروف التي يمكن أن تضمن نجاحها وتحول دون أن تتحطم بسبب الخلافات التي كانت تفصل بين أطرافها .. وكان هذا الوضع إنعكاسا لمستوى الفهم العام و والوعي السياسي القائم أنذاك … وفي رأيي أن قضية الوحدة والإنقسام كانت محاطة منذ البداية بقدر كبير من الجهل وقلة الخبرة والعجز عن الرؤية الشاملة التي تربط الأشياء ببعضها البعض .. عن إدراك الظروف التي إندمجت فيها التنظيمات المختلفة وتوحدت .. هل كانت الوحدة مطلوبة أصلا أم لا ؟ وإذا كانت مطلوبة فما الذي كان يمكن أن يحيطها بضمانات البقاء .. هل كان هناك نوع من أنواع التعجل ؟ وهل كانت بذور الإنقسام مغروسة بقوة في الحركة الشيوعية منذ ولادتها .. أم أن ظروفها كانت لا تختلف في هذه الناحية عن غيرها ؟ ( د. شريف حتاتة , عن الوحدة والإنقسام في الحركة اليسارية , قضايا فكرية , العدد 11 -12 , 1992 ) .

تعليق : على هذا الجزأ نرى أن إقتصار الحوار حول الوحدة داخل الدوائر الضيقة لقيادات الحلقات التنظيمية , كان له دور سيئ في الإنقسام الذي حدث بعد عام واحد من قيام " حدتو " كمنظمة توحيدية , فلقد بقيت معظم قواعد المنظمات المتحدة بعيدة عن الحوار الدائر بين القيادات قبل عملية التوحيد وأثناءها , وغير واعية بطبيعة الخلافات التي يتم الحوار بشأنها ودرجة ذاتية أو موضوعية هذه الخلافات ) .


6 - وحدة المنظمات الشيوعية عام 1958 " حزب 8 يناير :

لم تتوقف محاولات المنظمات الشيوعية في تحقيق وحدتها السياسية بعد إنهيار تجربة " حدتو " عام 1947. وفي غمار المواجهة الحادة مع قادة ثورة يوليو , نجح الشيوعيون المصريون في إقمة قامت أغلب المنظمات الماركسية في تكوين وحدة حزبية جديدة نشأ عنها ما سمي " الحزب الشيوعي الموحد " الذي ضم معظم المنظمات الشيوعية فيما عدا ثلاث منظمات : الراية .. ودال شين .. ومنظمة وحدة الشيوعيين . وقد إستمر هذا الحال حتى عام 1957 حيث ساعدت حرب السويس عام 1956 من ناحية , والإفراج عن المعتقلين الشيوعيين من ناحية ثانية , على إرتفاع موجة ضخمة من أجل وحدة المنظمات الشيوعية مجددا .
يقول " مبارك عبد فضل " ( أحد قادة الحركة الشيوعية المصرية ) : " …وساعد على هذه الموجة , معارك الشعب الوطنية في 1956و 1957 ووضوح سياسة عبد الناصر الوطنية التي كانت تتطلب مساندة كاملة من الحركة الشيوعية المصرية كلها , وقد غذى هذه الموجة نجاح توحيد عدد من المنظمات الشيوعية في الحزب الموحد بما يحمله من أثر إيجابي … وفعلا تمت الوحدة في المحاولة الجديدة على مرحلتين : الأولى كانت في منتصف عام 1957 بين الموحد والراية اللذان شكلا معا الحزب المتحد . والثانية بين بين " المتحد وحزب العمال والفلاحين ( المعروف طوال تاريخه باسم دال شين ) وتمخض عن هذا قيام الحزب الشيوعي المصري المعروف في تاريخ الشيوعيين المصريين باسم ( حزب 8 يناير - تاريخ انعقاد الوحدة في 8 يناير 1958 ) .
المهم ان هذه الوحدة فشلت في منتصف عام 1958 ( مبارك عبد فضل , الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني - حدتو , دار القافة الجديدة )

.. أي أنها لم تستمر ستة شهور !!
لماذا كان الفشل ؟
يقول " مبارك عبد فضل " : " مادامت الوحدة قد فشلت فلها أسبابها.. ولكن السؤال الجوهري هو : هل كان توقيت الوحدة سليما ؟ أي هل كان من المفروض أن تتم في 1957 في عجلة أم كان المفروض تأجيلها لبعض الوقت بحيث تتم مناقشة كافة المسائل التي قد تحل خطرا على مستقبل تلك الوحدة .. لابد أن نقرر أنه كان هناك استعجال لا مبرر لإتمام الوحدة في أسرع وقت بين التنظيمات الثلاثة ؟ ( مصدر سابق , ص 142 ) .

تعليق : قد يظن البعض أن الإنتقال من التجزئة الى الوحدة التنظيمية مجرد عملية إلتئام لمجموعة من الشخصيات الوحدة التنظمية هي عملية شاقة وتحتاج الى جهود صبورة ودؤوبة في التعامل مع القضايا الفكرية والتنظيمية التي تعوق مسألة الوحدة التنظيمية .

7- النزعة الإنعزالية لدى بعض المنظمات :

يرى " عبد مبارك فضل " ان أحد الأسباب التي ساهمت في فشل وحدة 1958 هو نزعة الإنعزالية التي كانت تميز موقف بعض المنظمات الماركسية من عملية التوحيد اساسا وبشكل خاص منظمة " الراية " ومنظمة " طليعة العمال والفلاحين " ( دال شين ) : " … فقد رفضت الراية ودال شين الإنضمام للوحدة سواء في مرحلة المفاوضات التي بدأت في 1953 أو في مرحلة الإنجاز في عام 1955. وكان الرفض بمختلف الحجج وكلها حجج مرفوضة وغير معقولة … وعكس هذا الرفض الموقف المعادي للوحدة من جانب هذين التنظيمين وهو موقف أصبح ثابتا ومعلنا حتى بدايات عام 1957 , حيث أصبحت اللهجة المعادية لوحدة الشيوعيين أقل حدة … ومن هنا كان الحذر في قضايا الوحدة ضروريا في التعامل معهما من جانب الحزب الموحد , فلم يكن من المنتظر أن يتحول أعداء الوحدة طوال تاريخهم الى انصار لها و فجأة خلال الشهور الأولى من عام 1957… ان الحذر كان مطلوبا في معالجة قضية الوحدة .. قد يتهم البعض قائلا أن الحذر مطابق للعداء للوحدة … الحذر الذي أعنيه هو إتجاه توحيدي وثوري في نفس الوقت , وهو يستهدف السعي الى وحدة أمتن وأقوى تتعرض لكافة المحاولات الإنقسامية .. وحدة لا تنهار خلال شهور ستة كما حدث لحزب 8يناير … الحذر الذي اقصده كان يتطلب وضع الأسس الحقيقية سياسيا وتنظيميا لنجاح الوحدة المطلوبة … ان الحذر في معالجة قضية الوحدة مع هذين التنظيمين يعني أنه كان من الضروري الحرص على إقامة علاقات تنسيق في العمل الجماهيري بين الحزب الموحد وهذين التنظيمين .. كانت هذه العلاقات سوف تسمح في مسارها العام , إما ببناء علاقات جماهيرية - ايا كانت مستواها - تسمح بتصحيح المفاهيم الخاطئة في العمل الجماهيري التي سادت في هذين التنظيمين . مما يؤدي الى وحدة في الفهم - أو في مستوى أدنى - تقارب في الفهم المشترك لقضايا العمل الجماهيري بين الموحد وهذين التنظيمين وهذا لم يحدث لفقدان الحذر … كان التنظيمان ( الراية ودال شين ) معاديان للوحدة طوال تاريخهما . فدال شين - وهي الأقدم - كانت ترفض الإنضمام الى مفاوضات أي وحدة وإذا إنضمت الى أي مفاوضات كانت تنسحب منها بسرعة شديدة, وكانت تعتبر أن مهمتها المقدسة هي أفشال أية وحدة شيوعية تظهر على الطريق .. وكلنا يذكر سعيها لتكوين جبهة معادية " لحدتو " في بداية تكوينها … وفي الفترة من 1953 وحتى 1955 رفضت " دال شين " الإنضمام لمفاوضات الوحدة وشنت حملة واسعة من العداء حين تكون الحزب الموحد . وبالنسبة لمنظمة " الراية " , فإن مقولتها المعادية للوحدة وكرستها العبارة التي أطلقتها وهي ( لا شيوعية خارج الحزب الشيوعي ) والمقصود طبعا حزب " الراية " … وقد ظلت " الراية " تدافع عن رؤيتها طوال الفترة من بداية الخمسينات وحتى نهاية 1956 . وكان التنظيمان يشيعان معا أتهامات بالبوليسية لعناصر المنظمات الأخرى وبالذات ضد عناصر حركة " حدتو " … ومن هنا كان إنجرار التنظيمين الى الوحدة عام 1957 مجرد محاولة لإحناء الرأس أمام عاصفة التيار التوحيدي الذي تصاعد في الحركة الشيوعية المصرية مع تشكيل الحزب الشيوعي الموحد , ولم يكن إقتناعا كاملا بقضية الوحدة وهذا ما سهل تحطيم الوحدة التي تشكلت في 8 يناير عام 1958 … وهذا كان يتطلب الحذر " ( مبارك عبده فضل , مصدر سابق , 151 ) .

8 - الصراعات الزعامية بين الحلقات التنظيمية :

تتأسس الحلقات والشلل التنظيمية - اساسا - من وجود فرد أو عدة أفراد يتميزون بقدرات خاصة تميزهم بشكل حاسم عن الأفراد القاعديين الذين يشكلون قاعدة هذه الحلقات . وفي العادة تقوم القيادة بإختيار من يليها من الأشخاص قبل بداية التنظيم . والمشكلة تبدأ ولا شك من هذا النوع من البناء التنظيمي يحصر إختيار القواعد في مضايق التقدير الشخصي والتجارب الإنسانية المحدودة مهما كان اتساعها . ويتضاعف هذا الأمر وينكشف كلما إتسعت الحلقة وكبرت فالقيادة تختار ما يليها وتلك تختار ما يليها … الخ وهكذا تصبح الرابطة الحقوقية في الحلقات مستندة على روابط الولاء الشخصي والمصلحة الذاتية .. وعندما يصل الأمر الى هذا الحد تكون الشلة قد تحولت الى مؤسسة من الأشخاص لا تربطهم رابطة موضوعية .. اللهم إلا رابطة المصالح والمنافع المشتركة .
ويؤدي هذا الجو أن ترفض العناصر الشريفة الثورية أن تزج بنفسها في هذا الجو التنظيمي وصراعات الإنتهازية .
من ناحية ثانية تقوم الرابطة بين قيادة الحلقات وبين قواعدها على رابطة " التبعية " .. تبعية الثانية للأولى .. فالقواعد تشعر أن القيادات مؤهلة بحكم تميزها - أو إمتيازها - بإتخاذ القرارات دون مناقشة أو تحليل فتزداد تبعيتها وتزداد في الوقت ذاته مشاعر التفوق والإمتياز لدى القيادة وتستمد ثقة وهمية بنفسها وتقاوم كل محاولة للنقد أو التغيير .
وهنا تبرز المشكلة الثالثة , وهي مقاومة " القيادة " لكل محاولة للوحدة التنظيمية مع الآخرين خارج نطاق الشلة .. فالتوحيد يهدد هذه الزعامات ويخدش حائط " المعصومية عن الخطأ " التي تغلف به نفسها أمام قواعدها . فالفروق الذاتية والشخصية بين القيادات " المتحدة " ما تلبث أن تظهر وتنكشف أمام القواعد .. وينتهي الأمر بالإنقسام والفشل .

يذكر " شريف حتاتة " ان الإنقسامية التي ميزت الحركة الماركسية المصرية , تعود في شق غير هين منها الى طبيعة القيادات الأوى لهذه الحركات : " … فلقد تكونت المجموعات الأولى للحركة الشيوعية المصرية الحديثة في الأربعينات على أيدي أجانب من الذين أستوطنوا مصر , وعلى الأخص من من المنتمين الى الجالية اليهودية .. وعلى رأس كل مجموعة محرك اساسي , وملهم فكري , ومحفز على التوسع والنشاط .. كان من بين هؤلاء القادة الأربعة الأساسيون " هنري كورييل " الذي اسس " الحركة المصرية للتحرر الوطني - حمتو ) . وكان هناك " جاكو دي كومب " مؤسس " طليعة العمال والفلاحين - دال شين " ومن بعده " صادق سعد " و " ريمون دويك " . وكان هناك " مارسيل اسرائيل " المحرك الأساسي لمنظمة " تحرير الشعب " . وأخيرا كان هناك " هليل شوارتز " قائد منظمة " إيسكرا " .
ويضيف " شريف حتاتة " قائلا : " بسبب هؤلاء الأربعة نشأت منافسات شديدة وخلافات بحكم تزعمهم لأربع مجموعات - لم تكن كبيرة الحجم - وبسبب أصولهم الإجتماعية المختلفة والشخصية وطباعهم وشخصياتهم وكفاءاتهم الذهنية المتباينة .. " فهلال شوارتز " كان مثالا للموظف البيروقراطي الذي وصل الى موقع كبير بينما هو لا يتمتع بأفق واسع أو ثقافة عامة أو عربية تؤهله لليام بالدور الذي أختاره لنفسه .. أما " جاكو دي كومب " فقد ولد أبنا لأسرة مرتاحة ماديا .. ثقف نفسه ودرس الماركسية ولكنه ظل ينأى بنفسه عن المخاطر بطريقة تكاد تكون مرضية وتقوقع واضعا مسافة بينه وبين المجموعات الأخرىوعن النضال العارم للشعب المصري حتى يظل في مأمن وكان يكتفي بتحريك المسائل من الخلف فطبع الحركة التي أنشأها بقدر كبير من الحرص ….
تعليق : ( كانت طليعة العمال والفلاحين متهمة دوما بالتقوقع والتوجس الأمني المبالغ فيه وربما كان ذلك بسبب من طبيعة مؤسسها " جاكو دي كومب - ص.ح ) .

ويضيف " شريف حتاتة " قائلا : " … وكان ثالثهم هو " مارسيل إسرائيل " شخصية عملية سريعة الإنفعال .. رجل تلقائي مفعم بالحيوية والقدرة على النشاط ولكنه قصير النظر ..ضيق الأفق نسبيا في مواجهة التطور السريع أمام الأحداث … وأخيرا " هنري كورييل " أبرزهم من حيث الذكاء والدهاء والقدرة على الإبداع وإستيعاب الواقع والتعامل معه في النشاط الثوري وليس من باب المصادفة انه أغتيل وهو يقود مجموعة ثورية متعددة الإنتماءات الفكرية تقوم بنشاط واسع لمساندة حركة التحرر الوطني في عدد من بلدان العالم الثالث … أما الباقون فقد غابوا عن مسرح النضال الثوري ما عدا " مارسيل اسرائيل " الذي إنزوى في صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي . بين هؤلاء الأربعة أو الست , دار الصراع تؤججه أو تخفف منه عوامل متغيرة مع الزمن والظروف " ( شريف حتاتة , عن الوحدة والإنقسام في الحركة اليسارية , مصدر سبق ذكره , ص 305-306 ) .

تعليق : مهما كانت درجة الإتفاق أو الإختلاف مع رؤية " شريف حتاتة " عن دور " العوامل الشخصية " في عملية الوحدة والإنقسام و فإنه يجب الإعتراف بأن الظاهرة الشخصية " لم تكتسب حتى هذه اللحظة أهميتها من تكوين الحركات السياسية الراديكالية . ان هذه الحركات لم تهتم حتى الآن - وهو شيئ محزن - بضرورة صياغة " نظرية علمية " في التربية الحزبية . ذلك أن البنية النفسية للفرد الثائر والجو الفكري والعقائدي الذي تنمو فيه شخصيته هي مجالات خصبة وهامة مازال الفكر السياسي الثوري يتجاهلها إجمالا أو يعرض عن دراستها عن غير دراية بأهميتها ودورها الخطير في العمل السياسي بشكل عام وفي ظاهرة الوحدة والإنقسام بشكل خاص .
وبسبب هذا الغياب في التربية الثورية , شهدت ساحة العمل السياسي ظواهر كثير من الدسيسة والوقيعة وسلوك التآمر ومواقف التشكيك وتبادل التهم والشائعات ومنهجية المناورة كأفضل علاقة للتعامل بين السياسيين .. وشكلت هذه السلوكيات في مجملها جو الحياة اليومية في الأوساط الثورية والسياسية حتى فسد هذا الجو وأختفت المثل والقيم وتشوهت . وتصبح حرب الشائعات والإتهامات بالرشوة والإنتفاع الشخصي تهمة رائجة في الأوساط السياسية الشللية وقد تصل الأمور الى حد الإتهام بالعمالة والبوليسية مما يجعل العمل السياسي مفتوحا على علاقات التوجس والشك والريبة والنميمية .

وهكذا ينجح في التربع على سطح العمل السياسي نموذج السياسي المناور أو الدساس .. أو السياسي متعدد الولاء الى جهات متناقضة .. ويحاول هؤلاء أعطاء سلوكياتهم " بهرجات " من النعوت والصفات الأيديولوجية بعد أن د خلت " الأيديولوجية " عالم الثوار المراهقين والمزيفين . وتصبح " الأيديولوجية " وسيلة مشروعة لتغطية جميع سلوك النشوز والإنحراف !!
ان غياب " التربية الثورية " و وعدم الإهتمام بها , يصبح عاملا من عوامل سيادة روح الحلقية والشللية بتأثير نوازع " الزعامة " التي تأسر عقول عدد لا بأس به من عقول الشباب الماضل .. وهي نتيجة طبيعية لسيادة روح الفردية التي تسيطر على أعداد كبيرة من هؤلاء الشباب المثقفين .. يساعدهم على ذلك حالة النخلف الإيديولوجي والثقافي والتنظيمي للكوادر القاعدية التي يقودونها .. وهم يحاولون بإستمرار فرض مطامعهم في التزعم من خلال السيطرة الفكرية وغبقاء قواعدهم في حالة تخلف فكري ومنعهم من الإنفتاح على الآخرين خوفا من إهتزاز قيمتهم في عيون قواعدهم .. لذلك نراهم يقاومون كل محاولة لترقية الوعي النظري أو تأطيره في شكل خلاق ومبدع .

ان الوضوح والصراحة ومقاومة السلوكيات المنحرفة التي تتخذ من سلاح الشائعات والمناورات أفضل وسيلة للتعامل بين السياسيين هو الأسلوب الأمثل لمواجهة الحلقية والإنقسامية في الحركات السياسية .
ان التعامل مع الشائعات والنميمة بإعتبارها أمرا " فرديا " أو إنحرافا في الشخصية لا يدرك تأثير مثل هذه السلوكيات على المناخ السياسي وقدرتها على تسميم أجواء الثقة والوحدة والسياسية … كما أن أهمالها , أو عدم الإنتباه لها , يساهم بشكل أو آخر في تكريس الحلقية والإنقسامية ويعوق عملية التوحيد التنظيمي .


ثانيا : حركة القوميين العرب :

1 - يعود تاريخ حركة القوميين العرب الى الفترة الزمنية القصيرة التي أعقبت حرب 1948 . فقد تركت الهزيمة العربية في فلسطين نتائج بالغة الدلالة على المفكرين والسياسيين العرب . وكان " قسطنطين زريق " - الذي كان يعمل محاضرا في الجامعة الأمريكية ببيروت - من أبرز من تنبهوا للخطة الصهيونية وصلتها بالمصير العربي ككل . فبدأ يتحدث عن أن القضية ليست في الهزيمة العربية فقط ’ بل انها فضحت العجز العربي وتهافت الأنظمة العربية التقليدية . ونجح " زريق " في أشاعة أفكار واحاسيس بعجز هذه النظم عن الإستمرار . كذلك أشادت أفكاره بضرورة تولي جيل جديد من الشباب والمثقفين العرب قيادة الحركة العربية وحث الشباب على المضي في هذا الطريق لإستعادة الكبرياء العربي . وكان من تلاميذه بالجامعة الأمريكية " جورج حبش " الذي إستجاب لحماسة أستاذه ولدعوته , وبدأ حبش وزملاؤه يفكرون في أن تكوين حركة سياسية تسعى الى القضاء على ثلاث أنواع من التهديدات : التجزئة السياسية .. الإمبريالية .. اسرائيل .
وهكذا إالتقى " حبش " بزميل آخر هو " وديع حداد " الذي كان يدرس معه بالجامعة الأمريكية ببيروت .. كلاهما فلسطيني . الأول من منطقة الواقعة بين اللد ورام الله . والثاني من شمال فلسطين .وينتميا الأثنان الى طبقة تجارية متوسطة وتخرجا بين عامي 1951 و 1952 من كلية الطب . بدا الثنان في تكوين مجموعات للحوار والنقاش والعمل الوني واتطاعا الإنضمام الى جمعية " العروة الوثقى " التي كانت قد تكونت منذ عام 1918 , وأشترك معهما زميل آخر هو " هاني الهندي " في إدارة تحرير المجلة الناطقة باسم الجمعية وهي مجلة " العروة " .

2 - الحياة العقائدية لحركة القوميين العرب :

المهم في السرد التاريخي السابق , انه حتى عام 1952 لم يكن لحبش ورفاقه نظرية سياسية محددة ور شكل تنظيمي ينتمون إاليه ولكن بمرور الوقت شعروا بالحاجة لتكوين شكل تنظيمي جديد . وكانت لديهم حساسية خاصة من الأحزاب السياسية وبشكل خاص حزب البعث الذي إتبروه حزبا من الأحزاب المنتمية الى عصر ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948 . وفضل هؤلاء الشباب أ، يطلقوا على أنفسهم حركة " القوميين العرب " بإعتبار أنهم يمثلون فصائل العرب القومية وليس طبقة أو فئة بعينها .
كانت القضية الفلسطينية هي القضية المحورية في فكر هؤلاء الشباب ومن ثم بقيت هذه القضية وتطوراتها هي التي تحكم تطورات أفكار الحركة وممارساتها السياسية وانشقاقاتها التنظيمية .
وهكذا بقيت الحركة حتى عام 1960 لا تطرح اي مضمون إجتماعي للوحدة القومية , وكانت الحركة حتى هذا الوقت تؤمن بما أسمته " نظرية المراحل السياسية " أي تجزئة الأهداف القومية وتحقيقها عبر فترا زمنية متتالية , وعبرت عن هذا في أنها وضعت للعوامل السياسية الأولوية المطلقة على العوامل الإقتصادية والإجتماعية وأمنت بأن المشكلة تنحصر في عدم تحقيق الوحدة العربية والتنسيق بين القوى العربية.
ولقد أسفرت هذه المسيرة الفاقدة لضابط نظري أن تحولت الحركة الى حركة تجريبية وسرعة تأييدها لأية تجارب وحدوية دون أعتبار للخلافات الفكرية والإختلافات في البناء الإجتماعي , وكانت الحركة تتودس بشكل خاص من الفكر الإشتراكي ومفهوم الصراعات الطبقية وبررت ذلك بأنه ليس من المناسب ان يناضل الوحدويون على أكثر من جبهة واحدة داخليا في كل قطر وخارجيا في المنطقة العربية لتحقيق الوحدة العربية .
وظهر تأثير " انعدام الوحدة الفكرية " على مسيرة الحركة بدأ من عام 1960 حيث شهدت الحركة تطورين مهمين : أحدهما التطور الفكري تجاه الماركسية والأخذ بالصراع الطبقي الذي أعلنته مقالة " محسن إبراهيم " في مجلة " الحرية "في آيار / مايو 1960 وكان ذلك إيذانا ببدء الإنشقاق الفكطري بين ما أطلق عليه التيار اليساري في الحركة والتيار اليميني .
أما الأمر الثاني فكان إقرار المؤتمر القومي للحركة بإستقلالية الفروع عن المركز , وتتابعت الأحداث سريعا لتفعل فعلها في تعميق الخلاف الفكري والتنظيمي داخل الحركة .

3- حتى في مواجهة القضية الفلسطينية والتي كانت الدافع الأساسي لنشأة الحركة , إستقل " حبش " ورفاقه وكون ما سمي بالجبهة القومية لتحرير فلسطين والتي كانت حتى قبل النكسة عام 1967 تمثل جناحا جديدا للحركة تبنى أساسا القضية الفلسطينية وأعلنوا ان جهدهم سيتركز في تقوية السياسات العربية الرسمية في مواجهة اسرائيل .
ولكن بعد نكسة 1967 قطعت الحركة ىخر خيوط إتصالها بالناصرية وحدث شبه انتفاق فكري بين أعضاء الحركة عن مسئولية " عبد الناصر " عن الهزيمة فيما سمي آنذاك : " مسئولية البرجوازية الصغيرة عن الهزيمة " . وأعلنت الحركة أن الوقت قد حان للتولى الطبقات العاملة العربية - صاحبة المصلحة الحقيقية في القضايا القومية - مسئولية الثورة الإجتماعية وهدف التحرر الوطني .
وهكذا أعلن " حبش " قيام منظمة " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ديسمبر / كانون عام 1967 , والتي إنشق عنها " احمد جبريل " وكون منظمة " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة " .
ومرة أخرى دب الخلاف بين بين اليسار واليمين داخل الحركة وإنشق ط نايف حواتمة " عن حبش عام 1968 وكون تنظيم " الجبهة الديمقراطية الشعبية لتحرير فلسطين " . من جهة أخرى إستمرت الفروع الأخرى للحركة في حالة الصراع الداخلي بـاثير عمليات الإنشقاق والإنقسام المطردة التي نتجت عن الخلاف مع قيادة التنظيم الأم .
الى ان جاء عام 1969 ليعلن نهاية الحركة كحركة قومية وحدوية كما قدمت نفسها للمواطن العربي في أوائل الخمسينات. وهكذا أعلن ما يسمى " يسار الحركة " الإنفصال في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية لحركة القوميين العرب متخذا القررات التالية :
1- يسار الحركة يعلن تصفية الجيوب اليمينية .
2- يسار الحركة يعلن تصفية حركة القوميين العرب شكلا ومحتوى .
3- يسار الحركة يدعو جميع التقدميين في كل قطر الى المشاركة في صنع تجارب قطرية ثورية بعيدا عن كافة ألوان العصبية الحزبية .
4- يسار الحركة ويسار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الساحة الفلسطينية يعلن تصفية علاقاته مع يمين الحركة ويمين الجبهة .
5- وبهذا البيان تكونت قد أنهت حركة القوميين العرب نفسها كحركة قومية مركزية القيادة وقطرية الفروع .

4 - المنشأ الإجتماعي لحركة " القوميين العرب " :
لا يمكن بالقطع إهمال المنشأ الإجتماعي للقيادات الأولى التي قامت على أكتافها تأسيس حركة القوميين العرب .فلقد كان القادة المؤسسون ينتمون أساسا الى الطبقات الإقطاعية والتجارية الرأسمالية بصفة عامة من الذين حصلوا على تعليما عاليا في الجامعات العربية وبشكل خاص الجمعة الأمريكية ببيروت . وقد إتخذ هؤلاء من الدعوة القومية مجالا للسير في ركاب الأفكار القومية التي كانت رائجة آنذاك في الفكر الأوروبي العلماني وذلك حتى لا يوصموا بالرجعية .. هذا طبعا دون أن يتنازلوا عن إمتيازاتهم الموروثة .
كما أن تمويل وتبرع " اميل البستاني " المالي اللبناني الكبير بأموال لتمويل الحركة وهو الذي كان على صلة بالمخابرات البريطانية و جلب شبهات واسعة للحركة بإحتمال أن تكون هناك قوة أجنبية وراء قيامها .
ورغم أن الحركة استطاعت في بدايتها أن تستقطب فئات من المثقفبين الذين كانوا يعانون من مرارة الظلم الإجتماعي , ورغم أنها استطاعت ان تنجح في تجنيد عدد كبير من الفلسطينيين الذين شكلوا الأغلبية الساحقة من كوادرها التنظيمية ’ إلا أن طابع المنشأ المعتمد على أبناء الإقطاع والرأسمالية وبعض السر الحاكمة لعب دورا كبيرا في تطور ومستقبل الحركة .
فقيادة الحركة لم تجد حرجا في استقطاب عناصر من البرجوازية الكبيرة ذات المصالح والمواقع الوطنية الجزئية , كما لم تجد حرجا في الترحيب بعناصر ارستقراطية وشبه اقطاعية من الذين تعاملوا مع الحركة في البداية وعززوا من عدائها لفكرة الإشتراكية والصراع الطبقي . ومع أن الحركة ضمت في تلك المرحلة عناصر من البرجوازية الصغيرة , إلا ان أكثرية هؤلاء كانت من الطلاب في سن المراهقة النفسية والسياسية والذين استهوتهم الطقوس السرية شبه العسكرية للحركة ولم تستطع الحركة في تلك المرحلة أن تكون حزبا للبورجوازية الصغيرة , فكانت معظم الوقت تمثيلا للبوروجوازية المتوسطة والكبيرة . ففي العراق ظلت الحركة تعيش عزلة خانقة . بل ان حزب الإستقلال استطاع ان يقيم تحالفات مع الشيوعيين والبعثيين في حين عجزت الحركة بسبب مقفها من الشيوعية والإشتراكية عن الدخول في أية تحالفات وطنية ولم تلعب أكثر من دور هامشي في احداث العراق بعد ثورة 1958 .
وفي الأردن استطاعت الحركة ان تشق طريقها في الفئات المتنورة من البرجوازية المتوسطة حين اتخذت من " المنتدى العربي " واجهة لنشاطها . وعبر هذا النتدى التقي حبش وحداد مع محمد الفرحان رجل الأعمال الأردني والذي كان قد أسس " مؤتمر عمان " مع نفر من الجناح المتنور في البرجوازية الأردنية . وقد أثر هذا التكوين على الحركة فعندما لجأ الملك حسين الى سياسة الأرهاب والقمع تخلت هذه العناصر عن الحركة بل كان هؤلاء أنفسهم هم الإحتياطي الذي كان يمد الوزارات الأردنية المتعاقبة بالوزراء وفي الوقت ذاته كان الملك يدعم مؤسساته بعناصر قضت سنوات خدمتها السياسية الأولى في صفوف " القوميين العرب " .
ومع خروج جورج حبش وحواتمة من الأردن لم تبق في قيادة الحركة في الأردن الا العناصر البرجوازية التي جاءت من مؤتمر عمان , مما اصاب فرع الحركة في الأردن بإنتكاسة كبيرة لم يخرج منها إلا مع إزدهار حركة المقاومة الفلسطينية في أعقاب هزيمة 1967 .
أما في الكويت فلقد لقيت الحركة ظروف أكثر ملاءمة من بقية الأقطار . ذلك أن الثروة النفطية المستجدة على البلاد أفرزت طبقة برجوازية تجارية لم تستطع الأطراف السياسية والإدارية للنظام العشائري القديم أن تستوعبها . وقد استفادت الحركة طويلا من هذا التناقض المؤقت بين شيوخ العشائر والتجار , أو بين النظام والبرجوازية المدنية العلمانية . ففي ظل هذا الفراغ استطاع الدكتور احمد الخطيب ( زميل حبش وحداد في الجامعة في بيروت ) أن يشكل تنظيما لعب دورا بارزا في الكويت عندما تحلقت حوله البرجوازية التجارية الكبيرة والمتوسطة ووجدت فيه ذالتها المنشودة امام النظام القبلي العشائري .
ولكن نفوذ الحركة أخذ في الإنحسار تدريجيا في الكويت مع تضاؤل شقة الخلاف المؤقت بين البرجوازية التجارية والنظام الحاكم خصوصا بعد تحول الحركة الى الإشتراكية الناصرية ثم الماركسية بعد ذلك حتى تقلص دور فرع الكويت ووصل الى حالة الجمود التام عام 1967 .





.






ونحن ندعوكم للحوار بلا شروط إلا الموضوعية العلمية .. وأيضا.. نقد الذات !!



بقلم الدكتور صفوت حاتم


حضرات الزملاء الأعزاء المثقفين الأمريكيين :



صدر أخيرا ردكم على رسالة المثقفين السعوديين .. ونحن لا نشك لحظة واحدة أن لديهم من الإدراك والمسئولية الفكرية ما يمكنهم من الرد على رسالتكم بما تستحقه من عمق التفكير وأصالة التحليل ..

ثم ندخل في الموضوع :



1 - تقولون - مثلا - في ردكم أنكم تدافعون عن مبدأ الحكومة الدنيوية وتقصدون بها النظام الدستوري الذي لا يمنح رجال الحكم السلطة انطلاقا من مكانتهم في الهرمية الدينية أو على أساس تعيين السلطة الدينية إياهم في مناصبهم … " .

ولعلكم تعرفون أنكم لستم الوحيدون الذين يقولون بذلك .. فجزء كبير من الأدبيات الإسلامية المعاصرة يشدد في مواضع كثيرة منه على عدم استناد السلطة السياسية على القواعد الدينية .. وهي أدبيات قد تجهلون حجمها أو تأثيرها في الفكر الإسلامي المعاصر .. ولكنها موجودة بعمق في واقعنا الفكري منذ أن أصدر الداعية الإسلامي " الشيخ علي عبد الرازق " كتابه عن " الإسلام وأصول الحكم " ..

والأمر لا يتوقف - بطبيعة الحال - عند حدود الجدل النظري والحوار الفكري .. فتجربة الجمهورية الإسلامية في إيران – مثلا - تستند على قواعد اختيار الأمة لممثليها التشريعيين ولرئاستها التنفيذية بالانتخاب المباشر من مجموع مواطنيها الذين يحق لهم الانتخاب دون تعيين من السلطة الدينية .. ولا يقلل - بطبيعة الحال - الإدعاء هنا بوجود مرشد فكري إسلامي للجمهورية مادام الاختيار يتم في كل الأحوال استنادا علي صندوق الانتخابات كما يحدث في الديمقراطيات البرلمانية وإن كانت لا تتطابق معها .



الاستعمال العادل للقوة !



2 - تقولون في ردكم أنكم توافقون - المثقفين السعوديين في أن الأمن لا يفرض بالقوة وأنكم تقرون بأهمية هذه النصيحة .. ولكنكم تضيفون إضافة ذات معنى تقولون فيها : … إننا نذكركم بأن السياسة , وهي المعنية بترتيب شئون حياتنا بعضنا مع بعض , تعني جزئيا بالاستعمالات العادلة للقوة وبالتالي لا يسعها التهرب من مسألة القوة "



كلام جميل .. ولكن هل يمكن أن يندرج تحت بند الاستعمالات العادلة للقوة :

1- " الحصار " المهلك الذي يفرض على الشعب العراقي منذ أكثر من عشر سنوات والذي قدرت المؤسسات الدولية ضحاياه بالملايين .. وهل من العدل أن يعاقب الشعب العراقي بهذا الحصار لا لشيء إلا لأن نظامه السياسي قد أساء لكم ؟

2- وهل تعتقدون أنه يمكن أن يندرج تحت بند الاستعمالات العادلة للقوة قصف وقتل عدة عشرات من المدنيين الأفغان لمجرد أن نظامهم السياسي قد أساء لكم ؟

3- وهل تعتقدون أنه يندرج تحت بند الاستعمالات العادلة للقوة الحصار المميت المفروض على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ست سنوات لمجرد أن وجه السيد ياسر عرفات يثير في أذهانكم كواييسا وأشباحا تعود لأزمان بعيدة ؟

أعتقد أنه سيكون من الصعب عليكم التنصل من مسئولية حكومتكم عما يحدث للفلسطينيين فيما لو أخذتم في الاعتبار مسئوليتها القانونية والأخلاقية عن الاتفاقات التي شهدت عليها وكانت الضامن الأساسي لتنفيذها ؟

لذلك نحن نوافقكم .. أو بالأحرى مضطرون أن نوافقكم على الإقرار : " أنه لا يمكن التهرب من مسألة القوة .. وأنه من الأفضل الإقرار بهذا الأمر صراحة بدلا من افتراض شرط غير متعارف عليه في الممارسة السياسية الفعلية , بل أيضا في الممارسة الدينية " كما تقولون .

ولكن إتفاقنا معكم في هذا القول لن يعني - في الواقع العملي - سوى الإقرار بحق الطرف الآخر المسئول عن هجوم 11 سبتمبر عن " الاستعمالات الجزئية والعادلة للقوة " .. وأنه - هو الآخر - لم يجد بدا من الإقرار بهذا صراحة بدلا من افتراض شرط غير متعارف عليه في الممارسة السياسية والدينية .. في مثل هكذا حال أين تقف الحقيقة فعليا : على شواطئكم أم على شواطئهم ؟



مسئولية السعوديين عن هجوم 11 سبتمبر



لقد تألمتم - في ردكم - من عدم اعتراف المثقفين السعوديين صراحة بأن طبيعة المجتمع السعودي و " بن لادن " هما المسئولان عن سقوط الضحايا الثلاثة آلاف الأبرياء في هجوم 11 سبتمبر .. ونحن نشاركم هذا الألم حقا وصدقا .. ولكنكم تعودون للقول : " كيف يسعنا أن نصدق أنكم لا تعلمون أن 15 من أصل 19 هم من التابعية السعودية .. أو أن تنظيم القاعدة .. حصل على مدى سنين على الدعم المالي من البعض في بلادكم ؟ أو أن انتشار العنف الذي تقدم عليه الجماعات الإسلامية في أنحاء العالم من أفغانستان إلي إندونيسيا والولايات المتحدة , يمكن تتبع أصوله , في بعضه على الأقل , إلي الدعم المالي والسياسي والديني من مصادر في بلادكم ؟ ( نلاحظ فقط أنكم استخدمتم صيغة الجمع فيما يخص الجماعات الإسلامية في إنحاء العالم دون أي استثناء ودون احتراز لغوي .. بينما استدعت مسألة الدعم المالي أن تحترزوا مستخدمين تعبير " في بعضه على الأقل " .. وهو احتراز نشكركم عليه ولكنه يفصح عن أشياء كثيرة قد نعالجها في وقت آخر ! ) .

من جانبنا لا نعتقد أن المثقفين السعوديين سيجيبون على هذه الأسئلة الأخيرة كما تتوقعون أو تأملون .. فمساحة الحرية السياسية التي يتمتعون بها تقل كثيرا عن مساحة الحرية التي مكنتكم من طرح الأسئلة .. ونحن نعذرهم .. ولكننا كنا نأمل أن تتيح لكم مساحة الحرية والديمقراطية الواسعة التي تتمتعون بها أن تفصحوا بشجاعة عن هذا " البعض في بلادهم " الذي كان وراء الدعم المالي وماهية "المصادر " تلك التي تعنونها بدلا من إحراجهم بأسئلة نشك في قدرتهم على الإجابة عليها ؟

باعتقادي أنكم ستهبون العدل والحقيقة والحرية الكثير فيما لو أفصحتم عن هذه المصادر وعن هذا " البعض " ؟!

وربما سيكون من المستحسن أيضا في إطار " اليقين هذا " الذي تتمتعون به أن تحدثونا عن المسئولية التاريخية " للبعض " في بلادكم عن دعم الفريقين في نشاطاتهم من إندونيسيا إلى المملكة العربية السعودية إلى الولايات المتحدة الأمريكية .. وسنكون شاكرين لكم لو أفصحتم عن " المصادر " في بلادكم التي كانت تهيئ الطرفين لهذا المستقبل الواعد ؟!







هل إدانة الاحتلال العسكري تحتاج إلي نقاش ؟



في كل ما سبق من ردكم كنتم تعيبون على المثقفين السعوديين عدم إدانتهم الصريحة " لبن لادن " وتنظيم "القاعدة " وكذلك إدانة البعض " في بلادهم ممن كانوا يقدمون الدعم المالي لهما .. وهذا حقكم .

ولكنكم تقولون في موضع آخر من رسالتكم : " … نحن ندرك أنكم تختلفون مع السياسة الأمريكية إختلافا مبدئيا في موضوع الدعم الأمريكي لإسرائيل .. وهي أمور تستحق بالفعل المناقشة , ويمكن الإختلاف فيها بصدق وإخلاص "

وبنفس الطريقة نسألكم : هل إدانة الإحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية يستحق بالفعل المناقشة ؟

هل المطالبة بالإ نهاء الفوري للإحتلال العسكري الإسرائيلي أمرا يمكن الإختلاف فيه بصدق وإخلاص ؟

ألا تعتقدون أن " البعض " في بلادكم يدعم هذا الإحتلال وأن بعض " المصادر " في بلادكم تشجعه على التمادي ؟

أعتقد أنه لن تعوزكم الحرية السياسية ولا النزاهة الإخلاقية ولا الموضوعية العلمية لكي تجيبوا على هذه الإسئلة دون لف أو دوران !







وأخيرا .. مسئوليتنا ومسئوليتكم !


تقولون في ردكم على المثقفين السعوديين : " أننا في الوقت نفسه نطلب منكم أن تعيدوا النظر في التوجه السائد في رسالتكم والذي يلقي اللوم على الجميع إلا قادتكم ومجتمعكم .. قادتكم الذين يجدون فائدة في اللجوء إلى إثارة البغض إزاء الآخر أو " العدو " في سبيل تحويل أنظار الجمهور عن المشاكل الفعلية القائمة .. الى آخر الفقرة " .

نشكركم على النصيحة الغالية .. ولكننا نجدها في غير موضعها .. ذلك أن نظرة سريعة منكم على تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية ستكشف لكم حجم التضحيات التي تدفعها مجتمعاتنا من أجل تسليط الأنظار على مشاكل مجتمعاتنا من البطالة الى غياب الحريات الديمقراطية والتي يدفع فاتورتها الرهيبة قادة حزبيون ورجال رأي ومثقفون و نقابيون وصحفيون ومحامون .. فيكون جزاءهم أن تحتويهم السجون أو القبور!

تلك مسئوليتنا ونحن نعرفها ولا نتهرب منها .



لكن .. ألا نستطيع أن نسألكم - بدورنا - عن موقفكم من " البعض " في بلادكم ممن يساهمون بوسائل مختلفة في تثبيت هؤلاء القادة " في بلادنا " في مواقعهم في السلطة السياسية ودعهم بكافة ألوان التغطية المادية والمعنوية ؟

وأخيرا .. هل يمكن أن نسألكم عن دوركم في مكافحة تيار العسكرة والفاشية المتصاعد بشكل خطر في بلادكم والذي يهدد مجتمعكم والعالم كله من خلال اللجوء الى إثارة البغض إزاء " الآخر " أو " العدو " ؟

لو أجبتم على كل هذه الإسئلة بصدق وإخلاص .. ربما تجدوننا بجانبكم في كل المعارك التي تأملون خوضها لصالح الإنسانية والحقيقة الموضوعية!








الوحدة العربية..و أسئلة القرن الجديد 1



بقلم : دكتور صفوت حاتم




1 - عندما نجح " جمال عبد الناصر " في تحقيق أول وحدة عربية بين إقليمين عربيين هما مصر وسوريا عام 1958 كان يعلم أن المعركة مع أعداء الوحدة العربية في الداخل والخارج قد بدأت . فمع هذه الوحدة بدا الحلم الذي طال إنتظاره وكأنه قد أصبح قابلا للتحقيق في النهاية . فقد بدأت الأنظمة المعارضة للمشروع النهضوي العربي في الإنهيار , فسقط الحكم الشمعوني في لبنان وسقطت المملكة الهاشمية في العراق وبدا أن هناك إتجاها قويا داخل " الضباط الأحرار " العراقيين الذين قاموا بالثورة يضغط بإتجاه الإلتحاق السريع بدولة الوحدة الناشئة والتي كان من نتائجها المباشرة نزول القوات الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأردن بعد أن إجتاحت عمان وبيروت مظاهرات عارمة يلهبها حلم الوحدة الذي فجره عبد الناصر . وقد قدرت وكالات الأنباء آنذاك " رويتر " و " الأسشياتوبرس " أن عدد اللبنانيين الذين قصدوا بيروت بإتجاه دمشق التي كان يزورها الرئيس عبد الناصر قد وصل إلى نصف مليون , أي أن نصف لبنان قد شارك واقعيا في مواكب الرحلة إلى دمشق خلال فترة لاتزيد على أسبوعين . من ناحية أخرى تأججت الثورة في الجزائر وبدت الأمور – آنذاك - وكأننا نسير نحو النصر النهائي للمشروع العربي الذي بدأت ملامحه قريبة تداعب الخيال الشعبي . أن الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة كشف بشكل فجائي وصاعق عن جوهر المشروع النهضوي العربي , أي الوحدة العربية , وكشف في ذات الوقت عن أعداء هذا المشروع , الخارجيين والمحليين . ( إستطاع محمد حسنين هيكل ان يكشف بالوثائق حالة الهوس والجنون التي إنتابت هذه القوى بعد إعلان الوحدة المصرية السورية عام 1958 في كتابه الممتاز " سنوات الغليان ) .



2 - لقد أدركت القوى المعادية للأمة العربية - من ناحيتها - المعنى التاريخي العميق للوحدة العربية وإمكانياتها على توازنات القوى العالمية ومستقبلها . فصراعات القوى الكبرى كان - ولا زال - يدور حول هذه المنطقة بالذات . ولقد أكسب ظهور النفط فيها لهذا الصراع بعده المستقبلي . فالنفط سيظل وحتى إشعار آخر هو العامل القادر على التحكم في مستقبل القوى العظمى وتطورها التكنولوجي والحضاري .

لذلك لم يكن غريبا أن يعتبر بعض المفكرين العرب أن أكبر إنتكاسة لحقت بالمشروع النهضوي العربي المعاصر هو إنفصال الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ( سوريا ) عن الإقليم الجنوبي ( مصر ) . ولم تكن الهزائم العسكرية أمام العدو الصهيوني سوى " تجليات " لهزيمة المشروع الوحدوي بالإنفصال عام 1961.

والمعروفالآن أن بعض دوائر الحكم في مصر كانت قد أخذت في تحميل " عبد الناصر " شخصيا مسئولية " المغامرة الوحدوية " وتلقي عليه باللوم .

ولكن الشيئ الذي لم يكن محل تحليل معمق حتى هذه اللحظة هو رد فعل " عبد الناصر " نفسه على ضربة الإنفصال .

يذكر " محمد حسنين هيكل " - مثلا - أن الرئيس " عبد الناصر " وصف شعوره - آنذاك - كوضع قبطان وجد سفينته وقد إنشطرت الى نصفين وهي في وسط البحر , وأنه قضى أياما طويلة يراجع نفسه , ويستذكر تفاصيل تجربة الوحدة وآمالها ومشاكلها . كان شعوره الداخلي أن التجربة جاءت قبل الأوان و ولم يكن لها أساس موضوعي صلب لتحقيقها في هذا الوقت بالذات و ومع ذلك فقد حدث أنها قامت وكان الحرص عليها واجبا . وكان يراوده إحساس بأن الإحتفاظ بالوحدة مهما كانت الظروف كان يمكن أن يعرض سوريا لضرورات أمن لم يكن على إستعداد لها وإلا وقع الضرر بهدف الوحدة نفسه . ( سنوات الغليان , ص 591 ).



ما الجديد في مسألة الوحدة العربية ؟



3 - ومنذ ذلك التاريخ , كتبت آلاف الكتب والمقالات وعقدت مئات الندوات والمؤتمرات لدراسة موضوع الوحدة العربية , تبحث في المعوقات والعقبات , وتقترح الحلول والسياسات , وتتصور الأساليب والطرق .

ولكن بالرغم من كل هذه الجهود فإننا لم نتقدم خطوات كثيرة بإتجاه الوحدة . على العكس تدهور الوضع العربي كثيرا منذ هذا الإنفصال المشئوم وبعدنا عن كل صور التضامن العربي إلى أشكال مروعة من الصراعات الإقليمية والطائفية والقبلية التي كانت حرب الخليج الثانية وما أستخدم فيها من عنف " مجاني " هو أحد مظاهرها الساخرة .



مالذي يمكن أن " تكتشفه " - إذا - دراسة جديدة عن الوحدة العربية ؟

ومالذي يمكن أن تضيفه دراسة أخرى الى آلاف الدراسات والكتب المتخصصة التي كتبت عن موضوع وجوانبها المختلفة : فهناك آلاف الدرسات عن دور الإقتصاد والتكامل الإقتصادي أوالعامل الثقافي أوالعامل الحضاري أو دور الأبنية السياسية القطرية أو تأثير اللغة العربية ومخاطر اللهجات والعاميات الدارجة أومشاكل الصراع الإقليمي.. الى آخره ؟



مهمة صعبة ومستحيلة .



4 - لذلك لا يبدو منطقيا أن نتكلم عن الوحدة العربية الآن بنفس الخطاب الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات. فقد كانت الأوضاع السياسية والفكرية السائدة - آنذاك - تشهد حالى صعود لنظام إقليمي عربي قوامه الفكري الإيمان بالوحدة العربية وقوامه السياسي مواجهة الإستعمار ورفض الأحلاف , وقوامه الإجتماعي التنمية المستقلة والعدالة الإجتماعية , وقوامه الطبقي الفئات الكادحة والمسحوقة من الجماهير العربية وقوامه التحرري كان تحرير فلسطين من القبضة الصهيونية . ورغم أي تراجعات أو تذبذبات في هذا المشروع العربي , فلإننا لا يمكن أن ننكر أن السعي لتحقيق هذه الأهداف كان مشروع المستقبل للعرب خلال الخمسينات والستينات .

لكن تبدل الحال بشكل جذري بعد وفاة عبد الناصر وبشكل يصعب تصديقه . فموجة العداء للغرب أفسحت المجال لسياسات وأقوال ترى في الغرب " المخلص " للعرب من كل مشاكلهم وأولها مشكلة الصراع العربي الصهيوني التي حكمت المنطقة وتوجهاتها في الحقبة الناصرية على نحو حاد , وهكذا أصبح للغرب 99 في المائة من أوراق حل المشكلة كما عبر عن ذلك الرئيس السادات الذي قاد هذا التحول الرهيب في حياة الأمة العربية . وبعد أن كانت سياسة الموالاة للغرب تمارس سرا من بعض الأنظمة العربية , تحول الأمر الى سياسات تؤيد الغرب علنا , وإنتشرت مع التعاظم المفاجئ والفج في الثروة النفطية , موجة من المتاجرات والمضاربات المالية , وكشف العالم العربي مرة أخرى عن وجهه المحافظ في السياسة والفكر والدين والثقافة.

5 - إن المحافظة السياسية والفكرية التي عرفتها مصر بعد غياب عبد الناصر ستتخطى حدود مصر لينزلق فيها العالم العربي كله . حتى الأقطار التي كانت ترفع شعارات وواجهات " يساروية " في العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ( قبل الوحدة مع الشمال ) والمقاومة الفلسطينية , ستتحول عن هذه " الراديكالية " لتصبح سياسة مغازلة الغرب نهجا كاملا ومسيطرا في السياسة العربية الرسمية . ثم لن تلبث أن تلتحق بهذه السياسة قطاعات من النخبة المثقفة التي رأت أن عجلات الزمن تدور في الإتجاه المعاكس , خصوصا بعد أن إنهار المعسكر الإشتراكي إنهيارا مدويا صحبه وماتبعه من إحساس عارم بالخزي من هشاشة البناء الذي شيدت عليه أول تجارب البناء الإشتراكي في التاريخ والسهولة العجيبة التي أنهار بها .



أسئلة القرن الجديد



6 - يدخل العرب - إذا - القرن الجديد في ظل أوضاع جديدة ومخالفة عما كان سائدا - ومتوقعا - خلال بداية الخمسينات والستينات .

هذا القرن الجديد يطرح على العرب إسئلة جديد حول المستقبل من نوع. وهي أسئلة تهم النخبة العربية المهمومة بالمستقبل العربي كوحدة واحدة وليس كوحدات متفرقة في أقطار متعددة ومتنافرة في مصالحها .

وهي أسئلة موجهة للنخب العربية المؤمنة بمسألة الوحدة العربية , دون سواها . فلسنا معنيين - في هذه الدراسة - بإقامة ألف دليل ودليل على ضرورة الوحدة العربية لغير المؤمنين بها مهما كانت عقلانية أسبابهم النظرية أو صلابة مواقفهم السياسية !!

السؤال الأول : وحدة عربية في ظل هيمنة أمريكية ؟

7 - لقد دأب الفكر السياسي التقليدي على الكلام عما سمي " حقبة التوازن الدولي " خلال حقبة الحرب الباردة . ولكن التحليل السياسي الجاد يفرض على الباحث السياسي كثير من الحرص والحذر في استعمال الألفاظ . فحقيقة الأمر أنه لم يتواجد قط هذا النوع من " التوازن " بين القوتين العظمتين خلال حقبة الحرب الباردة .

لقد كشفت أزمة خليج الخنازير عام 1962 ( بسبب نشر الصواريخ الروسية سرا في كوبا ) وما تبعها من إنكسار للموقف السوفييتي أمام الضغوط الأمريكية عن حدود التوازن الدولي الذي تمشي علي مساحته الضيقة حركات التحرر الوطني .

ربما كان أول من عبر عن " خيبة الأمل " في هذا التوازن هم ضحاياه الحقيقيون .

8 - لقد كان " تشي جيفارا " بصراحته الثورية هو أول من عبر عن " خيبة أمله " في التوازن بين القوتين العظمتين . ففي خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في يناير / كانون الأول 1964 ألمح أنه قد بدأ يفقد ثقته بالحلول السلمية بما فيها المواثيق والإتفاقات التجارية والمحادثات والعون الأجنبي . فهذه لن تحل الصراع بين الغني والفقير .

لقد جعل " جيفارا " من نفسه لسان حال شعوب العالم الثالث عندما أعلن في هذا الخطاب : " … ان التعايش السلمي بين الأمم لا يشمل التعايش بين المستغلين ( بكسر الغين ) والمستغلين ( بفتح الغين ) بين المضطهدين والمضطهدين " .

كانت هذه العبارة هجوما صريحا على المحاولة الروسية الجديدة لتحقيق " تعايش سلمي " مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن جعل " كنيدي " " خروتشوف " يتنازل عن موقفه ويسحب الصواريخ من كوبا .

ولقد طور " جيفارا " فكرته عن " التوازن الدولي " وحدوده الضيقة بصورة أكثر قوة في مؤتمر التضامن الأفرو – اسيوي الذي عقد في الجزائر في شباط / فبراير عام 1965 والذي هاجم فيه السياسة الروسية بصورة مباشرة , مسببا الإرتباك للحكومة الكوبية والحنق للروس الذين شعروا بأنهم سبق لهم أن قدموا الكثير لكوبا وأنه لا مبرر أن توجه لهم الإهانات .

9 - ولكن " جيفارا " الذي كان محكوما " بالمنطق الثوري " لم يكن مستعدا للتضحية بهذا " المنطق " لمجاملة الروس. فحتى الروس كان عليهم ان يعلموا انه لا توجد منه في تقديم العون للشعوب المتحررة . وأعلن " تشي جيفارا " ان من واجب البلدان الإشتراكية أن تصفي علاقاتها الضمنية مع الأمم الإستغلالية في الغرب " . فالبنسبة " لتشي " لم يكن هناك من تحديد للإشتراكية سوى إزالة استغلال الإنسان للإنسان . فليس بوسع أي بلد أن يشيد الإشتراكية بدون أن يساعد جميع البلدان على بناء الإشتراكية ومهاجمة الإمبريالية "





وأعلن " جيفارا " :

: " ليس هناك من حدود لهذا " الصراع حتى الموت " ولا نستطيع أن نبقى لا مبالين في وجه ما يحدث في أي جزء من العالم . ان انتصار أي بلد ضد الإمبريالية هو انتصار لنا , تماما كما أن هزيمة أي بلد ضد الإمبريالية هو هزيمة لنا . ان ممارسة التضامن العالمي ليست من واجب البلدان التي تناضل من أجل تحقيق مستقبل أفضل فحسب بل انها ضرورة حتمية أيضا " .

(جيفارا , آندرو سنكلير , ترجمة ماهر كيالي , المؤسسة العربية للدراسات والنشر) .

10 - ان صورة " عالم ثالث " منفصل في المصالح عن الكتلتين الرأسمالية الشيوعية كان قد اتضح تماما في ذهن زعماء العالم الثوريين الذي لعب " جيفارا " دورالمتحدث الرسمي باسمهم وباسم شعوب العالم الثالث آنذاك . لقد تنبأ " جيفارا " بالكارثة " أو " الوحلة " التي ستغرق فيها شعوب العالم الثالث في الربع الأخير للقرن العشرين . ففي كلمته في مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة في مارس / آذار عام 1964 حين طالب " بألا يدب التنافس والتنازع بين الأمم الصغيرة في سبيل الحصول على القروض من الأمم الغنية , بل عليها أن تتمسك بالتضامن فيما بينها … إذا كانت مجموعة الدول المتخلفة تتنافس فيما بينها بلا جدوى من أجل فتات طاولة الجبابرة , متيحة بذلك الفرصة لشق صفوفها المتفوقة عدديا … فان العالم سيبقى كما هو " .

ان ما كان يطالب به " جيفارا " هو خلق توازن يفرضه تكتل شعوب العالم الثالث ضد الإستغلال . ولكن الدعم السوفييتي بقي دوما دون المستوى الكافي لمواجهة الهجمة الإمبريالية التي بدأت في منتصف الستينات .



لقد أدرك " تشي جيفارا " طبيعة الإسئلة الصعبة . أما الإجابات الأصعب فكانت من نصيب " عبد الناصر " .

فإذا كان " جيفارا " يمثل الثورة في رومانسيتها , فإن عبد الناصر كان يمثل الثورة في واقعيتها !!

لقد راح " عبد الناصر " يعمل في إتجاهات متعددة لتحقيق ما كان يحلم به ثوريون عديدون " كجيفارا " .

ولم تكن الأمور سهلة بالمرة .

11 - ولكن الحرب الباردة والتنافس والصراع بين أمريكا والإتحاد السوفييتي أتاحت كثيرا من حرية الحركة و " المناورة " لعبد الناصر لحركات التحرر الوطني في الخمسينات والستينات من خلال الدعم الذي قدمه الإتحاد السوفييتي لها لمواجهة الضغوط التي كان يفرضها المعسكر الإمبريالي بقيادة أمريكا .

لا يمكن أن ننكر - في التحليل الأخير - أن " توازن القوى النسبي " الذي ميز النظام الدولي خلال حقبتي الخمسينات والستينات كان أحد العوامل التي ساعدت على نجاح المشروع الناصري ( المشروع الوحدوي الرئيسي في الوطن العربي ) وأمدته بحرية مناورة واسعة ( كسر احتكار السلاح .. معركة السد العالي .. معركة تأميم قناة السويس .. العدوان الثلاثي .. معركة التصنيع الثقيل .. الصمود عسكريا بعد هزيمة يونيو/ حزيران1967 وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر1973 .

بلغة أخرى .. نسأل : هل يمكن تصور كل هذه المعارك بدون التوازن الدولي " النسبي " الذي كان يخلقه وجود الاتحاد السوفييتي والذي كان يستفيد منه الرئيس عبد الناصر في توسيع هامش مناوراته السياسية دوليا وعربيا ؟



12 - وعلى الرغم من أن الرئيس عبد الناصر كان قد استفاد - كثيرا - من التوازن الدولي وحقق بفضله نجاحات سياسية أكيدة , لكن هذا لم يمنع أن يرجع البعض السبب الرئيسي في انكسار المشروع الناصري إلى دور العوامل الخارجية أو بالتحديد إلى دور أعداء الأمة العربية ( الصهيونية والإمبريالية ) , وهي القوى التي حشدت كل طاقاتها وبشكل متفوق لكسر المشروع العربي الناصري على الرغم من وجود الاتحاد السوفييتي وما كان يخلقه من توازن سياسي وعسكري واقتصادي .

يميل لهذا الرأي , مثلا , المفكر المصري " أنور عبد الملك " الذي يرى أن إدراك ديالكتيك الواقع العربي - المصري يجب فهمه في ضوء حقائق " الجيوبولتيك " أي عامل الجغرافية السياسية الذي يشكل الأساس الذي يمكن على أساسه فهم وإدراك دلالة المنطقة الحضارية العربية الإسلامية وما تشكله هذه المنطقة في ديالكتيك العالم المعاصر وفي تركيب ميزان القوى القائم ومنذ فترة ليست بالقصيرة في عصرنا الحديث.

13 - ولاشك أن حجم الوثائق التي كشف عنها في السنوات الأخيرة توضح بشكل حاسم حجم الهجمة التي تعرضت لها حركة التحرر العربي تحت قيادة الناصرية في الخمسينات والستينات والتي عبرت عن نفسها في مؤامرات محلية وعالمية وفي سياسات للأحلاف العسكرية والمواجهات المسلحة ( عدوان 1956 , عدوان 1967 , حرب اليمن , حرب الجزائر .. الى آخره ) .

من ناحية ثانية ثبت بالدليل العملي خلال حقبة التسعينات ( أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ) ان المنطقة العربية هي أول منطقة " جيوسياسية " تأثرت بهذا الاختلال في توازن القوى , والأمثلة على ذلك عديدة .

فالرئيس " صدام حسين "- مثلا - ظن - عندما أقتحم الكويت - أنه من الممكن تحقيق مغامرة سياسية وعسكرية ناجحة بدون " اتحاد سوفييتي " يقف وراءه .

وبسبب هذا الخطأ الفادح الفادح في تقدير دور التوازنات الدولية , حصدت القيادة العراقية كارثة عسكرية وسياسية واقتصادية بكل المقاييس .. كارثة لا زال يدفع ثمنها الشعب العراقي منذ أكثر من عشر أعوام

14 - نفس الشيئ يمكن أن يقال عن نظام الرئيس " معمر القذافي " . لقد استطاع القذافي مقاومة ضغوط دولية وإقليمية عديدة خلال حقبتي السبعينات والثمانينات وتمكن من تحقيق مغامرات " مأمونة نسبيا " في مناطق مختلفة من العالم تمتد من الفلبين الى أيرلندا الشمالية وصولا إلى تشاد وإريتريا وأثيوبيا في أفريقيا , ولكن مع بدء حقبة التسعينات - أي بعد سقوط الإتحاد السوفييتي ما لبث أن وجد نفسه محاصرا ومعزولا داخل حدوده ومن ثم بدأ عملية " السير الى الخلف " والتخلص تدريجيا من السياسات والأفكار التي كان أول المتحمسين لها والاقتراب تدريجيا من الأنظمة السياسية التي كانت لسنوات طويلة محط هجومه وانتقاداته !!

15 - أما الرئيس " حافظ الأسد " الذي استطاع تحقيق كثير من النجاحات الإقليمية في منطقة المشرق العربي خلال حقبة التحالف مع الإتحاد السوفييتي .. مالبث أن غير هومن لهجة خطابه السياسي لتتلاءم مع المتغيرات الدولية التي حدثت , بحيث أننا يمكن أن نقول أن نظام الرئيس " الأسد " في ظل الاتحاد السوفييتي ليس هو تماما في ظل غياب هذا الأخير وتغير توازنات القوى في المنطقة !!

فنظام الرئيس " حافظ الأسد " نجح لفترة طويلة في الحفاظ على مواقعه عبر منهج " الدفاع الثابت " أو ما كان يسميه السوريون " التوازن الإستراتيجي " بعد أن خرج الرئيس السادات بمصر من دائرة " الصراع العربي الإسرائيلي" بعقد معاهدة كامب ديفيد . لقد استفاد الرئيس " الأسد الدعم السياسي والعسكري الضخم من الاتحاد السوفييتي الذي أعتبر " الأسد " الحليف القوي الباقي له في منطقة الشرق الأوسط بعد أن خسر مواقعه في مصر , خصوصا بعد أن إنشغل الحليف الثاني للاتحاد السوفييتي ( العراق ) بحربه مع إيران وما ظهر فيها من دعم غربي غير منكور لنظام الرئيس " صدام حسين " .

16 - لكن الانهيار المدوي " والجارح " للاتحاد السوفيتي سارع بتغيير كل التوازنات في المنطقة وعجل بتغيير " مؤشرات الساعة السورية " باتجاه الغرب الأمريكي خصوصا بعد حرب الخليج الثانية التي وجد الجيش السوري نفسه يقاتل بجانب أمريكا .. الحليف الأول والقوي لخصمه اللدود إسرائيل .

لقد كان إحتلال الكويت وما أعقبها من حرب على شواطئ الخليج " لحظة عبثية " من لحظات التاريخ العربي .

ولم يقصر الجميع في دفع الأمور و محتواها " العبثي " حتى النهاية , حين دخلوا جميعا – بما فيهم سوريا – مؤتمر مدريد بلا قيد أو شرط اللهم إلا من شعار بدون محتوى – وعبثي أيضا – عن الأرض مقابل السلام الذي ألقمه الرئيس جورج بوش للعرب ثم رحل عن البيت الأبيض!!

لم يعد هناك , إذا , اتحاد سوفييتي ولم يعد هناك توازن دولي يمكن اللعب عليه أو المناورة في ظله .



17 - كل هذا ينقلنا للسؤال الأساسي : كيف يمكن للوحدويين العرب تحقيق برنامجهم السياسي في ظل الهيمنة الأمريكية على العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص ؟ على أي قوى دولية يمكن ان يتحالف الوحدويون العرب الجدد لتحقيق نوعا من التوازن يمكنهم من تحقيق الوحدة العربية ؟

وسيرد علينا البعض بأنه من المحال وضع إجابة شافية على سؤال من هذا النوع. . فالإجابة على هذا السؤال تستمد مشروعيتها من تطور الأحداث السياسية العالمية وما ستتمخض عنه في السنين القادمة وهو أمر يصعب التكهن به الآن .

البعض ينتظر – بصبر – قيام قطب أوروبي قوي يحدث نوعا من التوازن مع القطب الأمريكي الوحيد , خصوصا أن ما يظهر من تناقضات أوروبية أمريكية في بعض السياسات التفصيلية هنا وهناك يشجع هؤلاء على هذا الأمل , أو بالأحرى , على الصبر والإنتظار .

وبغض النظر عن إمكانية حدوث هذا " التوزازن " في المستقبل القريب أو عدمه , فأن من ينتظرون هذا ينسون أن قيام هذا " القطب الأوروبي " لن ينفصل عن النظام الرأسمالي العالمي الذي تربطه مصالح مشتركة وإستراتيجيات عامة في كل مناطق العالم المختلفة على الرغم من التناقضات الطبيعية بين أجزاءه .

ان التوازن الدولي السابق كان يقوم على أساس الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين " الاشتراكي والرأسمالي " ونتج عنه صراع على مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري .. وبدون شك مناطق النفوذ الأيديولوجي .



إذا لم يكن ممكنا تحقيق توازن دولي يستفيد منه العرب لتحقيق مشروعهم , فهل يمكن قلب المسألة رياضيا , أي إعتبار المقدمة نتيجة والنتيجة مقدمة .

هل ينبغي " إنتظار " توازن دولي لتحقيق الوحدة العربية . أم أن الوحدة العربية هي الآداة السياسية المتاحة لنا لتحقيق التوازن الدولي والدخول في صراعات تشكيل العالم الجديد بدلا من " التسكع " في طرقات القوى الدولية إنتظارا لما قد يأتي به القدر ؟ ( عبر الكاتب الكبير " احمد بهاء الدين " عن هذا التساؤل مبكرا في مقاله " العالم كله ضد الوحدة العربية ¸شرعية السلطة في العالم العربي , دار الشروق ) .



السؤال الثاني : وحدة عربية بدون دور مصر ؟



18 - يرى كثير من الباحثين العرب - والأجانب - ان الرئيس " عبد الناصر " استطاع خلال فترة حكمه ان يعيد صياغة دور مصرفي النظام العربي وأن يمسك بقيادة هذا النظام باتجاه الوحدة والخروج من التبعية .

لم تكن محض مصادفة - إذا - أن يطلق " توفيق الحكيم " دعوته عن ضرورة " حياد مصر " بعد شهور قليلة من زيارة الرئيس السادات لإسرائيل وأن يتبعه قائمة لا بأس منها من المثقفين المصريين المعروفين " كحسين فوزي " و " لويس عوض " . فالنزعات الإنعزالية والإقليمية .. أو " العروبية المبتورة " التي لاترى العروبة إلا في ضوء المصلحة المصرية فقط لا زالت لها تأثيرها وصداها في العقل السياسي المصري . وكان من الطبيعي - أيضا - أن ينشأ في مواجهة هذا السلوك المصري الإقليمي - وضده- رد فعل معاكس خارج مصر يذهب الى حد الدعوة الى نفض اليد من مصر والبحث عن مستقبل عربي بدونها أو على الأقل عدم إنتظارها .

وكما نشطت آلة الدعاية " الساداتية " في تغذية العداء للعرب داخل مصر , نشطت في المواجهة آلة الدعاية الأيديولوجية لبعض الأنظمة العربية " الطموحة " في تغذية نزعة العداء للدور المصري .

19 - وكان الإعلان عن الوحدة المغاربية عام 1989 - وقبل حرب الخليج مباشرة - مناسبة " لـتأصيل " هذه الدعاية وتطويرها في أيديولوجية تحاول أن تكون منطقية.

ففي هذا العام - 1989 - عادت مصر الى الجامعة العربية , ولكنها وقفت حائرة لاتدري اين تذهب والى اي تجمع ينتمي . وبلغت السخرية قمتها عندما رفض طلب مصر الإنضمام الى التجمع المغاربي !

ومالبث أن سعى النظام المصري لتشكيل تجمع آخر باسم " مجلس التعاون العربي " , يضم مصر والعراق واليمن والأردن . ولكنه كان تجمعا غير متجانس في التكوين وغائم في الأهداف . ( يمكن العزدة لكتاب محمد حسنين هيكل " حرب الخليج , أوهام القوة والنصر , لمعرفة الوقائع التي سبقت نشأة هذه المجالس ودوافعها ) .

ومالبث أن أتت حرب الخليج بكل تداعياتها الدرامية لتنهي حقبة الأوهام وينتهي معها عمليا مجلس التعاون العربي .. ويفقد المؤسسون للوحدة المغاربية حماسهم ويصبح تجمعهم حبرا على ورق .

20 - على أية حال كانت هذه التجمعات فرصة ذهبية لتأصيل أيديولوجية كاملة - رأت آنذاك - استحالة عودة مصر لأداء دور القطر " القائد " في المنظومة العربية مرة ثانية , وأن مصر لم تعد مرشحة لأداء دور الإقليم القاعدة في عملية التوحيد العربي في المستقبل القريب والمتوسط وربما في الأمد الطويل نسبيا. وأسباب هؤلاء كانت كثيرة ..

لماذا تبدو عودة مصر " مستحيلة " في نظر هؤلاء ؟

أولا : أن هناك تحولات جذرية داخل النظام العربي جعلته يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " بحيث أصبح دور مصر مجرد دور قيادي ضمن أدوار أخرى .

ثانيا : ان صعوبات مصر الاقتصادية تحتاج الى وقت طويل لإمكان تجاوزها وتحسين أوضاعها الداخلية بما يسمح لها بالإلتفات لدور أكبر في الساحة العربية .

ثالثا : ان دور مصر في حماية الأمن القومي العربي ( وحدها ) كما كان يتصور البعض في فترات زمنية سابقة اصبح أمرا غير وارد بدون القدرات العسكرية والمالية للأقطار العربية الأخرى .

رابعا : ان تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف السبعينات والتي تجسدت في زيارة القدس ومعاهدة " كامب ديفيد " والتحالف مع أمريكا والوقوف بجانبها في حرب الخليج ضد العراق .. والعلاقة مع " إسرائيل " , كلها أمور نالت من الدور القيادي التقليدي لمصر .

خامسا : أن النظم السياسية لن تقبل بزعامة إحداها خصوصا وهي تتذكر مشاكلها مع " عبد الناصر " وتدخله في شؤونها . ( المداح الإدريسي , هل تفشل الوحدة المغاربية بغياب الإقليم القاعدة والقيادة المشخصنة ؟ مجلة الوحدة , عدد58/ 59 , اغسطس 1989)



حقيقة الوضع العربي بدون مصر



21 - تصدر كل القرائن السابقة عن رؤية تؤمن " بإستحالة " عودة مصر الى دورها كأقليم - قاعدة للنضال العربي.

ولا نريد الدخول - هنا - في متاهات التحليل في " النوايا " التي تصدر عنها مثل هذه الأفكار . خاصة أن التغيرات التي حدثت منذ وفاة " عبد الناصر " وتولي السادات وما فعله من تغيرات حاسمة في بنية النظام المصري كانت تعزز من هذه الرؤية .

ان " الساداتية " , في شق أساسي منها , رؤية إنعزالية لدور مصر.. أي مصر بعيدا عن العرب ومشاكلهم وصراعتهم " ورزالتهم " كما كان يقول السادات .

ولكن " الساداتية " التي تواجدت في مصر ما لبثت أن غزت النظام الإقليمي العربي بعد وفاة مؤسسها .وإذا كانت هناك نخب مصرية رحبت بإنعزال مصر عن العرب , فقد كان هناك نخب خارج مصر أيضا - رسمية وغير رسمية - ترحب " بإنعزال مصر " وتدفع إاليه وتشجعه … لصالح ماذا .. لصالح من ؟

أسئلة سنجيب عنها فيما بعد .

أن كل الحجج التي عبر عنها مقال " المداح الإدريسي كانت " تشكل - في رأينا - البنية التحتية لتفكير معظم النخب السياسية الحاكمة في العالم العربي حتى هذه اللحظة .

يحتاج الأمر - إذا - الى نقاش هادئ وموضوعي .





مسألة تعدد القطبية داخل النظام الإقليمي العربي :



22 - ان تغير وضع ميزان القوى الإقليمية داخل النظام العربي , منذ السبعينات والثمانينات والتسعينات , جعل النظام العربي يتسم بحالة من حالات " تعدد القطبية " , بحيث أصبح دور مصر مجرد " دور أساسي " ضمن أدوار أساسية أخرى تلعبها أنظمة أقليمية أخرى . بل أن بعض هذه الأنظمة طمحت في لحظات معينة الى لعب " الدور القيادي " الذي كانت تلعبه مصر سابقا .

لقد ساهمت الظروف الأقليمية والدولية التي عاشها النظام الإقليمي العربي في السبعينات على تطور قدرات أنظمة عربية معينة على الفعل السياسي في المحيط العربي والدولي , نتيجة عوامل كثيرة أولها ظهور الكتلة النفطية كقدرة مالية وسياسية مؤثرة في ساحة الصراع الدولي والأقليمي . هذه الكتلة النفطية لم تكن على نفس القدرة من التأثير السياسي أو المالي خلال حقبة صعود الناصرية في الخمسينات والستينات .

23 - من جهة أخرى , ادى الصراع الدولي وحالة الإستقطاب المستمر داخل النظام الإقليمي العربي , وبشكل خاص القضية الفلسطينية , ثم الحرب العراقية - الإيرانية , والحرب الأهلية اللبنانية , الى تطور القدرة السياسية لبعض الأنظمة العربية النفطية وغير النفطية , وتعاظم دورها العسكري والسياسي في مسار بعض الصراعات الإقليمية وإكتسابها أدوار إقليمية متعاظمة لم تكن موجودة - أو لم تكن على نفس الدرجة من التأثير - خلال حقبة صعود الناصرية .

ونشير بشكل خاص , هنا , الى التطور في القدرات السياسية والعسكرية للعراق وسوريا وليبيا.

ذلك صحيح .

ولكن هناك أشياء " مسكوت عنها " في هذه الحقيقة :

24 - منها , أن هذه الحالة من " تعدد القطبية " نتجت , بشكل أو بآخر , عن تخلي مصر عن دورها القيادي داخل النظام الأقليمي العربي , وإستسلام قيادتها السياسية الى الشروط الأمريكية والإسرائيلية التي أرادت من البداية تحجيم الدور المصري وحصاره داخل الحدود المصرية .

غياب دور مصر " القائد " في المنظومة العربية , شجع من ناحية ثانية , نوازع الزعامة الأقليمية والشخصية , بين أقطاب النظام الأقليمي العربي .

المؤسف أن كل هذه النوازع والأدوار لم تستطع أن تعوض دور مصر في داخل النظام الإقليمي العربي وأن تحقق درجة عليا من " الإنضباط " في النظام الأقليمي العربي خلال فترة " الغياب الإرادي " لمصر . لقد عملت هذه الأدوار المتعاظمة لبعض الأنظمة العربية على تأجيج عوامل الصراع والتنافر الأقليمي داخل المنظومة العربية وأجهزت تماما على عوامل التضامن والتجمع العربي بشكل غير مسبوق . وفجأة أصاب الشلل المنظومة العربية أمام أخطار حقيقة وصار النظام العربي مفتتا ومنقسما أمام اخطار حقيقية نالت منه ومن فعاليته .

25 - أن جبهة " الصمود والتصدي " التي نشأت بعد معاهدة " كامب ديفيد " مالبثت أن إنهارت وتفرق أقطابها في صراعات ومهاترات متبادلة وعجزت عن مواجهة الوضع الناتج عن توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد . ولم تلبث أن انهارت الوحدة السورية - العراقية بعد أسابيع قليلة , على الرغم من الآمال التي عقدت عليها لتحقيق توازن " مشرقي " لمواجهة الإختلال الذي حدث بتوقيع مصر لإتفاقية منفردة مع اسرائيل .

ثم إندلعت الحرب العراقية - الإيرانية و وزادت حالة الإستقطاب داخل المنظومة العربية , ففي الوقت الذي إنحازت للعراق دول مجلس التعاون الخليجي للموقف العراقي ومعها مصر " المعزولة " سياسيا , وقفت سوريا وليبيا مؤيدة للنظام الإيراني الجديد . واشتعلت حالة الإستقطاب والتنافر مجددا .

26 - ثم حدثت الكارثة الكبرى , وغير المسبوقة , بغزو اسرائيل للبنان وحصارها للعاصمة اللبنانية لعدة شهور دون أن تتحرك الأقطاب الجديدة الناشئة داخل المنظومة . وبلغت المآساة قمتها عندما وجد رجل الشارع العربي نفسه يشاهد " الخروج " الجارح والمهين للفلسطينيين من لبنان على ظهر سفن تحميها القوات الفرنسية والأمريكية .

ومن بعد شهدنا النظام العراقي يلملم نفسه بعد حربها مع إيران وتداعياتها . وأخذ النظام السوري , يحافظ على نفسه بشعار " التوازن الإستراتيجي " على الرغم من تواجده العسكري في لبنان وعاصمتها المحاصرة .

أما النظام الليبي فقد كان يمارس - كالعادة - ثوريته اللفظية من بعيد . ثم إكتمل إخفاقه الأيديولوجي عندما كفر بفكرة القومية العربية وتبني الرابطة الإفريقية بديلا عنها , دون أن يفسر على الأقل لماذا فشل " الإتحاد المغاربي " الذي يضمه مع أربعة دول عربية وإفريقية في ذات الوقت ؟!!

أما دول الخليج النفطية لا يهمها في المقام الأول والأخير إلا " استقرارها " السياسي , وهي مستعدة دوما للدفع من خزائنها لمن يؤمن لها هذا " الإستقرار " .. من داخل النظام العربي أو من خارجه .. لا يهم !!

والفلسطينيون - كالعادة أيضا - يذهبون بإتجاه الريح .. ويدفعون - دوما - من مستقبلهم ثمنا لتفتت النظام الإقليمي العربي .

كان الموقف كله حزينا ومهينا .. ومآساويا .

وكان من الطبيعي أن نصل الى تداعيات أكثر مآساوية في ظل هذه " الإقطاب " الجديدة الناشئة .

وكان الغزو العراقي للكويت .. والذي سبقه بلحظة قصيرة عودة مصر للجامعة العربية .

وكأن القدر يخبئ للعرب أكثر مفاجآته هولا !!

فلقد ظهر تأثير الدور المصري في النظام الإقليمي العربي .- ولكن لسوء حظ العرب ومصر - ظهر " معكوسا" , أي في غير مصلحة النظام العربي ككل , وفي غير مصلحة مصر بوجه خاص .

27 - لقد سنحت للنظام المصري " فرصة تاريخية " خلال أزمة الخليج الثانية لأستلام زمام المبادرة وقيادة العالم العربي من جديد . ولكن ضيق الأفق الجماعي من ناحية , والضغوط الأمريكية المكثفة من ناحية ثانية , قادت المنظومة العربية بكاملها الى حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من تداعيات مآساوية , لم يكن أقلها مؤتمر " مدريد " وما تمخض عنه من إتفاقيات ومعاهدات هزيلة , جسدت تبعية النظام الإقليمي العربي للهيمنة الإسرائيلية الأمريكية بشكل كامل .

وإذا كان تعبير " النحس " هو التعبير الذي استخدمناه في التعبير عن هذه المفارقة المؤلمة التي عاشها العالم العربي في لحظة ما من تاريخه .

لكن النحس وسوء الحظ لا يمكن أن يخفيا أبدا الأدوار التي لعبها الجميع على مسرح الأزمة . ولا يعفي أحدا من المسئولية … وأولهم النظام المصري ذاته !!!

الخلاصة : أن مقارنة هذا الوضع الجديد , أي " تعدد القطبية " داخل المنظومة العربية بما كان سائدا في الخمسينات والستينات , في ظل قيادة " الناصرية " لن يكون لصالح الوضع الجديد بحال من الأحوال . وبغض النظر عن مشاعر المتعاطفين مع الناصرية أو المعاديين لها في العالم العربي .

28 - لقد استطاعت مصر خلال " الحقبة الناصرية " أن تحقق قدرا كبيرا من الإنسجام , أو بالأحرى , الإتساق داخل النظام العربي في مواجهة الأخطار الخارجية الكبرى , على الرغم من الإستقطاب الأيديولوجي الحاد الذي كان يقسم العالم العربي الى معسكرين أيديولوجيين متعارضيين : معسكر " تقدمي " تقوده مصر , ومعسكر " رجعي " تقليدي محافظ .

ورغم هذه " الثنائية القطبية الأيديولوجية " , استطاعت مصر " الناصرية " تحقيق " إجماع" عربي فعال في مواجهة قضايا مصيرية واجهت الأمة العربية : كالحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 , الموقف من مشروعات اسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن وإنبثاق فكرة مؤتمرات القمة العربية , الإجماع العربي على دعم دول المواجهة في مؤتمر الخرطوم بعد نكسة يونيو 1967 ورفع شعار " اللاءات الثلاث " , نجاح عبد الناصر في إيقاف مذابح أيلول الأسود عام 1970 , نجاح مصر في تحقيق إجماع عربي حول دول المواجهة خلال حرب أكتوبر / تشرين 1970 … ثم … ثم قررت مصر " السادات " الإبتعاد عن دورها القيادي .. وتأججت حدة الصراعات الإقليمية وظهرت " الأقطاب " الجديدة ونمت قدراتها السياسية والمالية .. ولكن نمت ايضا قدرتها على أشاعة الفوضى والصراع والتنافر داخل النظام العربي وما جره ذلك من خراب وإنهيار لا يمكن أنكاره بأي حال من الأحوال .



حول مستقبل مصر في عملية التوحيد القومي





29 - نعيد تحديد السؤال : : ماذا كان يمكن أن يفعل " الوحدويون الجدد " في هذا الوضع العربي الذي بدأ في الانهيار منذ سياسة " الصدمات الكهربائية " التي أنتهجها الرئيس السادات .

وإذا كنا في هذا الدراسة لا نستطيع إعادة ما كتبناه ردا على هذه الحجج التي تمثل عينة نموذجية للعقل السياسي " الإقليمي " الذي ينظر للتاريخ العربي في حدود مصالح أقليمية ضيقة وغير موضوعية . إلا أننا لا نملك إلا التشديد على قضيتين لم يتناولهما ردنا على " المداح الإدريسي " :



أولهما : أن النخب الوحدوية خارج مصر قد فهمت الدور المصري في عملية التوحيد القومي على نحو قاصر , فرغم حماسها الزائد في بعض الأحيان لهذا الدور إلا أنها فهمت دور المصر على نحو وحيد الإتجاه من مصر الى خارجها وليس العكس . صحيح أن مصر هي القطر الذي تؤثر أوضاعه السياسية بشكل حاسم على مسار الأحداث في العالم العربي أكثر من أي قطر عربي آخر … فأي نهوض قومي بها يقابله نهوض مماثل في الأوضاع العربية , كما أن أي إنكسار بها يجر معه الأوضاع العربية ويسير بها نحو التدهور .

30 - نحن نتفق هنا مع ما قاله شيخ علماء السياسة الدولية العرب المرحوم " حامد ربيع " , من أن الفكر السياسي العربي لازال غير واع حتى الآن بحقيقة ما يسمى " بالتداخل الوظيفي " في المجتمع العربي . وبينما السياسة الأمريكية قد خصصت بوضوح , ومنذ أن قدر لها أن تخضع ديناميات ومتغيرات الحياة السياسية في الوطن العربي لعديد من الدراسات الميدانية منذ الستينات , منها على سبيل المثال ما قام به أحد مراكز الدراسات الدولية في إيطاليا لحساب مؤسسة " فورد " التي تعمل بتوافق تام مع أجهزة المخابرات الأمريكية … وجعلت هدفها الحقيقي إعاقة التطور والترابط بين " تمصير " العالم العربي , "وتعريب " الوجود المصري ( د: حامد ربيع , تأملات حول مفهوم الوحدة العربية .. نظرة مستقبلية , مجلة الوحدة , عدد تجريبي يوليو 1984 . دراسة مقدمة لندوة " نحو تصور عملي لتحقيق الوحدة العربية " , طرابلس , ليبيا , فبراير 1984 ) .

في هذا الإطار الذي قال به " حامد ربيع " , تأتي سياسة " كامب ديفيد " في طبعتها المصرية , وفي طبعتها العربية " مدريد وأوسلو ووادي عربة ومبادرة ولي العهد السعودي الأمير " عبد الله في فبراير 2002 .

ان رد الفعل الغوغائي الذي تلى توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد عام 1979 وما نتج عنه من تمزيق للعلاقات الإقتصادية وإيقاف حركة التنقل والترابط الذلتي بين العالم العربي ومصر لم يحقق هدفه في إعادة مصر



31 - ان حالات التفتت والصراع والتشرزم والتبعية الأجنبية التي تميز النظام العربي خارج مصر تسهل على أي قيادة مصرية ضيقة الأفق وإقليمية أن تسحب نفسها من الهموم العربية وتنكمش داخل حدودها . هذا يفسر الى حد كبير كيف نجح الرئيس السادات بسهولة ( وهو المعروف بنوازعه الفرعونية الإقليمية منذ شبابه ) في حرف مصر عن دورها في النظام العربي والذي كان قد نما في عهد الرئيس عبد الناصر بشكل غير مسبوق.

فرغم المعارضة التي أظهرها النظام العربي لخطوة السادات بزيارة القدس والإعتراف بإسرائيل ( دون مشاورة الآخرين ) والتي تمخضت عن قطع شبه جماعي للعلاقات مع مصر وقيام ما يسمى " جبهة الصمود والتصدي " والتي ضمت أكبر قطرين في المشرق العربي ( سوريا والعراق ) كما ضمت قطرين لهما وزنهما المؤثر في المغرب العربي ( الجزائر والمغرب ) فضلا عن الفلسطيننين واليمن ( الجنوبي آنذاك ) .

ولكن هذه " الجبهة " ما لبثت أن إنهارت في غضون شهور قليلة وإنهار معها مشروع الوحدة الثنائية بين نظامي حزب البعث في سوريا والعراق , وتوافق معها إندلاع الصراع في المغرب العربي حول مشكلة الصحراء . وهكذا ساهمت حالة التشرزم والضعف الإستقطاب الحاد داخل النظام العربي خارج مصر على تمرير المشروع الساداتي بكل سهولة ودون مقاومة تذكر . ( هذه النقطة محل دراسة مفصلة ومستفيضة مقدمة في إطار الإحتفالات بالذكرى الخمسين بثورة يوليو 1952 . الدراسة بعنوان مقدمات ونتائج إنهيار النظام الإقليمي العربي) .

32 - ولم تلبث حرب الخليج الثانية ان كشفت عن عطب هذا " المنطق " حين انهارت - واحدة بعد الأخرى - مشاريع التجمعات الإقليمية التي كانت قد نشأت عشية هذه الحرب رغم الشعارات الكبيرة التي رفعتها آنذاك : ( مجلس التعاون العربي , الوحدة المغاربية .. مجلس التعاون الخليجي ). والواقع أن البعض روج في لحظات معينة لما يمكن أن تلعبه وحدة عراقية - سورية في تعويض دور الأقليم - القاعدة مصر . وبغض النظر عن الأماني والنوايا ة لا نملك إلا أن نقول أن الصراع البعثي ( السوري - العراقي ) منذ منتصف السبعينات لعب دورا تخريبيا داخل دول التكتل " التقدمي " مماثلا للدور الذي لعبه الصراع " السوفياتي - الصيني ) في المعسكر الإشتراكي خلال الخمسينات والستينات . ( تعرضنا لتفاصيل هذا الصراع في دراستنا المقدمة للندوة بعنوان : مقدمات ونتائج إنهيار النظام العربي المعاصر ) .

نختصر هذا بالقول أنه كلما كانت مصر قوية كلما كان العرب أقوياء , وكلما تشرزم العرب خارج مصر كلما سهل على القوى الإقليمية في مصر سحبها للداخل والإنكفاء على الذات .

عدم إدراك هذه العلاقة ذات الإتجاهين بين مصر والعالم العربي تفسر الى حد كبير حالة " الإنتظار السلبي" الذي عاش عليه – ولا يزال - عدد كبير من الوحدويين والعروبيين في إنتظار أن يأتي " الفرج " من مصر !!

وهو موقف يصدر - في رأينا - عن منطلقات مثالية بعيدة عن العلم والموضوعية .

وثانيهما : ان هذا القصور الوحدوي ساهم - دون قصد – في ولادة شعور وهمي لدى النخب المصرية بالتفوق و " الإمتياز " لم يكن من السهل عليهم إخفائه في التعامل مع المحيط العربي , فظلوا يتعاملون مع مسألة دور مصر العربي وكأنه ضرورة للأمن القومي المصري القطري الضيق , أو حلا محتملا لأزمات مصر الإقتصادية وما تفرضه من ضرورة مد النظر الى العالم العربي الذي يمتلك الثروة اللازمة لحل مشكلتها الإقتصادية .

33 - ينبغي لنا علينا الإعتراف هنا أن جزء كبير من النخبة السياسية المصرية - وللأسف الوحدوية جزء منها - لازالت تنظر الى العالم العربي حولها نظرة إنتهازية ونفعية دون إيمان حقيقي بقضية الوحدة العربية . وهي تعبر في حالات أخرى عن نزعة " تفوق " وإمتياز وهمية , متغافلة أن العالم العربي الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات والسبعينات أصبح يموج بنخب علمية وثقافية لا تقل من حيث القدرة والتفوق على النخبة المصرية , بل تفوقها في أماكن مختلفة من العالم العربي حيث زودها الإنفتاح على العالم الخارجي بقدرات تتفوق بها على النخبة السياسية والثقافية المصرية . ومالدور الذي تلعبه النخبة المغاربية في الدراسات التراثية والإجتماعية واللغوية , أو الدور الذي تلعبه النخبة الخليجية في مجال الدراسات السياسية ألا تعبير عن أن مراكز الثقل الحضاري قد بدأت في التنوع والإغتناء بما لايسمح بإحتكار أحد المراكز للدور الحضاري إلا بمقدار تعبيره عن الهمموم العربية جميعها وللمستقبل العربي في كليته .

وهذا أمر إختصت به الطبيعة الجيوسياسية مصر وليس إمتياز لنخبتها عن غيرهم .

وإذا كان التاريخ قد أثبت " مثالية " التيار الأول وفشل منطلقاته , فأنه لن يرحم أيضا دعاة المنطق الثاني .

ولكن كيف السبيل الى إعادة مصر الى دورها العربي وكيف السبيل الى تقوية العرب بدون مصر ؟



مصر و " كامب ديفيد " :



34 - يرى كثير من الباحثين - ومنهم " المداح الإدريسي " في مقاله السابق الإشارة إليه - أن " تحولات السياسة الخارجية المصرية منذ منتصف الستينات وبشكل خاص إتفاقيات " كامب ديفيد " قد نال كثيرا من الدور القيادي " التقليدي " لمصر في العالم العربي .

ذلك أمر غير منكور وتشهد عليه الوقائع اليومية في العالم العربي . إن هيبة مصر وشعبيتها في العالم العربي تأثرت كثيرا - ان لم تكن قد انهارت بالكامل - بما فعله السادات منذ زيارة القدس وبما فعله النظام المصري في حرب الخليج ومواقفه من الصراع العربي الإسرائيلي خلال إجتياح لبنان أو حصار الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد توقيع إتفاقيات " أوسلو ". وربما أكثر من هذا ومن ذاك , إذا رغبنا التفصيل . ولكن عندما كتب " المداح الإدريسي " لم تكن حرب الخليج قد وقعت بعد , ولم يكن مؤتمر مدريد قد إنعقد ولم يكن أقطاب النظام الإقليمي العربي - وبشكل خاص منظمة التحرير الفلسطينية - قد وافقوا صراحة وضمنيا على الإعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات علنية طبيعية معها . وبالتالي ما كان محرما على مصر صار حلالا للجميع بعد هذا التاريخ . والمهزلة أن مصر- التي كانت أول من إعترف بإسرائيل - بدت في لحظات معينة أول من وقف ضد " هرولة " بعد الأنظمة العربية بإتجاه إسرئيل !!

لذلك لم يعد ما يهمنا الآن صورة هذا النظام أو ذاك في مواجهة الآخرين , بقدر ما أصبحت المسألة - في رأينا - ذات علاقة بالمستقبل العربي ومسألة الوحدة العربية في قلبها .

كيف… ؟



السؤال الرابع : الإعتراف بإسرائيل والوحدة العربية



35 - لعل البعض لم يجهد نفسه كثيرا في معرفة السبب وراء تصميم اسرائيل على أن تكون مفاوضاتها مع العرب , مفاوضات منفردة , وأن تقيم معاهدات وإتفاقيات منفردة مع كل قطر العربي .

فإذا كان هدف لإسرائيل الأساسي هو الحصول على " إعتراف عربي " , فكان من الممكن الوصول الى هذا عبر مؤتمر دولي كمؤتمر مدريد مثلا - يشارك فيه العرب مجتمعين كوحدة واحدة , ويعترفون معا بإسرائيل ( أو يجددون إعترافهم معا وهذا أجدى لها وأكثر تأثيرا ) . ولكن إسرائيل أصرت منذ اللحظة الأولى لمؤتمر مدريد على رفض الوفد العربي الواحد وأصرت على مبدأ المفاوضات المنفردة .. لماذا ؟

لقد إعتقد البعض أن السبب وراء هذا الإصرار الإسرائيلي - وهو محق بعض الشيئ - أنها لا تريد مواجهة العرب كمفاوض واحد .. مفاوض قادر من خلال التنسيق المشترك فرض شروط على اسرائيل وإرغامها على القبول . أي أن رفضها ينبع من دوافع " عملياتية " في التفاوض , إي أنه مجرد براعة وفاعلية أسلوب في التفاوض لا أكثر ولا أقل . وهو أمر صحيح نسبيا كما قلنا .

36 - ولكن ينبغي أن نتذكر أن إسرائيل كانت ترفض دوما مبدأ المفاوضات الجماعية وتصر على مبدأ المفاوضات المنفردة منذ اللحظة الأوى لنشأتها . لقد رفضت إسرائيل أثناء إتفاقيات الهدنة بعد نكبة 1948 مبدأ المفاوضة مع الجيوش العربية كطرف واحد مواجه والإصرار على مبدأ المفاوضة المنفردة . ( يمكن العودة الى هذه النقطة تفصيلا في كتاب " آفي شليم " , الحائط الحديدي , مؤسسة روز اليوسف , ص 44 وما بعدها ) .

لماذا ترفض إسرائيل التعامل مع العرب ككتلة وترى في التعامل معهم كأقطار متفرقة ضمانة مستقبلية لها ؟

كما هو معروف أن الوحدة البنائية الأساسية للتعامل الدولي في القانون الدولي هو الدولة . والدولة هي نوع من العلاقة المشتركة بين خاصتين الأرض والشعب الذي تحدد مدار عملهما " نظرية السيادة " . فسيادة الدولة لا تتعدى حدود شعبها أو مجالها الجغرافي غير المتنازع عليه . وعقد المعاهدات - وفضها - هو مظهر من مظاهر السيادة .

وكل المعاهدات التي وقعتها أسرئيل مع الدول العربية تجسد مظهر من مظاهر سيادة الدولة الموقعة ولا تنصرف الى ما عداها من دول مهما جاء من حواشي وبهرجات لفظية عن السلام الشامل في لدول المنطقة .

37 - ولكن يبقى وضع - حسبت له اسرائيل حسابه - وهو سيناريو إتحاد دولة عربية من تلك التي وقعت معها معاهدة مع دولة عربية أخرى لتقوم دولة جديدة ذات سيادة على شعب مختلف ومجال جغرافي مختلف .. ماهو موقع الإتفاقيات التي تم توقيعها مع اسرائيل من الدولة السابقة ؟

هل يكفي أن تعلن الدولة الجديدة إلتزامها بالمعاهدات والإلتزامات القانونية للدولتين المتحدتين السابقة على الوحدة بينهما ؟

هل تصبح المعاهدات مع اسرئيل ملزمة للدولة الجديدة حتى لو كان أحد طرفيها غير مشارك في المعاهدات والإعتراف بإسرائيل .. مثلا ؟

وهل قيام دولة عربية جديدة يعني اسقاط المعاهدة القديمة " تلقائيا " من جانب واحد ؟

وهل يعتبر هذا " الإسقاط من جانب واحد " عملا عدائيا يعطي إسرائيل أو الضامنين للمعاهدة حق استخدام القوة لإعادة الأمر لما عليه ؟

لنأخذ على سبيل المثال نصت معاهدة " كامب دافيد " في الفقرة الخامسة من المادة السادسة على ما يلي : " مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة , يقر الطرفان بإنه في حالة وجود تناقض بين إلتزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من إلتزاماتها الأخرى فإن الإلتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هي التي تكون ملزمة ونافذة " .

ثم أضافت اسرائيل الى إتفاقية " كامب دافيد " شرطا غريبا يمنع مصر من التحايل " مستقبلا " من توقيع أي إتفاقية أو معاهدة مع أي طرف عربي آخر إذا تعارضت مع الإلتزامات التي أخضعت مصر نفسها لها في " كامب دافيد " . إذ أوردت الفقرة الرابعة من المادة السادسة من المعاهدة ما يلي : " يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أي إلتزام يتعارض مع هذه المعاهدة " .

وبغض النظر على إستخدام لفظ " أي إلتزام " و وهو تعبير مفتوح وغير محدد بالتوقيع على إلتزامات أخرى ذات صفة تعاقدية , إذ يكفي هنا النية وليس الفعل التعاقدي ذاته .

بغض النظر عن هذه المسألة نسأل : هل نية الوحدة السياسية بين مصر - مثلا - وأي قطر عربي آخر لقيام دولة جديدة ( كما حدث مع قيام الجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا ) يعتبر إلتزاما يتعارض مع معاهدة " كامب ديفيد " - أو غيرها من معاهدات مع اسرائيل - ويوجب على إسرائيل إتخاذ التدابير اللازمة لردع الطرف الآخر أو مطالبته بتنفيذ المعاهدة ؟

ولكن ماذا لو قررت مصر الدولة - مثلا - التحرر من هذه القيود وقررت المضي في عملية الوحدة الإندماجية مع قطر عربي آخر - أو أكثر - لتكوين دولة وحدوية جديدة ؟

38 - الحقيقة أن اسرائيل وأمريكا لم يستبعدا حدوث حالات من هذا النوع فوضعا نوعا من التدابير الأمنية في المعاهدة وخاصة بطبيعة إنتشار الجيش المصري في سيناء . ولكنهما حرصتا على الحصول على ضمانات تخص مصر تلزمها وحدها - دون أن تكون هناك ضماات تلزم اسرائيل بالمثل - وهو مذكرة التفاهم الأمريكية الإسرائيلية التي أرسلها الرئيس الأمريكي " كارتر " الى كل من رئيس الوزراء المصري " مصطفى خليل " ورئيس الوزراء " مناحم بيجين " قبل يوم واحد من توقيع الإتفاقية أي في 25/3/1979 , وقد جاء فيها :

( أ ) حق الولايات المتحدة الأمريكية في إتخاذ ما تعتبره ملائما من إجراءات في حالة حدوث إنتهاك لمعاهدة السلام أو تهديد بالإنتهاك بما في ذلك الإجراءات الدبلوماسية والإقتصادية والعسكرية .

( ب ) تقد الولايات المتحدة الأمريكية ما ترته لازما من مساندة لما تقوم به اسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الإنتهاكات خاصة إذا ما رئي أن الإنتاك يهدد أمن اسرائيل بما في ذلك على سبيل المثال , تعرض اسرائيل لحصار يمنعها من استخدام الممرات الدولية وإنتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحد من القوات أو شن هجوم مسلح على اسرائيل . وفي هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر بعين الإعتبار وبصورة عاجلة في إتخاذ اجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة في المنطقة وتزويد اسرائيل بالشحنات العاجلة وممارسة حقوقها البحرية لوضع حد للإنتهاك .

(ج ) سوف تعمل الولايات المتحدة بتصريح ومصادقة الكونجرس على النظر بعين الإعتبار لطلبات المساعدة والإقتصادية لإسرائيل وتسعس لتلبيتها " .

هذا الخطاب الذي وافقت عليه مصر وأصبح جزءا لا يتجزء من معاهدة " كامب دافيد " , يشكل معاهدة تحالف واضحة بين أسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة مصر ؟!

وهو يعرض - أولا - التدابير التي سـاخذها أمريكا لحماية اسرائيل من أي إنتهاك مصري : ديبلوماسي .. اقتصادي .. عسكري .. ضد اسيرائيل . ولكن ماذا لو أن الإنتهاك كان من جانب اسرائيل ضد مصر .. هل ستقوم الولايات المتحدة بإتخاذ ذات التدابير ضد اسرائيل لضمان تنفيذ المعاهدة ؟

39 - علي أية حال يبقى سؤال ذو صلة بموضوعنا عن الوحدة العربية وهو : ماهي حدود الإجراءات " الديبلوماسية " التي نص عليها خطاب الضمان - والتي يمكن أن تعتبرها أمريكا وإسرائيل إنتهاكا لمعاهدة السلام ؟

وهل إندماج الدولة المصرية مع دولة عربية أخرى يعتبر إجراءا ديبلوماسيا يتيح لإسرائيل الإدعاء بإنتهاك معاهدة " كامب ديفيد " .. ويتيح لأمريكا إتخاذ التدابير المنصوص عليها في خطاب الضمان ؟

وذلك مجرد نموذج لما يمكن أن تفعله إسرائيل في حالة الوحدة السياسية بين قطرين أو النية بالتوحيد بينهما !!

على أية حال - وكما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في تشريحه القانوني الممتاز لمعاهدة " كامب دافيد " - " لم توجد ولن توجد اتفاقية دولية غير قابلة للإلغاء من طرف واحد و ولكن على من يلغيها حينئذ أن يدفع ثمن هذا الإلغاء في مواجهة الطرف الآخر والمجتمع الدولي …. ( د: عصمت سيف الدولة , هذه المعاهدة , دار الثقافة الجديدة ) .

ونضيف نحن من عندنا " نظرية السيادة " التي تقرر للشعب إمكانية استخدام السيادة والإندماج مع شعب آخر لتكوين دولة جديدة ذات سيادة جديدة على الأرض الموحدة والشعب الموحد في ظل دولة جديدة ذات سيادة .

40 - وقد يعتبر البعض هذا النقاش نوعا من " الفانتازيا " مستحيلة الحدوث عمليا .

ولكن الفكر المعاصر - جدا - يشمل نوعا من هذا الجدل " غير الفانتازي " فقد ثار جدل بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي السابق حول طبيعة الدولة التي ترث إلتزامات الدولة القديمة . وبشكل خاص ديون الأخرين على الإتحاد السوفييتي السابق , وهل ينبغي ردها لكل الجمهوريات المتخارجة عنه أم ترد للجمهورية الروسية وحدها ؟ أم أنها تسقط نظرا لأن اي من الجمهوريات المتخارجة ليس هو - بالقطع الدولة القديمة حصرا -

ونفس الشيئ حدث عندما حدث لإندماج ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية و فقد نشأت دولة جديدة كان لكل منهما إلتزامات دولية سابقة .. كيف تم التصرف حيالها ؟

على أي حال.. هذا جدل قانوني وفقهي خطير ولكن له نتائج سياسية وعسكرية قد تكون أخطر بكثير في حالتنا العربية ؟

وهو ما نطرحه على الباحثين الوحدويين المتواجدين في هذه الندوة البحثية .



السؤال الخامس : عن أسطورة التكامل الإقتصادي

41 - عدد كبير من الباحثين - والسياسيين أيضا - الذين تصدوا لدراسة أسباب تعثر الوحدة السياسية بين العرب , يخلصون الى أن من أهم أسباب هذا التعثر هو غياب التكامل الإقتصادي بين الأقطار العربية . والواقع أن هناك مئات - بل آلاف - الكتب والدراسات عن ضرورة التكامل الإقتصادي وإمكانيات التكامل الإقتصادي وأشكال التكامل الإقتصادي .. الى آخره .

ولكن لم يتصد الكثيرون لمعرفة سبب فشل هذا التكامل الإقتصادي وعدم تحققه بين الأقطار العربية رغم مرور كل هذه السنين . ولا زال البعض " يحلم " بخطوات للتكامل الإقتصادي تصل بالعرب الى الوحدة الإقتصادية على غرار " الوحدة الأوروبية " .

والواقع أن فكر " التكامل الإقتصادي " هو فكر " مثالي " ودعاته " فاشلون " على الرغم من دعاوتهم التي تبدو عقلانية ومستندة على مقومات مادية , أي الأقتصاد , وعلى أسس موضوعية هي أن التكامل الإقتصادي يخدم مطلب التنمية الشاملة لكل الأقطار العربية ومطلب التنمية هو بدوره مطلب جماهيري تفرضه الرغبة العارمة في أن تخرج جماهير هذه الأمة من دائرة الفقر والتخلف والتبعية !!

42 - لماذا - إذا - نعتبره فكرا " مثاليا " و فاشلا .. ؟

أولا : لأن التكامل الإقتصادي يقتضي - ضمن ما يقتضي - أن تكون هناك فوائد إقتصادية يمكن أن تجنيها الأقطار من هذا التكامل الإقتصادي . والواقع أن التبادل التجاري بين الدول العربية - الذي يأخذه البعض كأحد مؤشرات الوحدة والتكامل الإقتصادي - لازال ضعيفا للغاية . وقد قدر " احمد الجويلي " أمين مجلس الوحدة الإقتصادية العربية , التجارة البينية خلال العشر سنوات الماضية بحوالي 27 مليار دولار يمثل البترول ما يزيد على 50 في المائة منها . وهذه النسبة لا تشكل سوى 8.6 من جملة التجارة العربية الخارجية .

والخلاصة المأساوية : هي أن التبادل التجاري بين الأقطار العربية مازال ضعيفا للغاية . وهو من الضعف بحيث إذا توقف التبادل التجاري بين الأقطار العربية كلية , فإن اقتصاديات هذه الأقطار لن تصاب بأضرار محسوسة .

ثانيا : أن إنتقال رؤوس الأموال بين الأقطار العربية لازال محدودا أو معدوما بين أقطار السوق العربية المشتركة. فالإستثمارات العربية البينية ضئيلة ولم تزد عن 15 مليار دولار خلال الفترة من 1985 حتى 2000 ( أي 15 عاما ) . .

وتبلغ رؤوس الأموال النازحة في أحصاءات عام 2000 الى نحو 730 مليار دولار . بينما ترفع مصادر أخرى حجم رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الخارج الى تريليون دولار ( ألف مليار دولار ) . إذ يقد أمين مجلس الوحدة العربية الإستثمارات العربية في الغرب وأمريكا بين 800 مليار و 1000 مليار دولار . ( أحمد الجويلي , التكامل الإقتصادي العربي , الأهرام و 15 يوليو / تموز 2002 ) .

وكان حجم الإستثمارات العربية في الخارج قد تراجع من 850 مليار دولار في نهاية الثمانينات , الى نحو 675 في نهاية التسعينات بالإضافة الى 50 مليار دولار استثمارات في العقارات والأسهم وغيرها ومعظمها مودع في مصارف أجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية . ويرجع تراجع حجم الإستثمارات العربية في الخارج الى انفاقات حرب الخليج الأولة والثانية . ( القدس العربي , العدد 3593 , 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2000 ) . فالإستثمار في الأقطار العربية لا يحقق الربحية القصوى التي يبحث عنها رأس المال - بحكم طبيعته - مقارنة بما هو حادث في بلدان الغرب وأمريكا . ولا توجد أي إغراءات مادية لجذب رأس المال العربي الى أي قطر عربي اللهم إلا تشجيع بؤر الفساد داخل الأقطار العربية من خلال التزاوج بين رأس المال والسلطة السياسية ومنظمات الجريمة المنظمة وغسيل الأموال !!



ثالثا : إنتقال العمالة العربية

وإذا كان الاقطار العربية لا ترى فائدة يمكن أن تجنيها من زيادة حجم التجارة البينية أو الإستثمار فيما بين بعضها البعض , فربما يدعي البعض أن هذا لا ينطبق بنفس الدرجة على إنتقال العمالة بين الأقطار العربية , وخاصة بين الدول النفطية والدول غير النفطية . فالتقيرات المحافظة تفيد بتواجد ثلاثة ملايين عنصر من الطاقة البشرية العربية يعملون في أقطار عربية غير أقطارهم . ولكن المفارقة هي أن المستوعب الرئيسي لهذه العمالة العربية هي دول الخليج والسعودية . وهي من الدول غير المشاركة في إتفاقية السوق العربية المشتركة . ولا تتمتع هذه العمالة , في حرية انتقالها وحقوق عملها , بالمزايا التي تنص عليها اتفاقية السوق المشتركة . أي أن هذا التفاعل البشري المكثف نسبيا , لم يتم أساسا بسبب اتفاقيات التكامل التي وقعتها هذه البلدان رسميا , وإنما في ظل عوامل السوق الكلاسيكية ( العرض والطلب ) كقرب المسافة ورخص الأجور وتشابه الخلفية الحضارية . لذلك لا تتردد السعودية ودول الخليج - مثلا - في الستعانة بعمالة غير عربية من إيران والهند وباكستان وتركيا , حيث تقرب المسافة وترخص الأجور . أو حتى إساقدام عمالة بعيدة من كوريا والفليبين , حيث يعوض بعد المسافة تدني الأجور وإرتفاع الإنتاجية .

لقد أوضحت دراسة " نادر فرجاني " الآثار السلبية لعملية إنتقال العمالة داخل الوطن العربي . ولكن ما يهمنا في هذه الدراسة , هو تأثير هجرة العمالة على توليد مشاعر مضادة للوحدة العربية والتماسك العربي لدى كثير من المواطنين العربي الذين تعرضوا لآثارها السلبية . فلقد إستخدمت الأنظمة العربية النفطية عملية إستقدام العمالة كورقة في الصراعات الإقليمية التي كانت تحدث في قمة النظام الإقليمي العربي . وحتى قبل حرب الخليج كانت العمالة المصرية والتونسية ضحية للصراع الليبي - المصري , والصراع الليبي - التونسي . لقد خلقت ظروف العمل والمعيشة التي تعرضت لها العمالة العربية في الأقطار المستقبلة على شيوع تناحرات تحتية بين المواطنين العرب من المقيمين والمهاجرين . وعندما تنشأ هذه المشاعر فإنها لا تبقى محصورة في نطاق المشاركين مباشرة في الهجرة وإنما تتسرب لدوائر أوسع من المواطنين العرب . خصوصا عندما أقدمت بعض الأنظمة القطرية المعادية للوحدة العربية في تكبير وتضخيم مثل هذه التصرفات الشاذة لضرب فكرة الوحدة العربية من أساسها ومحاصرة نفوذ الأنظمة المنافسة على مواطنيها . ( راجع بشكل خاص نادر فرجاني , الهجرة داخل الوطن العربي , المستقبل العربي , العدد 10 / 1983 ) .

لقد شكلت الخمسينات و الستينات حقبة الصراع في قمة النظام الإقليمي العربي .. ولكن حقبتي السبعينات والثمانينات ستعملان على نزول الصراعات العربية ألى تحت .. الى القاعدة .. الى المواطنين العرب أنفسهم .

وهي ضربة لم يتوقعها الوحدويون ولم يحسبوا لها حسابها ولم يقدروا نتائجها .. وبالتالي لم يستطيعوا حتى هذه اللحظة مواجهتها ؟!!

وكانت حرب الخليج الثانية متغيرا حاسما في إنتقال وهجرة المواطنين العرب داخل الأقطار العربية.

لم يكن المواطنون العراقيون والكويتيون هم الضحية الوحيدة لهذه الحرب العبثية . فبمجرد حدوث الغزو وتكاثف سحب الحرب , شهدت منطقة الخليج أكبر وأسرع حركة إنتقال وتهجير بشرية عرفتها المنطقة . فخلال أيام قليلة كان مئات الآلاف من البشر يتحركون في موجات خرافية عبر الصحراء العراقية الأردنية خوفا من أهوال الحرب . وبين شهر أغسطس وشهر نوفمبر 1990 كان حوالي 700 ألف شخص يعبرون الحدود الأردنية في ظل أوضاع حياتية مزرية على الرغم من كل جهود منظمة الصليب الأحمر .

وبعد تحرير الكويت حدثت " الجريمة الثانية " , حيث أصبح المهاجرون الفلسطينيون محط عمليات إنتقام عشوائية في شوارع الكويت دون تمييز , وأصبحت عمليات القتل والتنكيل بالفلسطينيين على الهوية أو بالهجة هي عملة يومية لبعض المليشيات الكويتية التي تأتمر بأمر عدد من أمراء صغار السن في الأسرة الكويتية الحاكمة . وفي خلال شهور قليلة ستختفي الجالية الفلسطينية من الكويت , اللهم إلا بعض الأفراد ذوي العلاقة الخاصة مع أمراء الأسرة الحاكمة ( راجع جورج قرم , إنفجار المشرق العربي 1956 - 2000 , طبعة فوليو , فرنسا ) .

مآساة بشرية أخرى مشابهة ستجري وقائعها في المملكة العربية السعودية , التي قررت طرد المواطنين اليمنيين العاملين أو المقيمين بها . ففي يوم 19 سبتمبر 1990 قررت الحكومة السعودية معاقبة الحكومة اليمنية على ما أعتبرته تأييدا للعراق . وهكذا قررت الحكومة السعودية طرد كل العمالة اليمنية التي لا تحمل تصريحا رسميا بالعمل .. التصريح الذي لم تكن تطلبه في السابق لدخول وإقامة اليمنيين . وخلال أيام سيتشهد الصحراء الفاصلة بين البلدين أكبر وأسرع حالة نزوح بشري حيث عبر حوالي 800 ألف مواطن يمني الحدود مطرودين إلى بلدهم دون الحصول على حقوقهم أو أمتعتهم !!

لم يكن الموقف اليمني من العراق هو السبب الوحيد لهذا العقاب الجماعي الذي نفذته السعودية .. بل كان هناك أيضا " هواجس " السعودية من دخول اليمن الى مجلس التعاون العربي .. وهناك أيضا " المخاوف " التي تلبستها بعد توحيد الشمال والجنوب في دولة واحدة صارت فجأة أكبر نظام داخل الجزيرة من حيث عدد السكان وحجم النخبة المتعلمة وفعالية البنية العسكرية .

لقد أوضحت هذه الحرب بجلاء الجانب " الإبتزازي " الذي تلعبه حركة الهجرة والعمالة في داخل الوطن العربي . كل هذه النتائج - وغيرها كثير - شكلت صورة بشعة للواقع الذي أنتجته حرب الخليج الثانية في الوطن العربي والتي ستنعكس بدورها على مجمل الصراع العربي الصهيوني .



رابعا : المديونية والتبعية للغرب

مظهر أخر من مظاهر فشل الطريق الإقتصادي للوحدة العربية هو التبعية المطلقة للغرب إقتصاديا وسياسيا . وشكلت حرب الخليج الثانية تعميقا لحالة التبعية والإرتهان العربي للقوى الخارجية .

غذا ظهرت بجلاء ظاهرة الإستدانة من الخارج كأحد أشكال التبعية . وهكذا وجدت الدول النفطية نفسها - لأول مرة - تتشارك مع شقيقاتها العربيات غير النفطيات نفس المآساة , ونقصد مآساة " المديونية " وهموم الدين !!

فلقد أظهرت البيانات والإحصائيات السنوية الواردة في التقارير الإقتصادية الدورية منذ إنتهاء حرب الخليج الثانية قد تفاقمت عاما بعد عام منذ هذه الحرب المشئومة , بحيث أصبحت تشكل أكبر إستنزاف للموارد المالية للدول العربية يستحيل معها تحقيق أي نمو إقتصادي فاعل وبالتالي التصدي لأي مشكلة من مشكلات اقتصاديات الدول العربية المزمنة كالفقر والبطالة والتضخم وتراجع قيمة العملات المحلية… الى آخره .

وكانت أكثر التقارير المتفائلة تقدر أن المديونية العربية بشقيها الداخلي والخارجي قد بلغت مع نهاية عام 1999 ( أي عشر سنوات بعد حرب الخليج الثانية ) حوالي 375 مليار دولار و منها 156 مليار دولار ديونا خارجية و 219 مليار دولار ديونا داخلية , أي ما يعادل 41 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العام لعام 1991 . وهذه الأرقام لا تشمل - بالطبع - الديون العراقية .التي كانت قد تجاوزت عن نفس الفترة 120 مليار دولار .

أي أن مجمل الديون العربية يرتفع بإضافة العراق الى 490 مليار دولار و أي 78 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العربي العام عام 1999 .

أما عن خدمة الديون ( أي الفوائد السنوية ) فكان يصل الى 11.6 في المائة وعليه فإن إجمالي الفوائد السنوية المترتبة على الديون العربية يصل الى نحو 56.9 مليار دولار سنويا . وتتوزع ديون دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة لليمن على النحو التالي : السعودية 69.2 مليار دولار ( ديون عامة , القسم الأكبر منها داخلي وتشكل ما نسبته 120 في المائة من إجمالي الناتج المحلي ) . قطر 7.3 مليار دولار تعادل 60 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي . اليمن 4.9 مليار دولار . ويبلغ مجموع ديون الدول الثلاث 181.4 مليار دولار .

وتبلغ إجمالي الديون المترتبة على الدول العربية الواقعة في شمال أفريقيا وهي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ومريتنانيا نحو 75.5 مليار دولار . وهي على النحو التالي : ليبيا 3.8 مليار دولار . تونس 11.3 مليار دولار وتشكل 56 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي . الجزائر 28 مليار دولار وتشكل 60 في المائة من الناتج الإجمالي . المغرب 30 مليار دولار . موريتانيا 2.4 مليار دولار . ومع الأخذ في الإعتبار معدل الفائدة السنوية فإن خدمة الديون للدول المغاربية الخمس يبلغ نحو 8.758 مليار دولار .

أما الديون المترتبة على كل من سورية والعراق ولبنان والأردن فتبلغ نحو 172.804 مليار دولار , موزعة على النحو التالي : العراق 120 مليار دولار . سورية 22 مليار دولار أي نحو 130 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي . لبنان 23.0 مليار دولار ويمثل 140 من الناتج الإجمالي . الأردن 7.304 مليار دولار .

وتقدر خدمة ديون هذه الدول بأكثر من 20 مليار دولار سنويا .

أما الديون المترتبة على كل من مصر والسودان والصومال وجيبوتي بمقدار 91 مليار دولار . وهي على النحو التالي : مصر 68.2 مليار دولار وتشكل أكثر من 75 في المائة من النانج المحلي الإجمالي . السودان 20 مليار دولار ديون قديمة . الصومال 2.6 مليار دولار . جيبوتي 200 مليون دولار . وتبلغ الخدمات السنوية لهذه الديون نحو 10.55 مليار دولار .

والسبب الرئيسي وراء إرتفاع هذه المديونية هو إعتماد الأنظمة العربية على سياسات واستراتيجيات سيساية وإقتصادية غير ملائمة وبما يتجاوز واقع الدول العربية وإمكاناتها وكذلك تضخم الإستيراد وتمويله بالإقتراض وكذلك الفساد الإداري والمالي وتدني الإنتاجية .

وهكذا تفاقمت أزمة هذه الإنظمة العربية - النفطية وغير النفطية - وإستنزفت مواردها في خدمة الين وتسديد القروض بدلا من توجيهها الى التنمية , وكذلك تمويل عمليات الإستيراد الجديدة من القروض الجديدة .

وقد أدى ذلك الى تعميق تبعية الإقتصاديات العربية للمؤسسات المالية الدولية وفي نفس الوقت قيام مؤسسات الإقراض الدولية بإستغلال حاجة النظام الإقليمي العربي الى القروض الجديدة لفرض شروط إقتصادية وسياسية وإجتماعية مجحفة وغير متناسبة مع ظروف هذه الدول مما أدى الى حدوث كثير من الهزات الإقتصادية والإجتماعية الخطيرة . وقد تمثل هذا في استنزاف احتياطات الدول العربية من العملات الأجنبية مما أدى الى تراجع اسعار صرف العملات المحلية وتراجع قيمتها .

وهكذا تدهور النمو الإقتصادي وتراجعت معدلات الأجور مما أدى الى تفاقم ظاهرة الفقر والبطالة في هذه االبلدان وما يصاحبها من دفع أصحاب الكفاءات والطاقات العربية للهجرة الى الخارج بحثا عن فرص عمل أفضل . وهنا تكون الخسارة مزدوجة تتمثل في خسارة تأهيل هذه الكوادر وكذلك خسارة مجهوداتهم بعد أن أصبحوا منتجين .

وفي هذا السياق تؤكد الإحصاءات المتوفرة أن الدول العربية تساهم بنحو " الثلث " في هجرة أصحاب الكفاءات العلمية في البلدان النامية . وبمقارنة حركة الهجرة بمجموع خريجي الجامعات العربية , لوحظ هجرة 50 في المائة من الأطباء و 23 في المائة من المهندسين و 15 من العلماء و ومعظم هؤلاء يتوجهون الى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية واستراليا .

كما أنه في الوقت الذي تستمر فيه المديونية العربية في التفاقم , تواصل رؤوس الأموال العربية زحفها الى الأسواق الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن الإستقرار والأمان والربح.

خامسا : لأن التكامل الإقتصادي والوحدة الإقتصادية تتطلب أن يكون هناك قرارات وممارسات ذات طابع سياسي من طرف النخب الحاكمة لفرض هذا التكامل الإقتصادي . وهذا يعني أولوية السياسي على الإقتصادي . ( ينبغي الرجوع في هذا الموضوع بالذات الى الدراسة الموسوعية التي قدمها نديم البيطار حول هذا الموضوع والمعنونة: النظرية الإقتصادية والطريق الى الوحدة العربية و معهد الإنماء العربي , بيروت . فقد دلل البيطار في هذه الدراسة على " مثالية " الطريق الإقتصادي في الإنتقال من التجزئة الى الوحدة عبر تجارب التوحيد القومي عبر التاريخ مع تحليل خاص لتجربة الوحدة الأوروبية وتبيان أولوية السياسي على الإقتصادي في هذه التجربة ) .

الخلاصة : أن أولوية الطريق الإقتصادي للوصول الى الوحدة العربية ليس سوى وهم يعشش في بعض العقول الغافلة .. وهم يعارضه الإقتصاديون المؤمنون بالوحدة العربية من واقع خبرتهم بالإقتصاديات المجزأة ودور العوامل السياسية في التأثير في العوامل الإقتصادية . ( يمكن بشكل خاص الرجوع للندوة التي أجرتها مجلة المستقبل لصفوة من رجال الإقتصاد العرب الوحدويين بعنوان : الفكر الإقتصادي وتعثر مسيرة الوحدة , المستقبل العربي , عدد 12 , 1980 ) .

السؤال السادس : وحدة عربية بدون حزب وحدوي ؟

 




السؤال السادس : وحدة عربية بدون حزب وحدوي ؟

43 - استطاع الرئيس " عبد الناصر " بشخصيته الاستثنائية تحقيق حالة من التأييد الشعبي والنضالي – بل وتنظيمي - حول مسعاه الوحدوي , ولكن هذه الحالة انهارت تماما في السنوات الأخيرة وتفتت الحركة الوحدوية الى " حركات متعددة متناحرة في داخل الوطن العربي ككل وفي داخل كل قطر على حدة . كيف يمكن لتيار ينادي " بالوحدة " أن يعجز عن " توحيد " صفوفه ومواجهة أعداءه وخصومه ؟

ان المنطق السياسي بسيط في هذه المسألة بالذات : هل يمكن بناء وحدة عربية بدون حزب وحدوي يحشد وينسق ويناضل من أجل الوحدة العربية في كل الأقطار ؟

إن غياب هذا الحزب هو النفي العملي على مسألة الوحدة العربية .

وبدون حزب وحدوي لا يمكن الحديث - جديا - عن الوحدة العربية .

44 - والواقع أن الفكر السياسي العربي خلال الأحقاب الثلاثة الأخيرة ( حقب النكسة الوحدوية ) ركز على أهداف أخرى أكثر إلتصاقا بالواقع اليومي للحياة السياسية في الأقطار , وبشكل خاص هدف الديمقراطية والحرية السياسية . وقد أدى هذا الى خلاف فكري وسياسي حول طرق وأدوات ووسائل الوصول الى الوحدة العربية . فهناك تيارات تعتبر أن الوحدة هي بداية كل نضال أو جهد . بينما يعتبر البعض أن الوحدة هي محصلة نهائية لمجمل النضالات والتطورات الأخرى من إقتصادية وديموقراطية .

وقد دافع دعاة الديمقراطية - بشجاعة - عن أولوية النضال من أجل الديمقراطية في الوقت الحالي , أملا أن يؤدي تحرير الجماهير العربية من الإستبداد الى إنتقالها - دون شك - الى الوحدة السياسية .

ولكن الواقع العملي يثبت أن إنتقال بعض الأقطار العربية الى أشكال من الإنفتاح السياسي المحكوم و لم ينشأ عنه - تلقائيا - تحسن في الوضع أداء النظام الإقليمي العربي على المستويات الأخرى من إقتصادية وسياسية وعلى مستوى المواجهة مع المخاطر الخارجية .

فالمحصلة النهائية لثلاثين عاما من التركيز على النضال الديمقراطي القطري ( بمفهومه الضيق ) لم تنتج سوى تبعية كاملة لأمريكا وهيمنة كاملة للتحالف الصهيوني - الإستعماري .

ومن الطبيعي أن يعكس هذا التباين في الأولويات والأهداف نفسه في المسألة التنظيمية . أي على طبيعة الآداة السياسية والنضالية التي تؤدي الى هذه الأهداف .

45 - إلا أنه من الواضح . والملفت للنظر أيضا , أن المناقشات حول المسألة التنظيمية , قليلة جدا وذات طبيعة تقريرية , حيث أن كل تيار فكري أو سياسي يقرر الشكل التنظيمي الذي يؤاه مناسبا ومنسجما مع أيديولوجيته أو نظريته السياسية دون أن يكلف نفسه عناء مناقشة التيارات الأخرى منطلقا من هذه الناحية بالذات . وربما يعود النقص في المناقشات حول ( المسألة التنظيمية ) في الفكر السياسي العربي , الى إنحصار هذه المناقشات داخل النخب الحزبية دون خروجها بشكل كاف الى جمهور المهتمين بهذه القضايا . أو نتيجة لترفع غالبية أفراد النخبة المثقفة عن الدخول في العمل الحزبي والسياسي تحت وهم " الحياد الفكري " أو " الموضوعية العلمية " .. وهو موقف عقيم - في رأينا- ويعكس عدم نضج فكري وسياسي . فالمجتمعات لا تتحرك بالأفكار العظيمة ولكن بالعمل السياسي المكثف . وبقدر نضج السياسة والسياسيين تتسارع عملية التطور أو تتباطئ .

لذلك فهذا الحديث ليس موجها للذين يعتقدون أنه يمكن تحقيق الوحدة بدون حزب وحدوي . وهو حديث غير معني بالذين يعارضون هذه الفكرة أو مجادلتهم . وهو حديث غير معني بالذين يتلكأون في المقاهي والصالونات إنتظارا لأن تكون الأمور على أرفع مستوى وأدق ترتيب حتى يتقدموا الصفوف ويضعون توقيعاتهم الكريمة ومباركتهم المقدسة على الوثائق .

46 - إذا كان هذا الحديث واضحا , وهو في رأينا واضح بدرجة كافية لا تحتمل التفسير , فإن هذا سيحرق مسألة النقاش و البحث في ضرورة الحزب الوحدوي أو عدمه . وينقلنا الى الصعوبات التي تقف أمام قيام هذا الحزب .

وقد حددت " معن بشور " هذه الصعوبات في دراسته المنشورة بعنوان : التنظيم القومي الموحد , الضرورات والإمكانات " عام 1979.

ومنذ هذا التاريخ , ومن قبله نداء الرئيس عبد الناصر لبناء الحركة العربية الواحدة عام 1963, وكتابات " عصمت سيف الدولة " عن الحركة العربية الواحدة والتنظيم القومي بعد نكسة يونيو / حزيران 1967 , لم تثر مناقشات جدية حول هذا الموضوع .

ولعلني هنا أعيد كتابة ما كتبه " معن بشور " في دراسته عن الصعوبات لفتح النقاش في الموضوع وتحفيز النخبة الوحدوية على الحوار في موضوع يجري التهرب منه في غالب الأحيان لأسباب بعضها معلوم وأكثرها مجهول ؟!!

صعوبات بناء الحزب الوحدوي

أولا : ظروف التجزئة في العالم العربي وما أدت إاليه من ضعف وسائل الإتصال بين الأقطار وتجريم هذه الإتصالات فيما لوحدثت . وتشتد هذه الحواجز إرتفاعا كلما إشتد زخم النضال في أحد الأقطار واتسعت فعاليته كي تمنع إنتقاله وتأثيره الى القطر الآخر . كذلك لجزء عدد من المناضلين الوحدويين الى النضال القطري والإنغماس فيه نتيجة الظروف المفروضة عليهم أو للإيمان الوهمي بأن تحسين الشروط السياسية في القطر ستؤدي " تلقائيا " الى الإنتقال للنضال القومي . وقد أدى هذا الإتجاه الى ضعف الوحدة الفكرية بين المناضلين في الأقطار وتوزع أولوياتهم وتفاوت المستوى والتهرب من الإلتزامات المركزية القومية .

خصوصا في ظل غياب صحيفة مركزية وتثقيف مشترك وخطة نضال قومية واحدة .

والنتيجة الطبيعية لكل هذا أن النضال القطري لم يتحسن بحال من الأحوال بل زاد الطين بله وتكون الشلل والتجمعات القطرية المتصارعة والمتناحرة والهامشية .

ثانيا : أن النضال القطري يفرض اسلوبا من خاصا من التحالفات والمناورات والإستراتيجيات المتعارضة في ظل غياب استراتيجية مركزية قادرة على ضبط الأداء , فالتنوع في المهام وظروف من نضال ديمقراطي علني , الى نضال مسلح ضد المحتل الأجنبي , أو النضال من أجل مكاسب إجتماعية يعكس نفسه في أسلوب عمل المناضلين من أجل الهدف النهائي وهو تحرير وتوحيد الأمة العربية . ولكنه في الوقت نفسه يكون تفاوتات نفسية . ففي ظروف المواجهة اليومية مع الموت في الكفاح المسلح تنشأ لدى المناضل ثقة كبيرة بالنفس , التي إذا لم تترافق مع وعي كبير , فيمكن أن تؤدي الى أحساس بالذاتية والتعالي في التعامل مع المناضلين في المستويات الأخرى أو الأقطار الأخرى الذين يمارسون النضال الديمقراطي العلني القائم على الجدل النظري أساسا . ان هذا التباين يسهم في تشكيل القاعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية وحتى النفسية , للتشقق والتمزق داخل التنظيم القومي ذاته وعلى أسس قطرية في كثير من الأحيان .

ثالثا : ان مهمة قيام الحزب الوحدوي تواجه بمقاومة من الأحزاب والتنظيمات القطرية ذات التوجه الوحدوي . فبعض هذه الأحزاب والمنظمات إرتبط بمصالح قيادات وزعامات تاريخية - وغير تاريخية - وهي غير مستعدة للتنازل عن مكاسبها وخصوصيتها ورصيدها لصالح عمل قومي أكبر يمكن أن يعرضها للضياع أو التحلل !!

وتزداد هذه الصعوبة في حالة " مصر " . فموقع " مصر " ودروها الجيوسياسي يجعل لما يحدث فيها تأثير كبير على ما في خارجها . ولقد ثبت بالدليل العملي " الدور " السلبي " الذي لعبته بعض القوى الوحدوية في مصر على النخب الوحدوية خارجها والتي تنوعت مواقفها من الإنتظار السلبي لتغيير سياسي في مصر الى التورط في علاقات مشوهة مع بعض القوى والتيارات الوحدوية الفاشلة داخلة مصر . . فأي حزب وحدوي لا تكون مصر فيه ولا يكون لمصر دور بارز فيه سيكون محروما من قوة الدفع الرئيسية في الوطن العربي. ( معن بشور , التنظيم القومي الموحدو الضرورات والإمكانات , المستقبل العربي , عدد 5 , 1979 ) .

47 - من هنا تبدو لي أزمة القوى الناصرية في مصر أمرا يهم كل وحدوي يناضل من أجل الوحدة العربية ويضع قضية الحزب الوحدوي في قمة جدول أعماله .

ان الناصريين كانوا , وما يزالون , أكثر انتشارا على المستوى الشعبي من أية قوى أخرى .. وكان عليهم أن يتحولوا من تيار شعبي غير منظم إلى قوى جماهيرية منظمة . إلى حزب . ولكنهم كانوا يواجهون في سبيل ذلك عدة عوائق ذات طبيعة نظامية وتاريخية لم يواجهها ولا يواجهها مجتمعة حتى الآن أي تيار آخر . منها عداء اللأنظمة لهم وإنكار شرعية التنظيم عليهم . ومنها غياب الخبرة بالتقاليد التنظيمية لدى الجيل الجديد . ومنها افتقاد قيادة محورية مقبولة من الجميع . ومنها الناصريون " الرماديون " الذين أرادوا أن يكونوا ساداتيين فعلا جلبا للكسب الحالي وناصريين قولا ليستحقوا الكسب المحتمل , فأضعفوا أثر الفرز الحاد الذي كان كفيلا بأن يخدم هدف التحام الناصريين قولا وعملا في حزب . ومنها أخيرا وليس آخرا عقبة كيفية التنظيم . الصيغة التقليدية هي أن تلتقي أقلية من الصفوة على مبادئ يصوغونها ثم يدعون الناس الى الالتحاق بهم , أو يستقطبونهم أفرادا حتى يكون للهرم الذي بدأ من قمته قاعدة جماهيرية كافية لحمل ثقل مبادئه فبيستقر .

48 - مشكلة الناصريين أنهم يكونون قاعدة جماهيرية عريضة لا بد أن يبدأ منها بناء هرمهم التنظيمي . وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكان هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الغالبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . ولقد استطاع الناصريون أن يتحولوا عن طريق تفاعل قريب الشبه من التفاعل الكيميائي من أفراد ( ذرات ) الى جماعات ( بلورات ) وأن تتجمع البلورات في كتلة ( حزب تحت التأسيس ) يقاوم ذوبان كل أفرادها وجماعاتها أفراد وجماعات . " ( عصمت سيف الدولة : عن الناصريين .. وإليهم ) .

لكن ما الفائدة التي قد يجنيها الناصريون من بناء حزب ناصري إقليمي في مصر ؟

المنطق الإقليمي !!

49 - لقد رأى القوميون أنه واجب قومي عليهم نحو أمتهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد للإسهام أو المساعدة على أن يلتحم الناصريون في مصر في تنظيم هو القادر بجماهيره على أن يحسم المعركة ضد الردة لصالح مصر العربية كما يمكن أن يكون في مرحلة لاحقة وبعد النصر في الإقليم القاعدة قابلا للنمو تنظيما قوميا .

فالحزب الذي راهن على دوره كل الوحدويين وإنتظروه لم يحقق الآمال التي عقدت عليه ولم يف حتى بعزاء الصبر في إنتظار الفرج الذي حلموا به !!

لسنا بصدد التقييم هنا لما حدث داخل الحزب الناصري في مصر . فليس هذا هدفنا من هذا الكتاب .

وإن كانت المؤشرات التي تخرج من مصر تؤكد على عمق الأزمة التي يعيشها التيار الناصري تنظيميا وجماهيريا

50 - يكفي أن نقول أن الناصريين " الرماديين " لم يسعوا لحظة واحدة لتحديد من هو الناصري ومن هو غير الناصري وفق معيار موضوعي غير ذاتي أي على أسس منهجية وفكرية محددة.

لقد دخل الناصريون المصريون حزبهم وكل منهم يحمل مفهوما ذاتيا وخاصا " للناصرية " فكان لابد والحال هكذا أن يتمزق الحزب وينفرط عقد الناصريين داخله وخارجه . وكان من الطبيعي أن يحتل " الناصريون الرماديون " المواقع والمناصب التي تؤهلهم لها " ناصريتهم " الصارخة الزاعقة في مواجهة من فضلوا العمل للناصرية فكرا وعملا وجهدا دون ضجيج أو تعالي أو إدعاء .

هذا من ناحية .



51 - من ناحية ثانية عاشت التنظيمات الناصرية نفس المرض الذي عانت منه الحركة الشيوعية العربية , فقد كانت تنظيماتهم تولد على أسس قطرية , وتنمو وتنقسم وتموت على ذات ألأسس القطرية الضيقة التي نشأت عليها , أي في غياب مؤسسة أو حزب قومي يمكن الرجوع له أو الإحتكام اليه.

ورغم كل التحذيرات التي كانت توجه للناصريين في مصر وخارجها – بعد وفاة عبد الناصر - بضرورة حسم البناء التنظيمي على المستوى القومي قبل الشروع في بناءات تنظيمية قطرية خوفا مما يكتنف النشأة القطرية من مخاطر ليس أقلها على أية حال خطر التشرزم والإنقسام .

ولكن راحت كل هذه التحذيرات أدراج الرياح مع إغراءات النصر المؤقت على المستوى القطري أو بسبب الغرق في الهموم القطرية ومخاطرها .

منذ أكثر من ربع قرن أجل الناصريون – في مصر وخارجها – بناء مؤسستهم القومية الواحدة متأثرين " بوهم منطقي " عن ضرورة الإنتشار جماهيريا وتنظيميا على المستوى القطري قبل الإنطلاق على المستوى القومي .

52 - ونستطيع أن نقول بكل ثقة أن هذا المنطق فشل بجدارة منقطعة النظير . فبعد ربع قرن من الإجتهادات التنظيمية القطرية يجد الناصريون أنفسهم ينمون بطريقة عكسية .فبدلا من النمو الذي توهموه , أي من المتعدد الى الواحد , من القطري الى القومي .. صاروا يتناسلون من الواحد الى المتعدد في داخل كل قطر على حدة , وضاع منهم هدف التنظيم القومي أو كاد !!



هل هناك حل ممكن في الظروف الحالية لإشكالية التمزق الناصري؟



53 - نعم … ان ما نطرحه بهذا الصدد بسيط وممكن . وهو أن يتجمع الناصريون بأحزابهم وتنظيماتهم وتجمعاتهم وأفرادهم في مؤسسة علنية ذات طابع قومي وديمقراطي .

وهي قومية من حيث ان الإنتماء اليها يكون مفتوحا لأي تجمع ناصري قطري دون قيد أو شرط . وهي قومية من حيث أن الإنتماء اليها يكون مفتوحا لمن يطلبه تنظيميا جماعيا أوفرديا دون شروط مسبقة سوى الإنتماء للبرنامج الناصري كما صاغه ميثاق العمل الوطني الذي كتبه الرئيس عبد الناصر عام 1961 في جانبه القومي مع استبعاد ما تجاوزه الواقع العربي من تفصيلات قطرية منذ رحيل الرئيس عبد منذ ثلاثين عاما .

ما ندعو له يشابه الى حد كبير تجمع الأحزاب الإشتراكية الأوربية أو احزاب الإشتراكية الأوربية وأحزاب البيئة الأوربية التي تضم شخصيات عامة و تجمعات تنظيمية وحزبية مختلفة الأشكال والإهداف . ان هذه التجمعات الأوربية نجحت الى حد كبير في الإتفاق على أهداف عامة والتنسيق فيما بينها بشكل فعال في الإنتخابات البرلمانية خصوصا إنتخابات " البرلمان الأوروبي " . ولعل التنسيق بين جماعات البيئة الأوروبية ودورهم في البرلمان هو خير نموذج يمكن أن يقترب من ظروف التيار الناصري بإعتبارهما تيارين ناشئين حديثا ويتمتعان بحيوية تنظيمية غير منكورة .

54 - نحن نعتقد ان مثل هذه المؤسسة لن تشكل بديلا تنظيميا عن الحزب القومي الوحدوي , ولكنها إمكانية متاحة للناصريين – على إختلاف ساحاتهم القطرية - تساعدهم على التلاقي وإدارة الحوار الديمقراطي والتفاعل التنظيمي والتنسيق السياسي في المواقف القومية والحوار مع القوى والتيارات القريبة منهم .. وهكذا . على أن يكون هدفها الإستراتيجي الذي تتوخاه في برنامج عملها وفي أهدافها القريبة , والذي يجب ألا يضيع منها أبدا هو هدف بناء الحزب القومي الواحد .

المسألة ليست سهلة كما قد يتصور البعض . ففي مواجهة هذه المؤسسة ستقف عقبات عديدة منها : الإمكانيات المادية اللازمة لنشأة هذه المؤسسة وشكل بناءها وإدراتها وشروط الإنضمام لها وكيفية حمايتها من الإنحرافات والعناصر المخربة داخلها وكيفية مواجهة خصومها وأعداءها الخارجيين.. وهكذا .

ولكن إذا أخذنا في الإعتبار أنها مؤسسة علنية ومفتوحة للجميع فإنها تصبح تجربة مهمة في مسار العمل القومي لن يحسب فشلها – لاقدر الله - على الهدف الإستراتيجي : الحركة العربية الواحدة. أما اذا نجحت فإنها ستقرب الناصريون والحدويون من تحقيق الهدف الإسترتيجي الذي يعملون له جميعا , أي الوحدة العربية .









السؤال السابع : هل هناك عوامل تدفع الى الوحدة العربية في السنين القادمة ؟



55 - نعم … الواقع أني لدي قناعة شخصية في ان العوامل الدافعة باتجاه الوحدة العربية قد أصبحت الآن أكثر مما كانت عليه في العقود الأربع السابقة ( أي منذ انهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ) على الرغم من الصورة القاتمة التي تميز الواقع العربي الراهن والذي تشرزم بشكل غير معهود منذ حرب الخليج الثانية … كيف؟

أولا : أن العالم العربي اصبح يشهد درجة عالية من الاستواء الاجتماعي والاقتصادي لم تكن متوافرة في حقبة الخمسينات والستينات حيث كان التفاوت الحضاري والاجتماعي بين الأقطار العربية يقف حجر عثرة أمام عملية التوحيد . لقد مكنت الدخول النفطية والهجرة داخل الوطن العربي وخارجه الى تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي وتطوير المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والصحية والخدمية . ان المقارنة السريعة للأحوال الاجتماعية في على بلدان المغرب أو المشرق أو بلدان الخليج أو مصر لا تكاد تلمح فروقا كبيرة في درجة الاستواء الحضاري كتلك التي كانت موجودة قبل أربعين عاما .



ثانيا : ان العالم العربي الذي كان قد شهد تميزا واضحا في النخب الثقافية والفكرية والسياسية لبلدان المشرق العربي ومصر في الخمسينات والستينات – وربما السبعينات – أصبح يشهد الآن ظاهرة نضج وتطور " مذهل " للنخب المثقفة في بلدان المغرب والخليج العربي والسعودية واليمن . فلقد ساهمت الدفقة البترولية بعد حرب أكتوبر الى توسع هائل في الخدمة التعليمية وحدوث " طفرة " هائلة في تركيبة النخب المتعلمة في هذه الأقطار وانفتاحها على أفكار وتيارات حديثة الأمر الذي يشكل – في رأينا – نقلة استراتيجية في مستوى الوعي العام في هذه الأقطار . صحيح أن هذه " النخب الجديدة " لم تأخذ بعد زمام المبادرة والفعل في هذه الأقطار نظرا لسيطرة القيم العائلية والعشائرية أو القبلية , إلا أن السنين القادمة ستشهد - حتما - دورا متصاعدا لهذه النخب وينضج كثير من مفاهيمها عن الأمة والوطن والمواطنة والعقلانية السياسية وحقوق الإنسان والرشادة الاقتصادية وغيرها من المفاهيم التي تضغط على الوطن العربي منذ أكثر من عقدين وتتصاعد في ذهن النخب العربية ويحقق درجة عالية من التقارب المفاهيمي والفكري والشخصي .



ثالثا : ان العقود الثلاثة الفائتة ( السبعينات والثمانينات والتسعينات ) شهدت درجة عالية من السيولة والاختلاط بين النخب الفكرية العربية وبعضها البعض عبر المهرجانات والتظاهرات الأدبية والفنية والثقافية والسياسية التي تقام في كل بقاع العالم العربي , والنمو الهائل في وسائل الإعلام والصحافة المحلية أو المهاجرة واستضافتها للكتاب العرب من مختلف الأقطار العربية ( التي ساعدت عليها أيضا الدفقة المالية البترولية لبعض الأقطار العربية ). صحيح أن حرب الخليج الثانية ضربت هذه الظاهرة ضربة موجعة بما مثلته من استنزاف اقتصادي للبلدان النفطية ( التي كانت تستضيف غالبا هذه التظاهرات ) وبما نتج عنها من استقطاب داخل النخبة العربية المثقفة بسبب مواقفها من هذه الحرب .

لكن يمكننا القول ان هذه النخب بات يتولد داخلها الإحساس – مرة أخرى - بضرورة تجاوز آثار هذه الحرب واستئناف مشروعها الثقافي والسياسي خارج الإطر الضيقة التي ترسمها لهم النظم القطرية .



رابعا : ان التطور المذهل في وسائل الاتصال والفضائيات والإنترنت , عمل على تهشيم الحدود القطرية وأطلق المواطن العربي من سيطرة الفكر الواحد للدولة الحاكمة . فمهما بلغت سيطرة الإعلام الحكومي وتحكمه , لم يعد قادرا على حجب المعلومات أو احتكارها أو منعها من الدخول أو مراقبتها على الحدود .

ان الرقابة على الصحف والمطبوعات والمنشورات ومنع ما قد يسيئ منها للنظام الحاكم سقطت للأبد مع دخول العالم العربي عصر الفضائيات والإنترنت . ان المعلومة التي قد تمنعها الأنظمة القمعية لن تلبث أن تصل للمواطن العادي في غرفة نومه بواسطة الفضائيات أو عبر الإنترنت والفاكس .

ان القوى الوحدوية لم تتلمس حتى هذه اللحظة أهمية التعامل مع ثورة المعلومات وما تتيحه لها من إمكانيات ضخمة في التواصل عبر وفوق الحدود الإقليمية من خلال الإنترنت وفي خلق تيار شعبي واسع مؤيد للوحدة العربية في الأقطار المختلفة عبر الفضائيات المستقلة داخل الوطن العربي وخارجه . ولكن لن يطول هذا القصور فقوانين العصر القادم ستفرض نفسها على الجميع .

إن مفهوم الأمن السياسي في العالم العربي سيتغير حتما مع هذه الثورة الإعلامية . ان الأمن الوقائي ( بمعني محاصرة الأفكار والمعلومات ومراقبة تسربها ) سيفقد دوره تدريجيا مع تطور وانتشار وسائل الاتصال الجديدة , وسيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التركيز على وسائل القمع المباشر لكبت أي احتمالات للتغيير والثورة أو القبول بإصلاحات واسعة ( وإن كانت متدرجة ) في بنيتها السياسية تضمن مشاركة أوسع في القرار السياسي والثروة الاقتصادية .



رابعا : ان المتابعة الدقيقة للحياة السياسية في الأقطار العربية – كلها وبدون استثناء – تنبئ عن اتجاه " خجول ومتردد " نحو الانفتاح السياسي و نحو إعطاء جرعات متدرجة من الحرية السياسية .

هذا الانفتاح السياسي " الخجول " يجد دوافعه فيما ذكرناه سابقا عن نمو ونضج النخب المثقفة وأتساع حاجاتها في التعبير عن نفسها وامتلاكها " للوعي النقدي " وسعيها الى المشاركة في القرار السياسي واستفادتها النسبية من تطورات الثورة الإعلامية .

56 - ان السنوات العشر القادمة ستحمل مفاجآت كثيرة في العالم العربي . ولعل أولها غياب عدد من القيادات التقليدية في العالم العربي وانفتاح المجال أمام نخب جديدة في حكم الأقطار العربية تعيش عصرها ولغته بمنطق وعقلية مختلفتين عن القيادات السياسية المحافظة في الحكم أو المعارضة .

نضوج كل هذه الاتجاهات " الإيجابية " و " التحكم " في مساراتها ووصولها الى منتهاها سيضع حتما مسألة الوحدة العربية على رأس جدول أعمال القوى السياسية الوحدوية . بشرط أن تنجح في انتهاج أسلوب علمي وواقعي في العمل الوحدوي … ولكن كيف ؟



هذا هو المأمول من هذه الندوة أن تجيب عليه ؟

والله الموفق .





على الرغم من أنني تناولت في دراسات سابقة التجربة الناصرية من جوانب متعددة كان منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي , إلا أنني قاومت حتى هذه اللحظة إغراء الكتابة عن " عبد الناصر الإنسان " لأسباب متعددة . كان أهمها أنه كان هناك دوما أشخاص قريبين بحكم مسئولياتهم من الرئيس عبد الناصر مما مكنهم من الكتابة عن نواحي مختلفة من شخصيته على درجات متفاوتة من الدقة . ولكنها كانت في معظمها جوانب ذاتية محكومة بمواقف هؤلاء ودرجة قربهم من شخص الرئيس , فضلا عن درجة ثقافتهم ومواهبهم الشخصية التي كانت ترى في شخصية الرئيس جوانب معينة ولا ترى غيرها .

المهم أن إغراء الكتابة الشخصية عن عبد الناصر الشخص لم تخمد في داخلي رغم كل هذه السنين .. ولكن ماذا أكتب ؟ في النهاية أطلقت السراح " لإعجابي " الدفين بشخصية عبد الناصر لكتابة هذا المقال عن عبد الناصر المثقف .. عن عبد الناصر القارئ النهم .. عن عبد الناصر المحاور الذكي .. عن عبد الناصر الدائب الإطلاع .. عن عبد الناصر صاحب الذاكرة الحديدية .. عن عبد الناصر الحريص في اختيار الألفاظ والتعبيرات .

من أين نبدأ ؟

من النشأة الفكرية :

تعلمنا مقولات " علم اجتماع المعرفة " (وهو العلم الذي يبحث في شروط وظروف انبثاق المعرفة الإنسانية ) أن " الفكر البشري " لا يأتي من فراغ أو من تدريب ذهني محض , بل ينبغي الربط بين الأفكار والنظريات والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ظهرت في سياقه باعتباره واقعا تاريخيا . ذلك أن فهم الأفكار أو المذاهب السياسية أو النظريات العلمية أو الشخصيات السياسية ليس مقطوع الصلة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها , خاصة إذا سلمنا بالعلاقة الجدلية بين عالم الفكر وعالم الواقع . وهكذا يمكن أن نقول أن دراسة فكر أي فيلسوف أو زعيم سياسي دون البحث في نشأته الاجتماعية التي نمى داخلها أو دون بحث في الأفكار والثقافات التي تلقاها في صغره هو نوع من الهراء . فالفيلسوف أو الزعيم السياسي هو نتاج عصره وأسرته ووطنه وبالتالي يتعين البحث عن أصول النظريات والأفكار في أحشاء المرحلة التاريخية التي عاشها وأبدع فيها فكره أو مذهبه أو نظريته . كل هذا اصبح بديهيا أو يكاد , ومن ثم يجدر بنا قبل دراسة سلوك عبد الناصر النظري أن نقترب من نشأته الفكرية في مراحل الشباب و التي أثرت على منهجه في الرؤية والتحليل والسلوك .

1- الثقافة الليبرالية :

يؤكد كثير من الباحثين في طبيعة الزعامة الناصرية أن الممارسة العملية كانت هي المدرسة الأساسية في تطور أفكاره . وهؤلاء الباحثون يعتقدون أن قيادات وزعامات العالم الثالث بشكل عام , وعبد الناصر بشكل خاص , نموا من الخلال الممارسة وقلما ما يسبق هذه الممارسة فكر نظري كامل أو متكامل .

وهؤلاء الباحثون يرون ان العودة الى التنشئة الفكرية لعبد الناصر في مرحلة الشباب الأولى تظهرها منصبة بشكل أساسي على الموضوعات الليبرالية العامة التي كان يكتبها جيل الثلاثينات والأربعينات من مثقفي مصر والذين كانوا ليبراليين في معظمهم . ولكننا نرى أن الفكر الليبرالي لم يكن يحوز على كل المساحات الفكرية في ذهن عبد الناصر , بل أن قراءاته المبكرة تظهر بدايات لإهتمامات بالفكر الإشتراكي في صورته الإصلاحية كما أوضح ذاته في حديث منشور له مع مراسل " الصنداي تايمز " الإنجليزية " دافيد وين مورجان " " مندوب صحيفة " في حديثه الذي نشر في يونيو / حزيران عام 1962, حيث نراه يقول : " … لقد ركزت حتى عام 1948 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي – والذين توافرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم – وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين نحاول أن نخرج مثلنا العليا العامة في هدف مشترك وفي خطة مشتركة – وكانت بي رغبة عارمة للمعرفة – فأقبلت على الإطلاع بنهم والتهمت كتب المفكرين من أمثال : " لاسكي " و " نهرو " بل و " انيورين بيفان " وبدأت الأفكار الاشتراكية تتكون شيئا فشيئا " .

من هذا المقطع نعرف أن ثقافة عبد الناصر الأولى كانت تتشكل في موضوعات الفكر الليبرالي بشكل أساسي وإن كانت قد بدأت تنحو نحو الفكر الإشتراكي الديمقراطي كما ظهر في كتابات الإشتراكيين الليبراليين في أوروبا أو تجربة الهند ونهرو بالذات وهو يثبت أن النزوع الإجتماعي وفكرة العدالة الإجتماعية كانت قد بدأت تظهر جذورها في تكوينه النفسي والفكري كشأن معظم مثقفي مصرفي هذه الفترة فقد كان الإنقسام الإجتماعي الذي تعيشه مصر آنذاك عميقا وحادا وهو ما أطلق عليه عبد الناصر فيما بعد حين تولى السلطة مجتمع النصف في المائة ( حيث كان يحتكر 0,5 % من الشعب المصري أكثر من 50 % من الثروة الوطنية ) . ولقد أوضحت مسيرة عبد الناصر خلال السنوات الأولى من حكم مصر تأثره بهذه الإشتراكية الإصلاحية التدريجية حينما بدأ يتبنى في نهاية الخمسينات شعار " الإشتراكية التعاونية " . بإختصار يمكن أن نقول أن قرءاته في الفكر الإشتراكي في سنوان تكوينه الأولى كان لها أثر كبير في القطيعة التي حدثت بينه وبين الفكر الليبرالي التقليدي فيما بعد .

2- الثقافة الماركسية :

من ناحية أخرى يرى بعض اليساريين أن هذه " الثقافة الليبرالية " قد منعت " عبد الناصر" من الإطلاع على الفكر الإشتراكي العلمي وبشكل خاص الفكر الماركسي بشكل " عميق " وأنه لم يدرس الفكر اليساري والماركسي بشكل " منهجي " إلا بعد بلوغه السلطة .

وفي اعتقادي أن " عبد الناصر " كان قد أطلع بشكل "كافي " على الفكر الماركسي في مرحلة شبابه المبكرة وبصورة تجعله قادرا على اتخاذ موقف " عميق " من هذا الفكر , ويتضح هذا من الحديث الذي أدلى به الى " د . و . مورجان " , عندما سأله هذا الأخير عن تجربته واستكشافاته للأحزاب السياسية المصرية في مرحلة الشباب , فأجاب عليه عبد الناصر قائلا : " …. لقد فوتحت في عدة مناسبات للانضمام للحزب الشيوعي –لكني رغم دراستي للمذهب الماركسي ولكتابات لينين – وجدت أمامي عقبتين أساسيتين , عقبتين كنت أعلم أن لا سبيل الى التغلب عليهما – العقبة الأولى هي أن الشيوعية في جوهرها ملحدة – وقد كنت دائما مسلما صادقا أؤمن إيمانا لا يتزعزع بوجود قوة فوق البشر هو الذي يهيمن على مصائرنا , ومن المستحيل على أي إنسان أن يكون مسلما صادقا وشيوعيا صادقا .

أما العقبة الثانية فهي أنني أدركت أن الشيوعية معناها بالضرورة سيطرة نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية - وهذا أيضا ما كنت أرفضه رفضا باتا … " . ( حديث الرئيس مع د. مورجان , مصدر سابق ) .

يتضح من هذه الإجابة الأخيرة أن " عبد الناصر الشاب " قد فوتح أكثر من مرة للانضمام للحزب الشيوعي وهو ما يعني أنه كان " هدفا " لأعضاء هذا الحزب مع ما يعنيه هذا من نقاشات فكرية مفصلة ومكثفة حول جوانب الفكر الماركسي هدفها إما إقناعه بجوانب الماركسية المختلفة أو التأكد من " اقتناعه " بها تمهيدا لمفاتحته في الانضمام للحزب وهو أمر بديهي في وسائل " التجنيد " داخل الأحزاب العقائدية وبشكل خاص الأحزاب الشيوعية . هذا لا يمنعنا من القول أن دراسة عبد الناصر للفكر الماركسي " نظريا" في مرحلة الشباب وقبل تولي السلطة , لم تمنعه من " دراسته " عمليا في الممارسة والتطبيق عندما وجد نفسه على قمة السلطة السياسية مطالبا ببناء نظام سياسي واجتماعي جديد محاطا بعدد كبير من الزعماء الاشتراكيين الذين جمعتهم به ظروف الحكم والسلطة : تيتو .. شواين لاي .. خروشوف .. نهرو .. كاسترو وجيفارا .. الى آخره . وكان لابد من أن يكون لهذا " الاحتكاك الفكري " أثره الكبير على فكر عبد الناصر وعلى تجربته فيما بعد كما أكد كثيرون . وهناك نصوص عديدة لعبد الناصر تظهر استيعابه " النقدي " لتجربة البناء الإشتراكي في دول المنظومة الإشتراكية وبشكل خاص تجربة يوغسلافيا التي جمعته بزعيمها " تيتو " صداقة شخصية وفكرية عميقة أثرت على قراراته الخاصة بالبناء الإشتراكي و بشكل خاص فكرة التنظيم السياسي الثوري .

3- الثقافة السياسية :

من ناحية أخر كان لإاختلاط " عبد الناصر الشاب " بمعظم الحركات السياسية العاملة في الساحة المصرية من اليمين الي اليسار , خاصة بعد إنشاء تنظيم الضباط الأحرار , من الأخوان المسلمين والماركسيين والوفديين ومصر الفتاة والحزب الوطني وكل الحركات الوطنية والديمقراطية , أمده بثقافة سياسية واسعة جعلته يقف ناقدا وانتقائيا مما يعرضون عليه من أفكار وبرامج وسياسات .

ولكن الأهم من " الفهم النظري المجرد " لأفكار ومواقف هذه الجماعات يمكن أن نجذب اهتمام القارئ بشكل خاص الى ما يؤدي اليه هذا " التدريب العملي " على فهم مواقف واتجاهات هذه القوى وأين ومتى يستطيع أن يتعاون أو يتصادم معها وقد زادت هذه الخبرة رسوخا بعد أن تواجد على قمة السلطة السياسية ويناء على المعلومات والاتصالات التي يقوم وبكل الإمكانيات الكبيرة التي توافرت له على رأس السلطة السياسية .

فلقد نمت لديه بعد الوصول للسلطة " موهبة " الإطلاع أول بأول على كل الأحداث السياسية والاقتصادية العالمية من خلال الإطلاع المباشر على أهم الصحف العالمية الكبرى بنفسه وبلغتها الأصلية وكان يعتبر ذلك من " فرائض " الحكم الصحيح .

ولكي يتابع معي القراء- وبشكل خاص الشباب - منهم كيف كان يهتم الرئيس عبد الناصر بمتابعة الصحف العربية والأجنبية بنفسه أسوق هذا الحوار الذي دار بين الرئيس عبد الناصر وقادة حزب البعث بصدد مقال جريدة البعث " ملكيون اكثر من الملك " والذي كان يغمز بطرف خفي للرئيس عبد الناصر , وعندما عاتب الرئيس قادة حزب البعث على هذا المقال فوجئ انهم لم يقرءوه , ودار هذا الحوار اللطيف بينه وبين المرحوم صلاح البيطار :

- السيد صلاح البيطار : " …. أنا بأقول بأنه لم نراه ..لم نراه حتى نكذبه .

- الرئيس جمال عبد الناصر : " ما بتقروش صحف لبنان .. كمان نشرته صحف لبنان .

- السيد صلاح البيطار : " لا ما بنقرأها .

- الرئيس جمال عبد الناصر متسائلا : " لا صحف فرنسا ولا صحف لبنان ؟

- السيد صلاح البيطار : " ما بنقرأها .. ما بتيجي إلنا .. فا .. - الرئيس جمال عبد الناصر مندهشا : " تبقى مصيبة ! إزاي الكلام ده ؟!

- السيد صلاح البيطار : " فسيادة الرئيس .. لما تقرأه انت .. إتصل فينا ..

- الرئيس جمال عبد الناصر : " ما بتقراش صحف سوريا ولا تقراش صحف لبنان ولا تقراش صحف فرنسا .. تحكم إزاي مش معقول !!

- السيد صلاح البيطار : " طيب حد يتصل فينا ونبلغ عنه .. اكيد ما في .. ما في وقت نقرأ .. ما كان عندنا وقت نقرأ ..

- - الرئيس جمال عبد الناصر : " ده أنا .. انا إمبارح بالليل قاري كل اللي إنكتب في لبنان وفي فرنسا وفي لندن وفي سوريا وبعت جبت نشرات الإستماع اللي قال عليها الأخ صلاح البيطار.. قال ان المقالات اللي نشرت في جريدة البعث ما إتذاعتش من دمشق وجدت أنها إتذاعت من دمشق .. وبتذاع كل يوم الساعة عشرة ونص .

قبل ما انام .. وإلا الواحد يبقى ما هواش ملم بسير التطورات علما الواحد طول النهار قاعد وعمال بيشتغل . " ( محاضر جلسات مباحثات الوحدة , إبريل / نيسان 1963 , سلسلة كتب قومية , الهيئة العامة للأنباء والنشر والطباعة , الجمهورية العربية المتحدة )

( أكتفي بهذا القدر من حوار الرئيس مع السيد صلاح البيطار وأترك للقراء حرية التعليق على مغزاه !!! )

مما سبق نفهم كيف أخضع عبد الناصر نفسه لعملية " تثقيف ذاتي " وبطريقة منظمة ومنهجية فقرأ الأدبيات الماركسية القديمة والجديدة وألم بكل الأدبيات الاشتراكية " غير الماركسية " , وخاصة لحزب العمال البريطاني والهند والبلاد الاسكندنافية , وكذلك درس بعناية كل المواضيع الخاصة بالتسلح وسباق التسلح وعلاقاتها بالسياسة الدولية , كذلك قرأ بعناية كل الأدبيات الخاصة بالخلاف الصيني السوفييتي , ثم درس بعناية تجربة التنمية في الهند ويوغسلافيا وكان الهدف من هذه القراءة دائما أن يخرج بشيئ إيجابي حول ماذا يستطيع أن يفعل لبلده ولشعبه ولأمته العربية .( خالد محيي الدين , دراسة مقدمة لندوة الناصرية والنظام العالمي الجديد , عقدت بباريس في نهاية السبعينات )

5- الثقافة الإستراتيجية :

الواقع ان أهم مواهب عبد الناصر هي فكره الإستراتيجي المنظم والمنهجي الذي تلقاه بشكل مدرسي في كلية أركان الحرب المصرية , فلقد كان امتحان القبول بهذه الكلية هو نوع من المسابقة العامة بين المرشحين للدراسة بها , وكانت الدراسة باللغة الإنجليزية . والدراسة بكلية أركان الحرب العليا لا تقتصر على الموضوعات العسكرية بل تمتد الى التاريخ والسياسة الدولية .. وهنا كانت الدراسة المتأنية لجمال عبد الناصر … والنقطة الجوهرية في كلية أركان الحرب العليا والتي تمتد الدراسة بها لمدة عامين هي أنها تمكن الدارس بها من أن يفكر بطريقة منظمة ومرتبة ومنهجية وفي كل القضايا , وفي كل المشكلات التي يواجهها , كما تمكنه من حساب قدرات قواته وقدرة قوات الخصم , ومع مرور الزمن بالدراسة تصبح هذه الطريقة المنهجية المرتبة جزءا من تكوينه الفكري , وهدف هذه الدراسة أن يتمكن الدارس من مواجهة كل المواقف والأزمات بفكر هادئ ومرتب ليتخذ قرارا سليما . ثم أضيف لهذه الدراسة المنظمة موهبة جديدة هي موهبة " التدريس " في كلية أركان الحرب العليا وما يتطلبه التدريس من موهبة الشرح والاستيعاب وتخطيط النماذج والتمارين الذهنية والعملية وهي كلها أمور اتقنها عبد الناصر واتضحت بشكل رائع في محاوراته في مباحثات الوحدة الثلاثية عام 1963 .

المهم أن هذا " الفكر الإستراتيجي " عند عبد الناصر يمكن متابعته " تطبيقيا " في آداءه السياسي خلال الأزمات والمعارك السياسية التي كان محورها خلال عقدين من الزمان في الداخل والخارج , منذ أسس تنظيم الضباط الأحرار وحتى وفاته , وهي المعارك التي يرجع الفضل في نشر تفاصيلها الدقيقة وجلاء أسرارها للأستاذ " محمد حسنين هيكل " في سلسلته التي نشرها وبدأت بكتابه " ملفات السويس " والتي انصح كل شاب عربي بقراءتها والاستفادة من دروسها .

6- الثقافة الاقتصادية :

أوضح عبد الناصر لعدد كبير من زواره من المثقفين العرب والأجانب انه ألم بكثير من المؤلفات الاقتصادية للتجارب المختلفة وكان عبد الناصر بما يتمتع به من ذاكرة مدهشة وقدرة على الاستيعاب لما يقرأ قادرا على استحضار المعلومات في أي وقت مما مكنه من قدرة جدلية مثير للإعجاب بشكل حقيقي .

ولكي يدرك معي القارئ هذه " الموهبة النافذة " أي ذاكرة الرئيس " الحديدية " سأعود بالقارئ مرة أخرى " لمباحثات الوحدة الثلاثية " ثم نعود لوصل ما إنقطع من حديث :

- الرئيس عبد الناصر : … انا باقول ما فيش خلاف مذهبي .. لسبب بسيط جدا ..لأن أنا ما عرفش ماهي عقائدية حزب البعث لغاية دلوقت .. انا قريت دستور حزب البعث .. وقريت الكتابين اللي مطلعهم حزب البعث .. وقريت الكتاب اللي جامع مقالات منها مقالة للأخ زهور أظن .. مش كده .. اللي عن الاشتراكية .. قريته بالتفصيل .. غيه المذهبية !! .. أنا مش شايفها ..

ماهي قضية حزب البعث ؟

ماهي عقائدية حزب البعث ؟ غير موجودة أبدا فخلاف مذهبي ما فيش ..

الخلاف هو خلاف شخصي ..

- السيد صلاح البيطار : لا سيادة الرئيس … يعني .. بتظلمنا كتير ..

- الرئيس جمال عبد الناصر : نقعد بقه بنعمل جلسة في هذا ونناقش المذهبية العقائدية .. بامسك جريدة البعث .. جريدة البعث جايبه كتاب مؤلفه ستالين وبتنقل منه .. اسمه " اللينينية " ..أنا قعدت مرة أقرأ بعض افتتاحيات جريدة البعث .. وبعدين اكتشفت اني قريت هذا الكلام من قبل .. دورت فين .. فين .. وانا أعتقد ان ذاكرتي كويسة والحمد لله .. بعدين افتكرت فين .. في كتاب صغير زي ما قلت لك اسمه " اللينينة " .. جميع الكلمات المكتوبة في افتتاحيات البعث في الفترة الأخيرة نقلا من هذا الكتاب .. وعندي الكتاب وعندي الجريدة .. وإتفضلوا قارنوا …

( اكتفي بهذا القدر من حوار الرئيس في مباحثات الوحدة الثلاثية التي أدعو كل شاب عربي الى قراءتها كنموذج لأحلى وأروع المحاورات السياسية في فكرنا السياسي المعاصر )

على أي حال النص الأخير يظهر هذه الموهبة التي أشار إليها كثيرون ممن قابلوا الرئيس وأشادوا بذاكرته الحادة , وهذه الموهبة تظهر من ناحية نزوعه الداخلي في الإهتمام بالتفاصيل وإستحضارها عند اللزوم والإحاطة بكل جوانب المشكلة التي يعالجها , وتظهر من ناحية أخرى نزوعه الداخلي لبلوغ درجة عليا من الإتقان لا غنى للتفاصيل عنه . هذا عن " ذاكرة الرئيس " أما عن ثقافته الإقتصادية فقد استطاع أن ينميها من خلال الإطلاع على التجارب الاقتصادية العالمية وما خاضته هذه التجارب من عثرات وأزمات . ولعل أهم ميزة يجب ان يمتلكها أي مفكر اقتصادي هي قدرته على استيعاب المفاهيم " النظرية " لعلم " التخطيط " ولكن الأهم منها أن يتقن إنزال هذه المفاهيم والمقولات الى محك التطبيق العملي , ولعل هذا ما فعله عبد الناصر بالضبط , فقد أخضع نفسه لدراسة مكثفة لمقولات علم التخطيط :

تحت يدنا في هذا المقال إجابة للرئيس عبد الناصر على سؤال وجهه له " ديفيد وين مورجان " مراسل " الصنداي تايمز " الإنجليزية , وذلك حين سأله قائلا : لا بد أن تجربة مسئولية الحكم كانت أمرا جديدا بالنسبة لعملكم السابق ؟

فأجاب الرئيس عبد الناصر إجابة إستوقفتني كثير .. أجاب قائلا :

" صحيح .. وسرعان ما أكتشفت ان حكم بلد من البلاد يختلف اختلافا عظيما عن قيادة كتيبة من الجنود ومع ذلك , فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما فقد عرفت في مرحلة مبكرة جدا ضرورة التخطيط , فالإصلاحات التي أردنا ادخالها لا بد من تنفيذها على أساس الخطة الطويلة المدى , ولقد شغل التخطيط بالي في هذه المرحلة , ورحت أتحدث عنه مع كل من تتيح لي فرصة أن ألتقي به , وتكون لديهم فكرة عنه أو تجربة .

وإني أذكر أن موضوع التخطيط كان أول حديث طويل بيني وبين البانديت " نهرو " . وأثناء زيارة من زياراته للقاهرة , ركبنا يختا في النيل وأخذنا نتناقش لمدة خمس ساعات حول تجاربه الخاصة بالتخطيط في الهند .

ولم أكن استطيع أن أعتبر نفسي خبيرا , كما أنه لم يكن تحت تصرفنا إلا عدد محدود من الخبراء ولاسيما في المجال الاقتصادي – وهو مجال ذو أهمية حيوية – فالخبراء رغم كل شيء قد يكونون في بعض الأحيان عبئا , اكثر منهم عاملا مساعدا , فلقد يكونون متحجرين فيما ألفوه من أساليب , ولهذا فأني أفضل المفكرين على الخبراء . ان التفكير يجب ان يرسم الإطار العام للحركة ثم يجيء دور الخبرة في خدمة الإطار العام . " ( حديث الرئيس لديفيد وين مورجان , مصدر سبق ذكره )

هذه الإجابة تظهر كيف أن الرئيس عبد الناصر كان حريصا على استقبال زوار كثيرين في القاهرة من الاقتصاديين والمخططين من أمثال المخطط الفرنسي الشهير " شارل بتلهايم " أو الفيلسوف الفرنسي " روجيه جارودي " وغيرهم والحوار معهم مطولا في مشاكل التنمية والتخطيط والاستفادة من خبراتهم وتجاربهم في لقاءات خاصة ومطولة . وهو بحسه الثاقب وذهنيته الجدلية استطاع أن يضيف إليها خبرة التمييز والإستفادة من زواره من المفكرين النظريين وتوقهم لتحقيق المستحيل , والإستفادة من المثقف " التكنوقراط " الذي لا تتجاوز حدود المعرفة النظرية عنده ما تلقاها من علم أو تدريب يجعلانه لا يرى إلا من خلالها وفي حدودهما الضيقة .

7- الثقافة القانونية والدستورية :

ربما كان من الواجب ان نختم هذا المقال عن " عبد الناصر المثقف " بشيء ليس معروفا للكثيرين ممن قرءوا عنه أو له . فكثيرون لا يعرفون أن عبد الناصر كان خبيرا بالفكر الدستوري المقارن وعلى درجة عالية من التخصص في هذا المجال . ويقول كثيرون ممن اقتربوا منه أن تاريخ العلوم السياسية كان من مواد القراءة المفضلة لديه وهو ما سنكتشفه فيما بعد . ولكن ما نود أن نذكره هنا و لا يعرف الكثيرون أن الرئيس عبد الناصر هو الذي وضع " بنفسه" دستور 1956 .. ولكن ما قصة هذا الدستور ولماذا وضعه عبد الناصر بنفسه ؟

الواقع أن عبد الناصر كان قد وعد الشعب المصري يوم 16 يناير 1953 بإعداد دستور للبلاد خلال فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات , وكان يستطيع – كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه الرائع " هل كان عبد الناصر دكتاتورا ؟ " – ان يستمر في الحكم المطلق بدون دستور بعد أن انتصر على كل القوى التي تصدت للثورة . وكان في إمكانه أيضا ان يبقى مستبدا بالسلطة لأية مدة يريدها . وكان يستطيع أن يمد فترة الانتقال سنة أخرى أو أكثر كما فعل حكام من قبله ومن بعده . ولكنه أوفى بوعده أنهى فترة الانتقال وأنهى معها مجلس قيادة الثورة الذي كان مازال موجودا .

وكانت اللجنة التي شكلت لصياغة الدستور بقرار يوم 13 يناير 1953 قد انتهت فعلا من صياغته وقدمته لمجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955 ولكن عبد الناصر رفضه .. لماذا رفضه ؟ … لأنه يأخذ بالنظام النيابي البحت . وتولى عبد الناصر شخصيا أعداد الدستور الجديد الذي اعلنه في 16 يناير 1956 أي في آخر يوم في الفترة الانتقالية التي وعد بها الشعب . ان هذا الدستور , دستور 1956 , يستحق الانتباه الجاد من كل الذين يريدون جادين أن يعرفوا موقف عبد الناصر من الديمقراطية بشكل عام ومن مشكلة الديمقراطية في مصر خاصة , ذلك لأن فيه صاغ عبد الناصر لأول مرة أفكاره عن الديمقراطية في نصوص دستورية . حول رؤيته الى نظام للحكم . ولأن به عبر عبد الناصر , بوضوح قاطع عن بدء القطيعة بينه وبين الديمقراطية الليبرالية . تلك القطيعة التي ستتحول في مرحلة لاحقة الى عداء صريح . لقد رأى عبد الناصر أن مشروع الدستور الذي وضعته اللجنة كان نموذجا للدستور الليبرالي الذي لا يعطي للشعب أي دور إلا في انتخاب نوابه ثم يعود بعدها الشعب للبطالة السياسية حتى تجرى انتخابات تشريعية جديدة وهو بين الفترتين لا دور له ولا استشارة . لقد رأى عبد الناصر ان المشكلة قائمة بصفة أساسية في المستوى الشعبي فاعتقد ان الجماهير الراكدة التي حركتها هيئة التحرير لابد لها – لتكمل يقظتها – من أن تسند لها سلطات دستورية لتصبح " شريكة " رسميا في الحكم . وهكذا جاء دستور 1956 يتضمن كافة الحريات والحقوق السياسية وقواعد النظام النيابي التي كان يتضمنها دستور 1923 مضاف إليه ما أراده عبد الناصر من أن يكون رئيس الجمهورية منتخبا من الشعب , وأن يستفتي رئيس الجمهورية الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد , وألا يتم التعديل في الدستور إلا بعد استفتاء الشعب فيه . وتبع ذلك إطلاق حق الانتخاب من كل القيود تقريبا , فخفض السن الى 18 سنة وهي أقل من سن الرشد المدني (21 سنة ) ففتح مجال الممارسة الديمقراطية لأجيال جديدة من الشباب . وتقرر حق الانتخاب في مصر لأول مرة للنساء فدخل نصف الشعب – الذي لم خطر على بال أحد من قبل – مجالات الممارسة الديمقراطية وأصبحن الآن قوة انتخابية حاسمة الأثر . وتقرر حق الانتخاب للعسكريين فزالت لأول مرة في مصر وصمة التناقض المصطنع وغير المعقول التي تحرم الذين يصدون للدفاع عن الوطن حتى الموت من المساهمة في اتخاذ القرارات التي يتوقف عليها مصير الوطن ومصير حياتهم أنفسهم .

ثم أخيرا تقرر لأول مرة أن يصبح الانتخاب إجباريا وأن كانت العقوبة على التخلف عنه طفيفة ( جنيه واحد فقط ) وهذا الإجبار مع ضآلة العقوبة يكشف المدلول الديمقراطي العميق الذي أراده عبد الناصر . فقد كان المقصود بذلك حث الذين لا يطيقون الغرامة البسيطة على ممارسة حقوقهم الديمقراطية وهم , ونعني الذين لا يطيقون الغرامة الضئيلة , أغلبية الشعب من العمال والفلاحين والفقراء لأنهم هم الذين كان عبد الناصر مشغولا بمصيرهم .

وبودي هنا أن أطيل بعض الشيء لكي يدرك القارئ عمق الثقافة التي امتلكها عبد الناصر في المجالات القانونية والدستورية وعلم النظم السياسية المقارن , ولكن المجال لن يسمح بإستشهادات طويلة رغم وفرة هذه الأخيرة ومتعتها الذهنية التي تسببها لي شخصيا .

وأستميح القارئ في أن يطالع معي هذا النص الذي يوضح موقف عبد الناصر من النظام الليبرالي ونظرية الفصل بين السلطات , يقول الرئيس في مباحثات الوحدة الثلاثية :

" … أنا إتكلمت في المؤتمر الوطني وكنت ضد مبدأ فصل السلطات أصلا .. وباعتبر عملية فصل السلطات دي خدعة وما يأخذنيش في هذا الدكتور البزاز – ليه ؟ لأن الحقيقة مافيش حاجة اسمها فصل السلطات لأن اللي عنده الاغلبية في البرلمان هو اللي بياخد السلطة التنفيذية والتشريعية .. إذن القيادة السياسية اللي عندها الأغلبية بتبقى في ايدها حاجتين .. السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وإذا أصبح في أيديها السلطة التشريعية بالتالي اصبح في ايدها السلطة القضائية لأن السلطة القضائية خاضعة للسلطة التشريعية مهما قالوا عنها انها مستقلة . وان الكلام ده اللي طلع في فرنسا من أيام مونتسكيو عن فصل السلطات كلام نظري ولكنه واقعا لم ينفذ ..ناخد إنجلترا كمثل , حزب المحافظين ألف الوزارة .. دخل الإنتخابات أخذ الأغلبية في البرلمان وفي أيد مين ؟ حزب المحافظين .. . إذاي بتقول هما فصل السلطات ؟ اذا فقد الأغلبية في السلطة التشريعية بالتالي بيصل له إيه ؟ .. لازم يسقط من السلطة التنفيذية .. إذن اللي عايز يحتفظ بالسلطة التنفيذية يجب أن يحتفظ بالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .. إذن القيادة للإتنيمن واحدة .. فهو مبدأ فصل السلطات ده عملية في الكتب ولكنها غير موجودة واقعيا أبدا… البلد الوحيد اللي ممكن يحصل فيها هذا الموضوع هي الولايات المتحدة الأمريكية … ولكن بينتج عن هذه الحقيقة تضارب كبير في العمل , وفيه أحد رؤساء الولايات المتحدة وسموه الرئيس " فيتو " كل قرار بييجي من المجلس .. هو ما عندوش أغلبية في المجلس .. كل ما ييجي قرار من المجلس يعمل عليه " فيتو " ويرجعه .. وبيحاولوا لغاية دلوقت يتغلبوا على هذه المشكلة بأن الرئيس ما يتقدمش بقرار إلا بنجيب الكونجرس من الحزبين وبياخد هذا القرار نتيجة هذا التشاور مع الكونجرس … ( أكتفي بهذا المقطع من حديث الرئيس عبد الناصر الطويل والذي أظهر فيه رؤية نقدية وجدلية صائبة للنظام الليبرالي ) .

في حواره حول النظام السياسي الأمثل لدولة الوحدة وبعد أن رأى مراوحة محاوريه بين آراء وأفكار متعددة ونظم سياسية مختلفة , مثلا في مباحثات الوحدة الثلاثية عام 1963 فقد فاجأ محاوريه بثقافة موسوعية شاملة حول النظم السياسية السائدة في عصره , كما فاجأهم بذاكرة دستورية حادة عن الدستور الصيني أو اليوغسلافي أو السوفييتي أو الأمريكي في أكثر من موضع من هذه المحاورات .

قال الرئيس عبد الناصر لمحاوريه من قادة حزب البعث السوري والعراقي :

" .. في الصين فيه الآتي : تركيب الدولة .. فيه المجلس الوطني .. اللي هو أكبر حاجة وبعدين فيه وظائفه وسلطاته وبعدين اللجنة الدائمة للمجلس الوطني اللي هي تساوي مجلس الرئاسة لنواب الشعب .. هي هيئة دائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب وتتألف من الرئيس .. نواب الرئيس .. المجلس الوطني .. رئيس الأمانة للأعضاء .. وتمارس الوظائف والسلطات اللي هي حوالي 19 .

وبعدين بعد كده فيه رئيس الجمهورية الشعبية الصينية اللي هو في الباب الثاني من الدستور الصيني , ليه سلطات .. وبعدين فيه مجلس الوزراء اللي هم بيسموه مجلس الدولة , اللي فيه رئيس الوزراء والوزراء يختلف عن روسيا اللي فيها رئاسة مجلس الأمة .. أو رئاسة السوفييت الأعلى هي رئاسة الدولة في الإتحاد السوفييتي .. فبنختار : يابنعمل زي الإتحاد السوفييتي .. نعمل مجلس رئاسة ونلغي منصب رئيس الجمهورية وكل السلطات تنبثق من مجلس الأمة .. يا بنعمل رئيس جمهورية ومجلس أمة ومجلس رئاسة لمجلس الأمة يباشر عمله في حالة عدم إنعقاده .. معنى هذا أن ان يبقى رئيس الجمهورية مالوش سلطة التشريع والمراسيم في حالة غياب مجلس الأمة .. يا بنعمل زي أمريكا .. نعمل جمهورية رئاسية , مفيش رئيس وزراء وفيه عملية فصل السلطات كلها . بالفعل زي الهند فيها فصل السلطات وجمهورية برلمانية . ( إنتهى هذا المقطع ) .

هذا المقطع بثبت بما لايدع مجالا للشك , أن عبد الناصر كان على درجة " غير عادية " من الوعي " المتخصص " في الفقه الدستوري وعلم النظم السياسية , وأن إطلاعه في هذا الأمور يجاوز حدود " الهواية " الثقافية الى حد " الإحتراف التخصصي " .. أليس مثيرا ذلك للإعجاب !!

نهاية واجبة

قبل أن أختم هذه الدراسة يهمني أن اهدي للقارئ المصري هذه القصة التي نشرت بعد أن كنت قد إنتهيت من كتابة هذه الدراسة عن " عبد الناصر المثقف :

يقول الأستاذ " محمد حسنين هيكل " في كتابه " عام من الأزمات " الذي صدر حديثا عن الفترة التي اعقبت نكسة يونيو مباشرة : " ... كان اللواء حسن البدري اول من تنبه الى ان القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين , وبتأثير النشوة التي أخذتهم , قد تركوا ألسنتهم تتحرر من أي ضوابط أو قيود وهم يتحدثون عن تجربة الحرب ... وكتب مباشرة الى جمال عبد الناصر يقترح ان تتولى المخابرات جمع كل ما قاله القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون في " نشوة النصر " وسكرته مكتوبا على ورق أو منطوقا وراء ميكرفون أو مصورا أمام عدسة , حتى يوضع كله " تحت المجهر لدرساة معمقة .... وقبل " عبد الناصر " بإقتراح " حسن البدري " بل وتحمس له مقدرا فائدته في الإعداد لمرحلة جديدة من العمل العسكري ... وفي ظرف أسبوعين كانت امكانيات الدولة المصرية في الخارج قد استطاعت الحصول على أوراق بالأكوام وتسجيلات بالصوت تزيد على ستمائة ساعة و وشرائط مصورة تزيد المدةاللازمة لعرضها عن 130 ساعة ...وقد لقيت هذه " المواد الوثائقية " التي وصلت للقاهرة مقروؤة ومسموعة ومرئية إهتماما مركزا من " جمال عبد الناصر " وطلب تخصيص قاعة في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مدينة نصر تكون جاهزة بالأوراق والملفات والشاشات وآلات العرض , ثم تكون هذه القاعة مفتوحة للقادة المصريين .. وقد حضر بنفسه مع الفريق " محمد فوزي " القائد العام والفريق " عبد المنعم رياض " رئيس الأركان وقرابة عشرين ضابطا من كبار قادة القوات المسلحة , وراحوا يتابعون ويسجل بعضهم ( ومعهم جمال عبد الناصر ) ما يلفت إهتمامهم فيما يسمعون ويرون ... وأذكر أنه بعد إحدى الجلسات و وكانت الشرائط المصورة ثلاثة أحاديث متواصلة ل " موشي ديان " , أن أخذني الفريق " عبد المنعم رياض " جانبا وسألني هامسا " ما هذا الذي يفعله بنفسه " الرجل الكبير " .. لماذا يصر على سماع ورؤية كل هذه التسجيلات ؟

وأضاف " عبد المنعم رياض : " هذه جرعات من السم يعطيها لنفسه كل يوم , وبصرف النظر عما فيها من معلومات فإنها تحوي الكثير من البمبالغات وأيضا الكثير من الأكاذيب ... وكان رأيي أن التجربة مهما كان عذابها مفيدة .. فإذا لم يجلس " هو " ليرى هذا كله بنفسه فإن الجميع سوف يعفون أنفسهم منه و وتلك لو سمح هو بها خسارة .. ثم إنني أعتقد أن " جمال عبد الناصر " يستفيد كثيرا من ملامسة جانب آخر من الوقائع مهما كان كئيبا وغليظا " ( انتهى النص ) .

هل تحتاج هذه القصة الى تعليق ... الم يكن رائعا هذا " الرجل الكبير " عبد الناصر !!

كانت تلك بعض الملامح الشخصية التي إستهوتني في شخصية الرئيس عبد الناصر ضمن ملامح أخرى من هذه الشخصية الاستثنائية التي حباها الله من عنده مواهبا عديدة سخرت لتحقيق العدالة الاجتماعية للجماهير التي حرمت منها على مدار قرون عديدة لذلك ليس عجيبا أن يظل هذا الرجل في قلوب الملايين رغم مرور ما يقارب ثلاثين عاما على رحيله .

وليعذرني القارئ على ما أطلته من حديث أردت به توضيح جوانب من شخصية هذا الرجل وما حباه الله من انضباط فكري وسلوكي وأخلاقي شديد النموذجية .

والله الموفق .



لم.




عن عصمت سيف الدولة وعبدالناصر والناصرية


د. صفوت حاتم

" أريد أن أقول , بأكبر قدر من الوضوح , أنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية " هي " نظرية الثورة العربية " . وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها , ومن منطلقاتها , إلى غايتها , بأسلوبها . وأن من يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا   "(عصمت سيف الدولة , عن الناصريين .. وإليهم , دار الموقف العربي , القاهرة)

1- لم عصمت سيف الدولة  ,  راغبا في الرحيل عن عالمنا دون أن يحدد  بنفسه , فيما أعتقد ,  وعلى أعلى مستوى من الوضوح طبيعة  علاقته الفكرية والمادية  بعبد الناصر والناصرية  … العلاقة  التي تصورتها بعض العقول جامحة الخيال ’ علاقة غريبة وغامضة .  ولقد كان يكفي لمعرفة هذه العلاقة العودة لكتابه الممتاز " عن الناصريين … وإليهم " عام 1987. ليتضح بجلاء موقفه الشخصي والسياسي والفكري من الرئيس عبد الناصر والناصريين , وقد ختم هذا الكتاب   بدراسة فكرية أرادها عن الناصرية والناصريين , تبدو لي الآن وكأنها وصية سياسية من مفكر ومناضل سياسي كانت حياته كلها تجسيدا مثاليا ( ودراميا ) لأفكاره التي آمن بها ودفع ثمنا لها . في هذا الكتاب قال " عصمت سيف الدولة " كل ما كان يود أن يقوله عن عبد الناصر والناصرية والناصريين  . وفي هذا الكتاب أيضا  كان يرد  على ذلك السؤال المستفز الذي طالما سأله له الكثيرون  : هل أنت ناصري ؟

ويشهد الله أنه لم يكن هناك سؤال يستفز مفكرنا الكبير أكثر من هذا السؤال  الذي كان يوجهه له بعض الشباب الناصري في لقاءاتهم العامة والخاصة , بحسن نية أو بسوئها . وكان يجيبهم " عصمت سيف الدولة"  إجابة " مستفزة " أيضا . ولكنه الاستفزاز الذي يحرض على التفكير والتساؤل عند الشباب  العربي .. الشباب الذي كان يراهن على وعيه وإمكانياته .

كان يجيب :  إذا أوضحت لي عن أي ناصرية تتكلم .. يمكن أن أقول لك إذا ما  كنت ناصريا أم لا  ؟!! هل كان التحريض الفكري للشباب العرب  هو السبب الوحيد  للإجابة المستفزة على السؤال المستفز ؟ بالقطع لا !!

حديث عن عبد الناصر

2 - الواقع أنه لم يكن هناك موضوع اكثر التباسا في ذهن بعض الشباب العربي فيما يخص عصمت سيف الدولة سوى موضوع علاقته بعبد الناصر أو إذا شئنا بدولة عبد الناصر ومؤسسات عبد الناصر .

كيف  يرى كاتب هذه الدراسة موقف " عصمت سيف الدولة  من عبد الناصر ؟

الواقع أن كاتب هذه الدراسة لا يملك إلا أن يجتهد في  الإجابة على هذا السؤال في حدود رؤيته الشخصية التي يتحمل وحده مسئوليتها .

كاتب هذه الدراسة يعتقد أنه لا يمكن أن نفهم موقف عصمت سيف الدولة وكتاباته التي بدأت في منتصف الستينات دون الاستعانة بما يقدمه لنا علم " اجتماع المعرفة " من مبادئ وافتراضات نظرية . 

تعلمنا مقولات "  علم اجتماع المعرفة "  (وهو العلم الذي يبحث في شروط وظروف انبثاق المعرفة الإنسانية ) أن " الفكر البشري  " لا يأتي من فراغ أو من تدريب ذهني محض , بل ينبغي الربط بين الأفكار والنظريات والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ظهرت في سياقه باعتباره واقعا تاريخيا . ذلك أن فهم الأفكار أو المذاهب السياسية أو النظريات العلمية أو الشخصيات السياسية ليس مقطوع الصلة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها , خاصة إذا سلمنا بالعلاقة الجدلية بين عالم الفكر وعالم الواقع . وهكذا يمكن أن نقول أن دراسة فكر أي فيلسوف أو زعيم سياسي  دون البحث في نشأته الاجتماعية التي نمى داخلها أو دون بحث في الأفكار والثقافات التي تلقاها في صغره هو نوع من الهراء . فالفيلسوف أو الزعيم السياسي هو  نتاج عصره وأسرته ووطنه وبالتالي يتعين البحث عن أصول النظريات والأفكار في أحشاء المرحلة التاريخية التي عاشها وأبدع فيها فكره أو مذهبه أو نظريته .

3 - إذا كان ذلك صحيحا , وهو في رأينا صحيح , فإننا لا يمكن أن نفهم ما كتبه عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وعبدالله الريماوي إلا في ضوء ما أثارته تجربة عبد الناصر من تحديات فكرية وتطبيقية على المفكرين الثلاث . لقد راح كل منهم يبدع بطريقته رده على هذه التحديات وفقا لمنهج محدد خطه كل منهم لنفسه , فرأينا البيطار يبدع وفق ما سماه     " المنهج التاريخي المقارن " ورأينا الريماوي يبدع وفق ما سماه منهج  " الحركية الحياتية الإنسانية " ورأينا عصمت سيف الدولة يبدع وفق ما سماه " جدل الإنسان " .

وكانت الإجابات الثلاث , أو المناهج الثلاث , هي تأصيل لما رآه كل منهم واجبه الفكري  تجاه التجربة الناصرية .

وبينما استفاد الأستاذ الريماوي - بحكم علاقة تاريخية محددة بالرئيس عبد الناصر وحزب البعث - بعلاقة ودية مع مؤسسات الدولة الناصرية , لم يكن نصيب " البيطار " من هذه " الود " الكثير رغم زياراته المتعددة للجمهورية العربية المتحدة ويمكن القول أن مؤسسات عبد الناصر الفكرية لم تلتفت لجهود  " البيطار " رغم ناصريتها الواضحة لأسباب تتطلب تفسيرا من هؤلاء الذين كانوا قائمين على هذه المؤسسات ؟!!

اما الفارس الثالث " عصمت سيف الدولة " فقد كان يقيم ويعمل ويجتهد على أرض مصر وأمام أعين مؤسسات الدولة الناصرية وأجهزتها الفكرية والسياسة والأمنية . ويمكن أن نقول أنه لم يحظ  لا بالود الذي حظى عليه " الريماوي " ولا  بالتجاهل الذي حظى عليه " البيطار "  وإنما حظى بكثير من التوجس والعداء .. لماذا ؟ .

 4 - من ناحية  .. كانت كتب عصمت سيف الدولة في نقد المادية التاريخية والمادية الجدلية والماركسية بشكل عام لا تحظى بأي ود من النخبة المثقفة الماركسية التي ركزت قواعدها منذ منتصف الستينات في الاتحاد الاشتراكي ومعهد الدراسات الاشتراكية والصحافة والمسرح والسينما .  ومن يعود لمجلة     " الطليعة " الماركسية فيما كتبته في الستينات  عن دعاة " الاشتراكية العربية " سيطالع فيها  دروسا بليغة في فن " الهجاء والردح الإيديولوجي " قام به الماركسيون ضد كل من كتب عن " الإشتراكية العربية "  . وهو يفسر لماذا لم تكن كتابات " عصمت سيف الدولة  " أو  " البيطار "  تلقى الترحيب في برامج التثقيف التي سيطر عليها بشكل ذكي الخارجون من الأحزاب الشيوعية المنحلة .  و لم يكن لرجال عبد الناصر من الكفاءة الفكرية أو النظرية ما يمكنهم من إدعاء القدرة على مواجهتهم , وبقي عبد الناصر هو المفكر الحقيقي والوحيد لتجربته  بينما اقتصر دور الآخرين على الترديد والتبرير النظري لما يقوله عبد الناصر .

والحق يقال كان الفارق النظري بين عبد الناصر وبين رجاله كبيرا فلم يجد هؤلاء  بدا من الاستسلام للجهود الفكرية والمنظمة التي " تبرع " بها الماركسيون الخارجون من الأحزاب الشيوعية المنحلة !! ونجحت الحملة " الماركسوية " في إبعاد الفكر القومي التقدمي  الجديد عن دائرة الفعل السياسي في تجربة عبد الناصر , حينا  بتعمد تجاهل الأصيل منه وحينا آخر  بالهجوم على الغث منه في حملات " دون كيشوتية " بائسة .

 5 - من ناحية ثانية … كانت كتب " عصمت سيف الدولة "  قد  بدأت تكتسب أنصارا لها  من الشباب العربي خارج مصر وبدون تخطيط مسبق وبعيدا عن "أجهزة الدولة الناصرية " والواقع أن دور هذه الأجهزة وما أدته خلال حكم الرئيس  يجب أن يكون محل دراسة موضوعية من الناصريين أنفسهم . فالذي لاشك فيه أن أكثر من مناضل ناصري كان قد شكى  للرئيس عبد الناصر  من " بيروقراطية " هذه " الأجهزة " ومن أنها  تتعامل مع الشباب العربي كما تتعامل مع " العملاء " أو " الأتباع " مستغلين في هذا عواطف الحماس والحب الذي اسبغها هؤلاء على زعامة " الرئيس عبد الناصر " شخصيا .

 وإذا أضفنا لكل ذلك أن القاهرة كانت قد تحولت في الستينات الى كعبة للنضال العربي وامتلأت  شوارعها ومقاهيها ومنتدياتها بعدد ضخم من اللاجئين السياسيين والمناضلين  والزوار من كل أرجاء الوطن العربي وما كان يعنيه هذا من لقاءات  وحوارات فكرية كان طرفا فيها عصمت سيف الدولة وفكره وكتبه , يمكن , عندئذ , ان نتصور ما سيسببه ذلك من حساسية لدى " أجهزة عبد الناصر " . 

على أية حال سيصدر " عصمت سيف الدولة " قبل نكسة  يونيو / حزيران كتبه :   " أسس الاشتراكية العربية " و " الطريق للاشتراكية " و " الطريق للوحدة " و " الطريق للديمقراطية .. أو سيادة القانون في الوطن العربي"  لتكون  تأصيلا رائقا وإبداعا أصيلا لما كان يقوله ويفعله عبد الناصر, دون أن يسمح لنفسه بالدخول في جوقة المهللين والمصفقين .

لماذا لم تفعل مثلهم .. يا دكتور ؟!!

6 ويجيب عصمت سيف الدولة : " حينما كانت الحركة الجماهيرية القومية منتصرة تحت قيادة عبد الناصر كتبت ما كتبت حاثا ومحرضا جماهير الأمة العربية وقيادتها على عدم التوقف عند الوحدة الجزئية , وعد الاكتفاء بوحدة القيادة ووحدة الحركة بدون وحدة التنظيم . وساندت بالدراسات المكتوبة التي لم تنسب الى قط كثيرا من القوى القومية المناضلة ضد التجزئة في كثير من القطار العربية . ولم أكتب شيئا قط عن عن مصر تحت قيادة عبد الناصر التي كانت الأمة العربية قد كسبتها قاعدة قائدة انصرفت فيها الى تأصيل الوحدة وتبرير التضحيات من أجلها والتوحيد بينها وبين النصر في كل معارك التحرر والتقدم

 

وقد عوتبت أيامها على أنني لم أذكر في كتبي لا مصر ولا الميثاق , ولا حتى عبد الناصر . وكان المعاتب صديقا قديما لي ومن أقرب الناس الى عبد الناصر!! ( علامات التعجب من عند كاتب الدراسة ) . وكان جوابي أني أقاتل بما أكتب في سبيل أمتي ووحدتها القومية حيث تدور المعارك مع الأعداء واحتمالات النصر أو الهزيمة . ولست معنيا , ولا أنا أجيد ترتيل أناشيد النصر للمنتصرين … ومصر عبد الناصر ( 1966 ) منتصرة فهي في غير حاجة الي . وخسرت كثيرا وكثيرين لم يفهموا ذاك الموقف . ولكني لم أعبأ بالتوقف لمعرفة ماذا ومن خسرت … كان الأكثر استحقاقا للانتباه مساندة الحركة المنتصرة حتى يتحقق النصر الأخير .. فرأى من رأى أنني أستحق لقب " قومي " وكان ذلك   بالنسبة الي كسبا                    عظيما .. "         ( عن الناصريين .. وإليهم )

 

 وربما يرد البعض بان هذا   تفسير متأخر لعصمت سيف الدولة لموقفه من  عبد الناصر وقيادته للحركة القومية  ولا يمكن الإحتجاج به على موقفه إثناء حكم الرئيس عبد الناصر ؟

 

 نعم هذا  تفسير  يعود لعام    ( 1987 ) حين كتب كتابه ( عن الناصريين .. وإليهم ) وفيه روى كل روايته مع  قيادة عبد الناصر ودولة عبد الناصر ورجال عبد الناصر .

وسيبقى هذا التفسير منقوصا ما لم نتكلم عن " بيان طارق" وقصته : 

 

 

حديث عن بيان طارق!!

 

  7 - قبل أن ينتقل عبد الناصر الى رحاب ربه    بسنوات  قليلة كان قد مر بأكثر معاركه مرارة وألما : نكسة يونيو / حزيران.. الهزيمة  التي مزقت كثير من الأفئدة والقناعات في الوطن العربي .

وراح " المنافقون " والمهتزون والمذبذبون يخوضون في أسباب النكسة بغرض تصفية حساباتهم القديمة مع عبد الناصر . ووجدت فيها منظمات وأحزاب طالما نافقت  عبد الناصر الفرصة متاحة للانتقام من الرجل الذي حكم عليها بالذيلية الجماهيرية لسنوات طويلة .  وهكذا ظهرت المعلقات اليساروية عن " البورجوازية الصغيرة المهزومة " و " الحرب الشعبية " والمقاومة الفلسطينية التي سترد على هزيمة البورجوازية الصغيرة !!   .. الخ المعلقات التي أطلقتها في ساحة العمل السياسي كل الفئات الصبيانية  المنفلتة من حزب البعث والقوميين العرب والمنظمات الفلسطينية  "  الفداوية "  واليساروية  .

 وسط هذه " الهزيمة  العسكرية " تمالكت الجماهير العربية نفسها وطالبت قائدها بالاستمرار في القيادة ومواجهة الهزيمة . ووقف القائد وبدأ في مواجهة الهزيمة رغم آلامه الشخصية وكان لابد له من أن يعيد النظر كاملا في بنية الدولة والمؤسسات التي شيدها بنفسه وبالثغرات التي سمحت للعدو بالنفاذ منها وتحقيق نصره . لحظة شاملة من مراجعة النفس قادها عبد الناصر مع فكره  ودولته  ومؤسساته ( مراجعة يعرفها الكثيرون ممن اهتموا بفكر الرجل وحياته ) .

ووقف في نفس الخط  - نقد الذات - كل القوميين الذين هزتهم" الهزيمة " فلم يستسلموا لردود الفعل المرتاعة التي استسلمت لها      " الجملة المثقفة الطفولية " .

لقد أتضح " لعبد الناصر " وكل القوميين أن هناك ثغرة واسعة ومفتوحة في بنية الثورة . وكما خرجت الجماهير تطالب " عبد الناصر " الاستمرار في موقعه في 9 و10 يونيو 1967 خرجت مرة أخرى تطالبه محاسبة المسئولين عن الهزيمة في مظاهرات 1968 .  

وكان من هؤلاء " عصمت سيف الدولة " .

لقد أدرك " عصمت سيف الدولة "  بشكل واضح طبيعة الخلل في الدولة الناصرية . إنها  " الأجهزة الأمنية "  التي حاولت أن تحجز القائد عن جماهيره بكل وسائل النفاق والقهر والبيروقراطية .

 كيف يمكن - إذا - تخليص البطل من قبضتها وإعادته لجماهيره ليعاود بها ومعها انتصاراته  ؟

 

10 - وفي أكثر من موضع من هذا " المنشور " أكد  " عصمت سيف الدولة " إيمانه كمناضل قومي , بقيادة  عبد الناصر للحركة القومية وللتنظيم القومي الذي يدعو لبنائه .

ولكن قيادة عبد الناصر للحركة العربية الواحدة أو " التنظيم القومي " شيء , ووجود " أجهزة عبد الناصر " الإقليمية في هذا المشروع شيء آخر , وهو أمر  لم يتوان " عصمت سيف الدولة " عن التحذير منه .

ولكن لنتصور سيناريو وقوع هذا  " المنشور "  أو " الكتيب "  في يد أجهزة عبد الناصر ( وهو لابد قد وقع ) , فهل كانت لتغفر لعصمت سيف الدولة  هجومه عليها واتهامها بألفاظ صريحة  في "  بيان طارق "  بأنها : " ضيقة النظر .. تنظر الى النضال العربي وتعالجه بطريقة إقليمية .. تفتقد الكفاءة الفكرية والعقائدية اللازمة لأية مساهمة مجدية في النضال القومي الجماهيري .. لا تتمتع بأية كفاءة في تنظيم الجماهير وقيادتها وقد فشلت في كل مرة حاولت هذا..( بيان طارق)

 

والسؤال الذي لابد يحتاج  إلى إجابة منا هو :

هل كان " عصمت سيف الدولة " محقا في نقده لهذه الأجهزة لصالح قيادة     " عبد الناصر " للجماهير العربية أم كان على خطأ ؟

ولابد أن نسترعي نظر القارئ الى أن كل هذا النقد " لأجهزة  عبد الناصر " كان بعد نكسة يونيو / حزيران .. النكسة التي كشفت  فقر هذه  الأجهزة  .. الأجهزة التي أنتقدها عبد الناصر بعد النكسة فيما أطلق عليه هو نفسه  " دولة داخل الدولة " ..

 ايا ما كانت الإجابة التي سيخرج بها المنتدون حول فكر " عصمت سيف الدولة "  على هذا السؤال , فأن  قصة " بيان طارق "  لم تكن قد انتهت عند حدود كتيب أو " منشور " كتب ونشر ووزع على دائرة ضيقة أو واسعة من  " أنصار الحركة العربية الواحدة "  أو " التنظيم القومي " .

لا نملك في أيدينا من الوثائق ما يمكننا من الجزم من أن " أجهزة عبد الناصر " لم تحصل على هذا الكتيب " المنشور " , وليس لدينا ما يدعونا على الإعتقاد انها أنها  " رحبت "  بما جاء فيه من نقد مرير لها  بسبب عدم كفاءتها وضيق افقها  .

 ولن يكون صعبا , والحال هكذا , أن نتصور كيف يمكن أن يكون رد فعلها على هذا النقد !!

ما هو موجود تحت  أيدينا ان  " عصمت سيف الدولة " سيقبض عليه في الأيام الأولى  لحكم " السادات " وسيتهم بإنشاء "  تنظيم قومي " هدفه قلب أنظمة الحكم في الوطن العربي . ليصبح ما سمي " بتنظيم عصمت سيف الدولة " أول تنظيم  يتم القبض عليه  في عهد الرئيس السادات  ومحاكمة أفراده والحكم عليهم بسنوات طويلة في السجون  . وسيتردد في محاكمة " عصمت سيف الدولة " ورفاقه أن أجهزة الدولة كانت " تراقبه "  عن قرب ,  وقبل سنوات  قليلة من القبض عليه بالجرم المشهود ..  "  جرم التنظيم قومي " !!

 فإذا عرفنا أن القبض على " عصمت سيف الدولة "  كان في عام 1972 فإن هذا يعني أن  " أجهزة عبد الناصر " كانت قد وضعت عيونها علىه قبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر نفسه  ؟!! .

وهو أمر يعني أن هذه " الإجهزة " كانت قد بدأت في تصنيف  " عصمت سيف الدولة " في قائمة المعادين لها مع ما يحتمله هذا من  سوء ظن ..  ومراقبة وتحذيرات.. وإشاعات .. وحملات دعائية .. الى آخره .

وعلى من يهوى  متابعة بقية  هذه القصة فعليه أن يقرأ  "  بيان طارق " و        " إعدام السجان " و " عن الناصريين .. وإليهم " فقد يساعده هذا في الإجابة على السؤال الذي طرحناه : هل كان " عصمت سيف الدولة محقا في نقد " أجهزة عبد الناصر " أم كان مخطئا ؟

وسيساعده حتما في الإجابة على هذا السؤال  بالذات ما كشف عنه التاريخ من حوادث ومذكرات وأحداث خلال  الثلاثين عاما  التي مرت على  وفاة الزعيم الخالد          " جمال عبد الناصر " .

هل يكفي هذا كله  لكي يعرف البعض لماذا كان يجيب " عصمت سيف الدولة " على السؤال : هل أنت ناصري ؟ بإجابة أكثر استفزازا : قل لي ما هي الناصرية  فأجيبك على سؤالك ؟!

بالقطع لا !!