فيلسوف القومية العربية الدكتور عصمت سيف الدولة
[دراسات متنوعه]


 

عصمت سيف الدولة

الصهيونية في العقل العربي








ماالصهيونية :

فى البدء كانت الصهيونية نظرية ، اصبحت استراتيجية بالعناصر الثلاثة لكل استراتيجية : التنظيم . الخطة. الهدف. ثم اصبحت الصهيونية مواقف وحركة ومعارك تكتيكية . ولايعنى قولنا ان الصهيونية كانت ثم اصبحت انها انتقلت من مرحلة انقضت الى مرحلة جديدة ، بل يعنى انهاا قد تمت واضيف الى مضمونها ا لفكرى مضمون استراتيجى ثم مضامين تكتيكية . فهى نظرية على المستو ى الفكرى. وهى تنظيم ذو خطط واهداف محددة على المستوى الاستراتيجى وهى حركة جزئية او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية او جماعية ، علىا لمستوى التكتيكى ، وكلها صهيونية .

يكون من المفيد لنا ، نحن العرب، حين نتحدث عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها، ان نعرف ونحدد المستوى الصهيونى الذى يدور عليه الحديث او تجرى عليه المواجهة . قلت مفيدا ، واقول انه حيوى . اعنى ان هذه المعرفة بمستويات الصهيونية، والاستفادة بها مسالة حياة اوموت بالنسبة الينا نحن العرب . بحيث ا ن أى خلط او خطأ ، أى جهل او تجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدى ـ فى صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لانعرف كيف وقعت . وافدح الهزائم واكثرها تدميرا هى التى لايعرف المهزوم كيف وقعت .

ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :

السبب الاول: ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده .فالنظرية هىالمبدأ والمقياس الثابت. فهى تحكم الاستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الاستراتيجية ، مهما تعدلت خططها ، او حتى تغيرت ، لاتستطيع ان تفلت من اطار النظرية . وستبقى غايتها دائما تحقيق الهدف الذى حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية او الحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التى تقع على مستوى التكتيك تكون محكومة بالاستراتيجية طبقا لهذا يكون من الحيوى بالنسبة الينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين نواجهها ، ان نميز بين تلك المستويات الثلاثة ،ثم نتعرف اين يقع الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كل تمويه ، حقيقة الموقف التكتيكى برده الى الخطة الاستراتيجية لنعرف على أى وجه يخدمها . ثم نراقب الاستراتيجية وننتبه الى ماقد يصيبها من تغيرات لابد لها من ان تكون اكثر ملاءمة عند اصحابها ، لتحقيق الهدف . فاذا غم علينا الامر رددناه الى النظرية .. اذ هى المصدر الاول لكل حركة والمقياس الاخير لكل موقف .

السبب الثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية اخرى ، تتراكم وتتراكم متجهة .من الفكر المجرد الى الواقع العينى . من النظرية الى الاستراتيجية الى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية متنوعة المضمون متنوعة القوى متنوعة الاسلحة . ولكن خط ، الانتصار او الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ من الواقع العينى الى الفكر المجرد . يتم النصر او الهزيمة على المستوى التكتيكى ، وبتراكمه تهزم الاستراتيجية او تنتصر ، ولكن النصر النهائى، او الهزيمة ، لاتتم الا بهزيمة النظرية ذاتها ، أى حين لا تجد احدا يقتنع بها وينطلق منها الى استراتيجية جديدة ، او بانتصار النظرية ذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكياواستراتيجيا من صياغة الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الاخطاء القاتلة لاى طرف ان يحسب النصر التكتيكى نصرا استراتيجيا او يحسب النصر الا ستراتيجى حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبر الهزيمة التكتيكية هزيمة استراتيجية او يعتبر الهزيمة الا ستراتيجية حسما نهائيا للصراع .

فى عام 1967ادرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها ، وقدم مثالا رائعا للقائد الذى يعرف طبيعة المعارك التى يخوضها ، فبعد شهرين فقط من الهزيمة الجسيمة رفع شعار " مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة " ، وشعار " لامفاوضة ، لاصلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، ابا ايبان ، عما اذ اكانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب فى تدمير اسرائيل فقال: كنا سنبدأ من جديد لاقامة دولة اسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمةالتكتيكية للنصر الصهيونى والهزيمة العربية عام 1967.

الصهيونية نظرية :

الصهيونية نظرية فى القومية . تقول : ان اليهود امة . ولابد ان ننتبه الى هذا المفهوم الصهيونى للامة العربية ، اولا: لان معرفته معرفة واضحة هى الضابط النهائى للمواقف الصحيحة من الصراع العربى الصهيونى . وثانيا : لان مشكلة الامة والقومية مشكلة قائمة فى الوطن العربى على المستويين الفكرى والحركى . أى اننا ـ على وجه ـ نستعمل فى حديثنا عن الامة العربية ومستقبلها ذات الالفاظ التى يستعملها الصهاينة عن الامة اليهودية ومستقبلها . وقد يؤدى هذا الى ان تختلط فى اذهاننا المفاهيم فنتصور ان لنا ولهم نظرية واحدة فى الامة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممن يؤمنون بذلك الدين ، ولما كان الايمان بالدين ، أى دين، لايتوقف على الجنس او اللون او اللغة اوالانتماء الاجتماعى ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فاننا نستطيع ان نتبين بسهولة ان اليهود ، لمجرد انهم يهود، لايكونون امة . والواقع انه لاتوجد فى التراث العالمى كله ، على كثرة مافيه من نظريات فى الامة والقو مية ، نظرية تقول ان اليهود امة الا النظرية الصهيونية .فالامة فى الصهيونية لاتحتاج فى تكوينها لتاريخى الى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الارض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفى لتكوين الامة الانتماء الدينى ومايولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الامم .

وتختلف هذه النظرية اختلافا اساسيا عن مفهوم الامة والقومية فى الفكر العربى الحديث . حيث الامة " مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارض معينة خاصة ومشتركة تكون نتيجة تطور تاريخى مشترك ". ويدخل فى هذا التعريف كل ماتعلمناه من مميزات الامة كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر التكوين الحضارى وهى تختلف من امة الى امة تبعا لظروف لتطور التاريخى الذى كونها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهى متوافرة فى كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . واما الحالة النفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات فى الافراد عن وعيهم الانتماء الى ا مة قائمة ، ولكن الوجود القومى ، الامة ، لايتوقف عليها على اى حال فان الفارق الاساسى بين النظرية الصهيونية والنظرية العربية فى الامة هو الاختصاص بالارض والتفاعل معها حضاريا .

الصهيونية استراتيجية :

للاستراتيجية عناصر ثلاثة : الاداة . الخطة . الهدف.

(1) اما الاداة الصهيونية ، فهى المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية المسماة اسرائيل ، كما قد يتبادر الى الذهن . الصهيونية منظمة هى التى جمعت الصهاينة وحشدت جهودهم من اجل هدفها . وهى التى بدات بالغزو السلمى قبل 1948 لارض فلسطين فى شكل الهجرة وشراء الاراضى ، وهى التى عبأت ودربت وسلحت قواها استعدا دا للغزو المسلح . وهى التى غزت ثم اقامت دولة اسرئيل على قطعة محدودة من الارض العربية . وهى التى تقف وراء اسرئيل وتستخدمها كقاعدةانطلاق الى اسرئيل الكبرى التى تمثل الهدف النهائى .
اوينبغى ان ندرك ، ان القول الفصل فى مصير الصراع العربى الصهيونى ليس ما تقوله و تفعله او تقبله اسرئيل القائمة بل ماتقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمة على المستوى العا لمى . والواقع ان اسرئيل ليست الا المشروع المصغر للهدف الصهيونى . وهى لاتمثل من بين ادوات الغزو الصهيونى اخطرها واقواها تاثيرا فيجاورها ووراءها واقوى منها اثرا تلك القوى العالمية التى عبأتها الصهيونية المنظمة من دول وجماعات وافراد وافكار واموال وأعلام لتدعم قوة اسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدم عليها باقل خسائر ممكنة ..وقد تجنح حكومة فىاسرائيل الى السلام وقد تقبل التخلى عن التوسع ولكن هذ ا لن يكون عند المنظمة الصهيونية الا استسلاما او خيانة من حكام الدولة القاعدة ولن تلبث الصهيونية ان تغير من تشكيل الحكم فى دولتها الصغرى لتستانف مسيرتها الى دولتها الكبر ى.

(2) اما الخطة الاستراتيجية الصهيونية فتتميز اساسا بانها عدوانية . ذلك ، لانها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ، لابد ان تكون هجومبة . وقد تقف اسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقرولكن هذا لن يكون الا موقفا تكتيكيا فى معركة تكتيكية فى نطاق استراتيجية هجومية عدوانية اصلا . وهو مايعنى تماما انه بعد أى توقف او تقهقر لايملك الصهاينة ، واداتهم اسرائيل ، الا ان يعودوا الى الهجوم الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجى او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهى اذن استراتيجية هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانية منسوبة الينا نحن العرب.

(3) اما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجه لايستطيع أى صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته على الوجه الاتى: مادام اليهود ا مة فان من حقهم ان يفعلوا ماتفعل كل الامم ، وان يعاملوا كما تعامل الامم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن اية امم او شعوب اخرى . وهو مايعنى ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لاتقوم الا من شعب معين على ارض معينة . اما الشعب فهو كل اليهود ايا كانوا من اطراف الارض. عليهم ان يجتمعوا على ارض دولتهم . اما عن الارض المعينة ، فهم يقراون فى كتاب يسمونه التوراة ، وهو كتاب ظهر لاول مرة فى عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقراون " لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين اصحاح 15 اية 18). الا انها ارضهم تاريخيا ؟ .. لا. يقراون وعد " يهوه" لاسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) . وماذا عن سكانها واصحابها ؟.. يقراون :" انى ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردهم من امامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .

وهكذا نعرف مايعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجى الاستيلاء على ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ،واخلاؤها من سكانها ليقيم فيها يهود العالم كله دولتهم القومية .

الصهيونية تكتيكا :

لايمكن حصر المواقف والاساليب والمراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الاستراتيجية . ذلك لانه على المستوى التكتيكى تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الاطراف المشتركة بحيث لايستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكى غير متاثر بالموقف المضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الاسلحة التى يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكى الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلين والقادة ، لا فى ميدان القتال فقط ، ولكن فى المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة . والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الى حد كبير على الادراك الثابت للتناقض بين الخطط الاستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل او مشترك فى الصراع ان يطور من اساليبه التكتيكية باقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيث لاتنتقل اساليبه من مجال خدمة استراتيجيته الى مجال خدمة استراتيجية العدو . فيكون قد هزم نفسه .

ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد اطلقوا حركة الصهيونية من اية قيود انسانية او خلقية من اول القتل الى الكذب وقالوا يوصون ابناء صهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ، ادخلوا بيوتهم واهدموها ،تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".

الهزيمة والاستسلام :

طبقا للمقاييس التى ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها باحدى طريقتين هزيمة العرب او استسلامهم

. اما بالاستيلاء على الارض العربية عنوة واخلائها من البشر واقامة دولة اسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الارض وتركتها لهم خالية ليقيموا عليها دولتهم . ولانقصد من قولنا خالية الايوجد فيها عربى على الاطلاق ولكن نقصد ان لايقيم فيها الا العربى الذى تقبل اسرائيل اقامته . ذلك لانه لايخفى ان دولة اسرائيل ستكون فى حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون ابناءها من عبء العمل المرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس ايضا.

المهم انه نتيجة الخلط المضطرب فى المفاهيم فى المرحلة الحالية اصبح من اللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .

ان الهزيمة هى التخلى عنوة عن هدف تكتيكى او استراتيجى . اما الاستسلام فهو قبول التخلى عن هدف تكتيكى او استراتيجى بدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكى . اذ قد يتم الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكى نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنب خسائر محققة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع التى يجيدها الراسخون فى علم الصراع وفنونه . وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلى عن الارض ، بل حرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجى . كما فعل الروس مرتين امام نابليون وهتلر . وفى صراعنا مع الصهاينة ، اعنى الصراع العسكرى ، هزمنا عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . فى عام 1948و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربى فى فلسطين عن الارض وغادروها وكان ذلك يبد واستسلاما، ولكن حين تحول الشعب العربى الفلسطينى خارج الا رض المحتلة الى منظمات مقاتلة وبدا القتال اقتحاما اصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما . وحين امر الرئيس عبد النااصر بسحب الجيش المصرى من سيناء عام 1956 حتى لاتطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .

ولكن الفارق بين الهزيمة والاستسلام يبدو واضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكى فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجى ، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجى فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهو هنا استسلام لانه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فى المعارك التكتيكية ، اعنى الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجى ، وبالتالى يكون التراجع الاستراتيجى غير مبرر ، أى تراجعا بدون صراع أى استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجى لاتعنى ان الصراع قد حسم وانما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين . واروع مثال على كل هذا معارك العرب ضد الغزو الصليبى . انهزم العرب فى اكثر من موقعة تكتيكية ولكنهم لم يسلموا ابدا بحق الصليبيين فى احتلال الارض العربية ، لم يقبلوا ابدا ، ولم يتبنوا النظرية الصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الارض وهزموا اعداءهم . ومثاله الاخرحركات التحرر الوطنى فى العالم كله . بذرة نموها التى لم يصبها العفن ابدا ، هو رفض النظرية الا ستعمارية ، نظرية تحضير العالم اوروبيا ، نظرية تفوق الرجل الابيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادى عن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .

أليس هذا واضحا ؟.

فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..

الاستسلام الوشيك :

هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الاقليمية فى خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية .وفى مقابل هذا كنا ندرك ان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الى مقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذى انهزم يعوضونه ماليا عن دخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولاصلح ولااعتراف ". ومن مرحلة الاعتراف بالحطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت اكثر من دولة عربية كل قواها المادية والبشرية لاعادة انشاء الجيوش التى سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حرب الاستنزاف بعد اقل من ستة اشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على اساس ان مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظة الاختبار التاريخى حين واجه جنودنا جنود الصهاينة فى فرصة متكافئة وانهزم الصهاينة فى معركة تكتيكية ايضا .. ولكنها امدتنا باقوى اسلحة النصر النهائى : الثقة فى اننا نستطيع ان ننتصر .

بكل منطق قومى او وطنى او علمى او حتى نفسى .. كان ذلك يعنى اولا : ان يدرك العرب ان نصر اكتوبر 1973 كان نصرا فى موقعة تكتيكية ، لم يحسم الصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجى .ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب . ثانيا : الايتركوا للعدو فرصة التقاط انفاسه وا سترداد قواه والتحول من الدفاع الى الهجوم . ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التى قدمها اليهم الجنود بعد ان اشتروها بدمائهم الغالية . رابعا : ان يكمل العرب ماينقصهم من عناصر القوة فيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة استراتيجية شاملة بعيدة الامد .. خامسا: ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذى تحقق فى اكتوبر 1973 اصوله المبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ماحقق عنصر التنسيق العربى من نصر مدى ماتتضمنه الوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية التجزئة عن مرحلة الهزائم .

بكل منطق كان يجب ان نوالى انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجى ، لنصوغ الحياة على الارض العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بها ليبحث كل منهم عن ارضه التى جاء منها .

ضد كل هذا ،

ضد معطياته العينية ، لمادية والبشرية والفكرية ، حدث مالم يحدث فى تاريخ الشعوب كلها بقدر مااعرف من تاريخ الشعوب . وفى ذات للحظة التى انتصرنا فيها فى معركة تكتيكية استسلمنا اونحن على وشك الاستسلام ، لا اقول على المستوى الاستراتيجى ، بل اقول على المستوى المبدئى . كان امامنا خيارات عدة تقع جميعها على مستوى المعركة التى انتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان فى امكاننا ان نتوقف مرحليا . كان فى مقدورنا حتى ان نتخلى عن المكاسب التى حققناها ، وهو اقصى ، واقسى ، مايمكن ان يختاره المقا تلون على ا لمستوى التكتيكى . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، من الظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفا سياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ، وسواء ‏كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكنا ستلف فى هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ماكان لها ان تتجاوزمستواها التكتيكى ، أى ان اقصى ماكنا سنختلف فيه هو : " كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميع مستوياتها .

ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..

الذى حدث اننا بطريقة غريبة على التاريخ ،, غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربى بالذات ، انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكى الى استسلام مبدئى ، موفرين على عدونا عناء الصراع على المستوى الاستراتيجى .

ذلك لاننا سلمنا ببساطة بان من حق اليهود ان يقرروا مصيرهم ، أى انهم امة . ,ان من حق هذه الامة ان تكون لها دولة قومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الارض العربية ، وان يكون هذا الجزء بالذات مااشارت اليه التوراة التى يقراها الصهاينة .لم يحدث ابدا ان ارغمنا الصهاينة على تبنى نظريتهم هذه . لانه لم يحدث ابدا ان هزمونا على المستوى الاستراتيجى ، ولم يحدث ابدا ان حققوا من الانتصارات مايحسم الصراع بالنسبة اليهم على المستوى التكتيكى، وقد كان اخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول : اننا لم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …

السنا مشغولين بوجود الشعب الفلسطينى ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، او بعض اعداءنا بان هناك شعبا فلسطينيا ، وان من حقه ان يكون له موطنا، وليس حتى وطنا؟ السنا نتحاور ونتشاور ونجادل ونختلف حول صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة ام فى اتحاد فيدرالى او كونفدرالى مع الاردن اوسورية . السنا نركض فى انحاء الارض جميعا ، فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة افقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبول الوجود الصهيونى على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية … ، ملتمسين من الصهاينة ان يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا فى قبول جوارهم ، على الارض العربية .. اليس على الارض العربية فى جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيونى ـ عربى " موحد الاسلحة والامدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. ايها الشباب الا نسمى الان ، وطننا العربى ، منطقة الشرق الاوسط ؟..

فما الذى بقى ؟..

يقولون :" انها خاتمة جولة وستاتى بعدها جولات " .. غدا تسترد دولة الضفة والقطاع مابقى من اسرائيل ؟..غدا نقوى فنستانف الصراع ؟ .. غدا .. ياتى جيل يلغى مافعلناه والتاريخ طويل؟ .

لايصدق من هذا القول الا القول الاخير . نعم ، غدا يأتى جيل عربى يلغى كل مافعلوه ، ولماذا غدا، انه قائم قادر لن يولد غدا ، بل سيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذ ايطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون على اختصاره ..؟ السنا جيلا فاشلا؟.. افلا يكفيه فشله فيخون جيلا ناشئا.

اما عن الجولة التى ستاتى بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التى ستحرر باقى فلسطين ، فلا اقول انه عناء . اقول انه احتيال . نصب . خديعة . اننا لم نحرر الضفة او القطاع او حتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا .ولو تم شئ من هذا ولو فى القطا ع وحده ، ولو فى مدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين فى مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادل والامن المتبادل .. ولن ينتهى الامر عند هذا الحد.. سيستانف الصهاينة مسيرتهم العدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التى لاينكرونها.. فقط بلاسلوب الجديد .. اسلوب الاستسلام العربى …

وبعد ،

فلماذا استسلم العرب أويوشكون على الاستسلام ؟ … اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا عسكريا فى جبهة القتال فى اكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريق الى النصر النهائى ، فبدلا من احتلال ارضنا جزءا جزءا بدأوا فى احتلال رؤوسنا فكرة فكرة . بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..

جردونا من نظريتنا العربية ودسوا فى رؤوسنا نظريتهم الصهيونية .

رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل . وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . اولئك هم الاقليميون الذين انكروا امتهم ، فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لاتمس بل تتدعم اذا مااعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا من الوطن العربى مقابل ان تسكت عن اغتصاب الاقليمين باقى اجزائه..

ولما انكر الاقليميون امتهم ، وفقدوا قوميتهم ، تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، ومااستطاع الاقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ، ان تكون لهم استراتيجية موحدة فى مواجهة الصهيونية . ماكان ولن يكون للاقليمين اداة نضال عربية واحدة . ماكان ولن يكون للاقليمين خطة مواجهة واحدة . لم يلتق الاقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا .

فى شباط (فبراير) 1968 كتبت ونشرت تحت عنوان " وحدة القوى العربية التقدمية " حديثا طويلا عن المستقبل قلت فيه مخاطبا المقاومة الفلسطينية وكانت فى ذلك الوقت تحمل مابقى من امل لهذه الامة قلت : "احذروا غدا اوبعد غد ستخذلكم الاقليمية من حولكم والاقليمية من داخلكم" . وفى نيسان ( ابريل) 1970 فى عمان فى ندوة مشتركة بقاعة نقابة المحامين اشترك فيها ممثلون عن اغلب فصائل المقاومة قلت " ان اسرائيل قامت ونمت وتوسعت فى ظل حماية الدول الاقليمية " …

دكتور عصمت سيف الدولة

محاضرة القيت فى جامعة الكويت فى 6 ابريل 1977
.




منذ أكثر من نصف قرن تقوم فى فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر بدأت اختلاسا خفيا ثم تحولت الى اغتصاب بالقوة . انها ليست احتلالا لفلسطين أرضا وبشرا تسخر به القوى المحتلة كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم فى بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل سنة 1948 ، ولكنها محاولة بدأت قبل الاحتلال الانجليزى واستمرت فى ظله وماتزال باقية بعده . فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ( خالية) من الشعب العربى وتوطين بشر آخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه بما فعل المهاجرون الاوربيون القدامى فى امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفى سنة 1948 استطاعت الحركة الصهيونية أن تقيم على أرض فلسطين دولة باسم " اسرائيل" اعترفت بها أغلبية دول العالم وقبلت عضوا فى هيئة الامم المتحدة ورفضت الدول العربية الاعتراف بها واشتبكت معها فى ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وماتزال اسرائيل باقية . وقد عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية . تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ، وتغيرت من حولها الظروف الدولية . وفى كل جيل . وتحت كل نظام . ومع كل ظرف دولى ، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات ، وقدمت لها عشرات الحلول ، وبذلت فى حلها عشرات المحاولات ، وكتبت عنها مئات الكتب … فلم تزد المشكلة الا حدة وان كادت كل تلك الاحداث و " الاجتهادات " أن تخفى الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التى نطرحها :ماهى حقيقة المشكلة ؟..

وجاءت هزيمة يونيو ( حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا . فمنذ عام 1967 جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف الارض جميعا ، بحيث يمكن القول ـ بدون أية مبالغة ـ ان كل القوى النشيطة فى العالم أصبحت اطرافا ذات نشاط فى الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين . وحمل كل طرف " قضيته" معه . بعدا جديدا ومضمونا مضافا ، الى أبعاد ومضامين المشكلة االاصلية . وهكذا اصبح الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين أطراف عدة على مضامين متعددة من اجل غايات متباينة ، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى آخر الصواريخ والطائرات . ولم يعد أحد يذكر حتى ذرائع القتال فى يونيو ( حزيران) 1967 . فقد عرت الايام ماكان مستورا وكشفت نوايا كل الاطراف فبانت حتى لاقصر الناس نظرا الاعماق الحقيقية للصراع فلا هو صراع حول أمن اسرائيل" المستضعفة " فى مواجهة البغى العربى المتفوق عدة وعداء. ولاهو صراع حول الملاحة فى خليج العقبة ، ولاهو صراع حول أسلوب الحياة فى الارض العربية . بل هو صراع يدور ـ بلا مواربة ـ حول الوجود والمصير . الوجود العربى ومصيره . والوجود الصهيونى ومصيره . والوجود الاستعمارى ومصيره فى الوطن العربى وربما فى العالم . وهكذا يعرف كل الشركاء والحلفاء فى الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم فى مصير كثير من العقائد ( الايدلوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما العالمية . وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربى مجرد امتداد لما سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا فى قواه وفى نظمه وفى غاياته . ومن هنا اصبح " المستقبل" العربى ذاته ، مستقبل الامة العربية كلها موضوعا يدور من اجله الصراع بين القوى المشتبكة فى الصراع حول مستقبل فلسطين . ويعد له كل شريك فى الصراع ، وكل حليف لاحدى قواه " الصيغة " التى تتفق مع مصالحه . ويدفع بالصراع ذاته الى الاتجاهات االتى يعتقد انها مؤدية الى مايريد فى الوطن العربى . وليست " النظريات" التى كثرت أعلامها فى سماء الوطن العربى منذ سنة 1967 الا الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهى تطرح على الجماهير العربية لابقصد تثقيفها أوتعريفها بالحقيقة كما لابد يزعم دعاتها ولكن للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .

فى غمار هذا كله يصبح من المهم لنا أن نعرف حقيقة مشكلة فلسطين ، وان نظل واعين حقيقتها ، والا نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة ، فأننا لن نعرف قط الحل الصحيح لاية مشكلة اذا جهلنا حقيقتها وعندما لانعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد عرفنا من قبل أن " كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح واحد فى واقع اجتماعى معين فى وقت معين . قد يكون لها أكثر من حل خاطئ ، قاصراو متجاوز أو متناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل فى حلها ، ولكن حلها الصحيح لايمكن الا أن يكون واحدا بحكم أن الواقع الاجتماعىواحد ( فقرة 18) وعندما طبقنا هذا على المجتمع القومى ( الامة ) انتهينا الى ان" المشكلات الاجتماعية فى الامة حلولا موضوعية يحددها الوجود القومى ذاته بما يتفق مع التقدم القومى . والصراع الاجتماعى حول المشكلات الاجتماعية لايعنى أن تلك الحلول غير معروفة أوغير قابلة للمعرفة ، بل يعنى تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعى الصحيح . وقد يكونون كلهم خاطئين ، ولكن الذى لايمكن أن يكون أبدا أن يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون .( فقرة 29).

فماهى حقيقة مشكلة فلسطين وماهو حلها الصحيح ؟

لنبدأ بالوقائع التاريخيه وهى بسيطة : منذ الفتح الاسلامى والشعب العربى هو الذى يقيم ويعيش على أرض فلسطين. ومن اجلها دارت أقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبى واشترك كل الشعب االعربى بأمواله وأبنائه فى تحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين . ومنذ ان انحسرت نهائيا موجات الغزو الصليبى لم يغادر الشعب العربى أرض فلسطين الى أن طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور ولم ينكر أحد حتى من الصهاينة ان الشعب العربى هو الذى كان يقيم ويعيش على أرض فلسطين منذ االفتح الاسلامى حتى سنة 1948 . وهكذا ندرك عدم جدوى كل ماكتب فى محاولة اثبات مالم ينكره احد . إنما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض فيما يلى الموقف العربى القومى ثم الموقف الصهيونى قبل أن نعرض الحل القومى للمشكلة .

الموقف القومى:

الموقف القومى من مشكلة فلسطين بسيط وواضح:

فعندما ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلى وحركتها التى لاتتوقف من الماضى الى المستقبل ، نفهم ان فلسطين ، أرضا وشعبا، قددخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامى . لم تعد منذ ذلك الحين موقعا للصراع االقبلى بين الكنعايين والاسرائيليين والرومان بل استقر الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لاتخص االارض شعبا بعينه لتكون جزءا مؤثرا ومتأثرا ، متحركا ، ومتغيرا ، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب االتى وفر لها الفتح الاسلامى أوسع فرص التفاعل التاريخى لتكون معا امة عربية . واذا كانت العلاقات العرقية ( السامية ) بين المقيمين فى فلسطين والمقيمين فى بقية انحاء الوطن العربى قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ماأدى اليه التفاعل من تطور تقدمى انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومى العربى وأصبحت به امة واحدة . من هنا فانا لانطرح مشكلة فلسطين ولانفهمها ولانحتج فيها استنادا الى اية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومى . ولانقبل من أحد أن يطرحها أو يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين أرضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين التاريخى للامة العربية . ذلك لاننا كقوميين ،والقومية تقدمية ،لانحتج ولانقبل الاحتجاج على ثمرات تطور التاريخ بتاريخ البداوة الاولى .

فلسطين اذن جزء من الامة العربية .

وبالتالى فان محاولة طرد الشعب العربى واغتصاب الارض العربية لتوطين بشر مستوردين هو اعتداء على االوجود القومى للامة العربية لابد من أن يرد . هو انتقاص من المجتمع العربى ولابد من أن يستكمل . هو فسخ لعلاقة تاريخية بين الشعب والارض لابد من أن يزول ليعود الشعب الى الارض وتعود الارض الى الشعب فتبقى الامة العربية " كما هى" . لاأكثر . كل هذا بصرف النظر عن جنس او ديانة او لون او مبادئ او نوايا االمعتدين . ان هذا مهم . فقد عرفنا أن " الوجود القومى مجرد وجود خاص . فهو اضافة الى. وليس انتقاصا من وجود الجماعات الانسانية الاخرى . وهكذا تكون القومية علاقة قبول .واحنرام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية " فقرة 25" . وهذا يعنى ، طبقا لنظريتنا القومية ، ان حق الامة العربية فى الوجود الكامل لايتوقف على أحد. وبالتالى فان حق الشعب العربى فى استكمال وجود امته باسترداد فلسطين لايتوقف على مااذا كان المعتدون يهودا او غير يهود ، رأسماليين أو من الذين لايملكون شيئا يخسرونه ، كما لايتوقف على أى وجه وفى أى ظرف . على موقف الدول من هذا الحق سواء كانت دولا كبرى أو دولا صغرى ، منفردة أو مجتمعة فى منظمة هيئة الامم المتحدة . أن كل هذا الذى يتصل بالمعتدين وحلفائهم والموقف الدولى من المشكلة قد يؤثر بشكل أو بآخر على اسلوب حلها ، أما حقيقتها القومية كما هى محددة بالوجود القومى العربى فلا تتأثر ولاتتغير بمواقف القوى الاخرى معتدية كانت أوحليفة أو صديقة . حتى لو كانت حليفة أو صديقة للشعب العربى نفسه .

تترتب على هذا عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومىمن مشكلة فلسطين :

اولاها : ان الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين الشعب العربى وبين " اليهود" لانهم يهود . هذا خطأ جسيم فى فهم المشكلة . ان العروبة قومية واليهودية دين . فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة . القومية العربية علاقة انتماء الى مجتمع قومى ( امة) والدين اليهودى علاقة ايمان بمقولات ميتافيزيقية . وكما يكون العربى يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودى منتميا الى أى واحد من المجتمعات التى تملأ الارض بدون أن يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعى وانتمائه الدينى. ليس ثمة شئ أبعد عن حقيقة مشكلة فلسطين وأكثر تشويها لها من القول بأنها مشكلة صراع دينى يحلها قبول التعايش بين الاديان على أرض فلسطين . فيوم أن اغتصب الصليبيون المسيحيون أرض فلسطين قاتل العرب ، مسلمين ومسيحيين ، الى أن استردوا الارض االمغتصبة ، ومن قبل أن يبيدأ العدوان الصهيونى على فلسطين كان العرب من كل دين يعيشون فى سلام على أرض فلسطين . ان مشكلة فلسطين مشكلة أرض مغتصبة وليست مشكلة تبشير بأحد الاديان . مشكلة قومية وليست مشكلة دينية واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان بنصوص من " االتوراة" فذلك مايقوله المعتدون أنفسهم لخدمة أغراضهم أو لتبرير عدوانهم .. وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولانستطيع أن نحلها وقد نقع فى الخطأ حتى بعيدا عن التصدى لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض " المتفقهين" الامة العربية التى ينتمون اليها ، والواقع القومى الذى تثور فيه المشكلة ، ويقدمون الدين بديلا عن القومية ، او عندما ينفعل " المتعصبون" فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود ، لايفعلون شيئا بتلك الاخطاء الغبية االمضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية المعتدية . اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهى بهم الامر الى اقتسام الوطن العربى فيما بين الاديان الثلاثة على الاقل .وأيا ماكانت النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحى أن يخرج من أرض اليهود فى فلسطين . أى يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيونى الذى يظنون انهم يحاربونه بالتعصب الدينى . فهل يقبلون ماتنتهى االيه منطلقاتهم أم هى أخطاء غبية ؟ ..

النتيجة الثانية : هى أن الصر اع الذى تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية فى الارض االعربية بين الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيونى لفلسطين يزعمون أنهم من "الاشتراكيين " بينما المدافعون عن الارض العربية " اقطاعيين " أو رأسماليين . وأدى ذلك الى وقوع أكثر الناس ادعاء للفهم " االعلمى " للمشكلات فى خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين فاعترف الاتحاد السوفيتى باسرائيل فور اعلان قيامها وانحاز الشيوعيون العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية . ولم يلبث التاريخ طويلا حتى كشف ذلك االخطأ " العلمى" جدا . اذ فى مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة الذين كانوا يوما من اعضاء " البوند الماركسى" خلفاء أوفياء للامبريالية الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الارض العربية من التقدميين والاشترا كيين . وفى الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع قائما . وقد صحح الاتحاد السوفيتى ـ بقدرـ خطأه لاول . وصحح كثير من الماركسيين العرب مواقفهم تصحيحا كاملا .ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحة فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة أثارها اغتصاب الارض العربية ، والارض هى مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعى ، فاغتصابها من الشعب العربى معوق لتقدمه فهو عدوان رجعى بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون . واذا كان الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعى فى الارض المغتصبة وبين اسلوب الا نتاج الفردى فى الوطن العربى فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصلية تحت ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم فى الارض المغتصبة. وهو تضليل لم يضلل مثله أحد من قبل يوم أن نشب الصراع المسلح بين الصين والاتحاد االسوفيتى حول بضعة أميال مربعة من الارض على حدود البلدين . لم يكن هناك شك فى أن الاشتراكية هى نظام الحياة الذى ينتظر تلك الارض سواءآلت الى الصين او الى الاتحاد السوفيتى . لم يكن أحد من الطرفين يشك فى هذا ولم يثره أحد من الطرفين . انما كان الصراع المسلح الذى وصل الى حد القتال الفعلى بين االاشتراكيين من الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء المضللة االتى تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية أدوات الانتاج فى الارض العربية . وهى اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف ـ غرورا ـ اضعاف الجبهة الداخلية فى اسرائيل أو حتى شقها . لأننا إنما نضغف القوى المعادية لنمزقها انتصارا لحقنا ولكن لاندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها . ولايجدينا شيئا اأن يتمزق المجتمع الصهيونى فى اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض المغتصبة منا . ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية فى ذاته بديلة عن الغاية الاصلية فلن يزيد عن أن يكون انتقالا لارض فلسطين من فريق صهيونى نقول أنه رجعى الى فريق صهيونى نقول أنه تقدمى. وتكون المسألة كلها عبثا . وعندما ينسى بعض المتشدقين بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا … الى آخر هذه الكلمات الكبيرة ان كل
فلاح فى اسرائيل يزرع أرض فلاح عربى . وأن كل عامل فى اسرائيل يحتل مكان عامل عربى ، وان كل اسرة فى اسرائيل تعيش فى منزل اسرة عربية ، عندما ينسون ان كل خطوة الى الامام فى اسرائيل قد انتزعت الاقدام االعربية من فوق طريق التقدم الاجتماعى ، ثم يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين االغاصبين بدعوى ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين " الطبقات" وليس صراعا حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات ، فانهم لايفعلون شيئا سوى دخول معركة الصراع الاجتماعى بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، وياللسخرية ، من مواقع التشرد التىطردهم اليها االغاصبون . عند ئذ يكون بعدهم عن فهم مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة . وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف المطرودين أو التصدى المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض " أكلة " االكلمات الكبيرة الامة العربية التى ينتمون اليها والواقع القومى الذى تثور فيه المشكلة . ويقدمون الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهى الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج " بصرف النظر عن الانتماء القومى" ، فيكون عليهم أن ، يقبلوا أن يزرع الفلاحون فى اسرائيل أرض الفلاحين العرب ، وأن يكون الفلاحون والعمال فى الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض وفرص العمل فأصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن، الاحتياطى البشرى تحت قيادة " البروليتاريا " الاسرائيلية فى نضالها " الثورى " من اجل الاشتراكية . فهل يقبلون ماتنتهى اليه منطلقاتهم ام هى أخطاء غبية ؟.

النتيجة الثالثة : هى أن مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية ، بمعنى أنها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولى من ناحية اخرى . واذا كانت الدول تتدخل فى مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربى أودعما للعدوان الصهيونى فان الذى يحركها هى مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمى هو مصلحتها الخاصة . واذا كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التى تحركها كما نقيم وزنا للسلام العالمى فلأن لنا فى هذا مصالح تحركنا . ذلك لأننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها ولانستطيع حتى لو اردنا ان نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففى نطاق المجتمع الدولى نواجه حتمية القانون الذى عرفناه " كل شئ مؤثر فى غيره متأثر به" ولاشك فى أن مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر ايجابيا وسلبيا ، بأسلوب حلها . وهو ما يعنى أن نأخذ من كل دولة ، ومن المجتمع الدولى كله ، الموقف الصحيح ونحن نحاول أن نحل مشكلة فلسطين . ولكن ماهو مقياس صحة الموقف؟.. مقياسه أن يكون مساعدا فى حل المشكلة أو أن يكون حلها لها . وهو مايعنى أن لمشكلة فلسطين حقيقة نعرفها هى التى تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولى ، وأن تدخل تلك الدول ومجتمعها الدولى فى الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين لايغير من حقيقتها التى نعرفها ونلتزمها : أن أرضنا العربية فى فلسطين مغتصبة…

فليكن السلام العالمى هو المثل الذى نضربه ، لأن السلام العالمى غاية مشتركة بين البشر جميعا . ان الحفاظ على السلام العالمى ـ طبقا لنظريتنا القوميةـ يتحقق باحترام الوجود الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذى يقتضيه الحفاظ على السلام العالمى ، نريد أن نقول ان استعمال العنف لايعنى ـ دائما ـ أن ثمة خطرا يهدد السلام العالمى ، وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية السلام العالمى . فنحن من موقفنا القومى لانصدق ولانفهم ادعاءات السلام التى تتستر على الانتقاص من وجودنا القومى . ونرفض تماما أن ندفع أرض فلسطين أو أية ذرة من الأرض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لالأننا لانريد السلام العالمى ولكن لاننا لانفهم السلام العالمى الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجودالخاص لكل المجتمعات البشرية .

ان الدول لن تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة ، ولن تكف عن طرحها كمشكلة سلام عالمى صادقة أو مخاتلة ، ولن تكف عن التدخل ، علنا او خفية ، من موقع التحالف معنا او التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ماتريد وليس لنا أن نتوقع غير هذا وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق غايتنا وسط كل هذه المؤثرات . لاشك فى هذا ولا انكار له ولكن عندما ننزلق الى طرح مشكلتنا او قبول طرحها على انها مشكلة فيما بين الدول الاخرى او مشكلة االسلام العالمى انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية . وعندما ندفنها تغيب عنا حقيقتها فلانعرف كيف نحلها ، ثم يكون علينا أن نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم كل منها على ضوء مصالحها الخاصة ، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمى كما يقدرها القادرون على تدميره او الخائفون من القادرين . وينتهى الامر بنا الى دفع أرض فلسطين ثمنا من دمنا ، لا للسلام العالمى ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح القائمة بين الدول..

وعندما نعرف أن مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذى ذكرناه ، ولاننسى انها مشكلة أرض عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذى يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولى عندما يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربيةفى فلسطين قد حلت منذ أن اعترف المجتمع الدولى بدولة اسرائيل وقبلها عضوا فى هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد أصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة . ان فقه القانون االدولى ملئ بالنظريات عن الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة ، وبآثاره الملزمة فيما بين االدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة .ولكن ليس فى فقه القانون الدولى ولا فى قواعده ولا فىتنظيماته مايجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية أثرا ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ أن القاعدة الاساسية التى يقوم عليها كل بناء القانون الدولى هى أن الدولة لاتلتزم الا بارادتها الخاصة . فما الذى يعنيه اعتراف كثير من الدول باسرائيل؟. … يعنى أن تلك الدول قد أصبحت ملتزمة بارادتها بأن تعامل اسرائيل كدولة مادامت قائمة . ولا يعنى شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية المغتصبة لان القرارات التى تأخذها الدول ، كما يعرف الذين يعلمون المبادئ الاولية فى القانون الدولى ، غير قابلة لاحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم الذى تنصب عليه سيادتها . ومادامت الدول التى اعترفت باسرائيل ليست ذات سيادة على اقليم فلسطين فان اعترافها يضفى الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لايضفى الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لايحول الاغتصاب االى عمل مشروع . ان هذا يقع خارج نطاق مقدرة الدول وهى تمارس سيادتها لا لأننا نريد ذلك ، ولكن لان تلك هى احكام القانون الدولى الذى يحتجون به كثيرا . اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة اسرائيل لايتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها . والا لكان الاعتراف المشروع دوليا حماية غير مشروعة . ومن هنا ندرك كم هى زائفة المقولة التى يهمس بهاالبعض ويهددنا بها الاخرون : مادامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فانها لن تسمح بزوالها . أبدا. فيوم ان تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذى مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما من اثار الاعتراف بها . سيكون حماية لمصالحها يا كان مضمون تلك المصالح …

ان اعتراف كثير من الدول ،اذن ، باسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين تلك الدول وبين اسرائيل . وبالتالى فان المشكلة ، كما هى على حقيقتها ، ماتزال قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل ..

أما عن هيئة الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة فى المواد الاولى من ميثاقها تنكر شرعية الاستيلاء على الارض بالقوة . وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرائيل عضوا فيها ، قبل أن تجف دماء المذابح فى االارض المغتصبة ، لم يكن الاعضاء الذين قبلوا يفعلون شيئا اقل من خيانة ميثاقها . وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لاعضائها ولو مجتمعين أن يخالفوا ميثاقها .وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته فهى ليست حجة على الدول التى قبلت ان تكون اعضاء فى هيئة الامم المتحدة على اساس الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة مالابد أن يعرفه العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذى وضعه ، وكيف وضع ، وفى اية ظروف دولية وضع ، وماهى المصالح " الحقيقية " التى وضع لحمايتها . وبدون اثارة مايعرفه حتى الذين لايقرأون ولايكتبون من أن هيئة الامم المتحدة التى قبلت اسرائيل وماتزال ترفض الصين ليست الا اداة فى يد من يملك القوة فيفرض بها االقرارات الدولية ..

والغريب انه بينما يتردد الزعم فى اطراف الارض جميعا بأن اسرائيل وجدت لتبقى ، وبأن مشكلة اغتصاب االارض العربية قد حلت منذ اعتراف المجتمع الدولى بوجود اسرائيل ، يعرف الصهاينة قبل غيرهم انها ماتزال قائمة لم تحلها اعترافات الدول فيقاتلون منذ سنة 1948 حتى سنة 1967 . ويتشبثون بالارض التى احتلوها أخيرا فى مواجهة كل الضغوط الدولية من اجل الاعتراف بوجودهم على الارض التى اغتصبت اولا من اجل فرض هذا الاعتراف بالقوة على الامة العربية ..

هل تتغير حقيقة مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت باسرائيل احدى الدول العربية ، او الدول العربية مجتمعة، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة او بدون دولة ؟

أبدا..

وهذا ينقلنا الى الجانب " الداخلى" من المشكلة كما نفهمها على ضوء نظريتنا القومية ..

فقد عرفنا من وحدة الوجود القومى ( فقرة 22) أن " المميز الاساسى للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى المشتركة بما بين الناس فيها" وحذرنا هناك من " التساهل" فى هذا العنصر المميز للتكوين القومى . وقد عرفنا فيما سبق الموقف القومى من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية خاصة بالشعب العربى . بقى أن نعرف الموقف القومى من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية " مشتركة" فيما بين الشعب العربى . انه يحدده من ناحيتين :

الناحية الاولى : لما كانت الامة العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربى فى الوطن العربى هو مشاركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة . وهذا يعنى انه ليس من حق الشعب العربى كله من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا فى دولة الوحدة ، ان يتنازل عن ارض فلسطين او يقبل الوجود الصهيونى على الارض المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الا جيال العربية القادمة . ولو فعل لما كان مايفعله حجة على الاجيال القادمة من الشعب العربى ..

الناحية الثانية : انه لما كانت الارض العربية شركة بين الشعب العربى فليس من حق أى جزء من الشعب االعربى ولو كان شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن أرض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلى على الارض االعربية المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لايملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين باقى شعب الامة العربية . ولو فعل لما كان مافعله حجة على الشعب العربى .

ان هذه الناحية الثانية أكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لاتكتمل وجودا مادامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقى لوطن العربى . وانما اردنا ان ندفع بالفروض الى نهايتها لنؤكد بأوضح مايمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب " العربى " المتنازل ، ولو كان جيلا كاملا من الشعب االعربى تمثله وتنوب عنه دولة واحدة تعترف بالوجود الاسرائيلى على ارض فلسطين . ان أى جزء من الشعب االعربى ممثلا فى دولته ، او الشعب العربى كله ممثلا فى دولة واحدة ، او شعب فلسطين ممثلا فى دولة أو بدون دولة ،يعترف بدولة اسرائيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه بالتعامل معهاكدولة ولكن مشكلة الارض االمغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح جيل قادم من الشعب العربى يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع احد ان يحتج على الذين يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة بالاعتراف الصادر من غيرهم او بالاعتراف السابق على وجودهم . لانهم كشركاء فى الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما فعله او يفعله شركاؤهم الاخرون .

مشكلة فلسطين ، اذن، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتى من أى جانب عربى لانها مشكلة ارض مغتصبة ، لا من أى جيل من الشعب العربى يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها ، بل مغتصبة من الامة العربية واجيالها المتعاقبة . ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين فى طرح مشكلة فلسطين :

الخطأ الاول: هو الزعم بأن العدوان الصهيونى موجه ضد دولة عربية او بضع دول عربية ، وبالتالى تكون المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة او الدول . صحيح ان الصهيونية المعتدية عندما استولت على االارض العربية كانت الارض التى اغتصبتها جزءا من اقليم " شبه" الدولة التى كانت قائمة فى فلسطين تحت الانتداب البريطانى . وعندما اعتدت اسرائيل مرتين سنة 1956 وسنة 1967 ، ومرات عديدة فيما بينهما ، ا صطدمت بالدول العربية لقائمة على الارض المعتدى عليها . وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية اخرى لم يدركها العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التى اغتصبتها الصهيونية او احتلتها اسرائيل لم تكن خالية من البشر ومن الدول . وان الارض العربية التى حددتها لتكون وطنا لدولة اسرائيل مابين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول .ويثير كل هذا مشكلات جديدة بين اسرائيل والدولة او الدول العربية المعتدى عليها . مشكلات الاستقلال والامن وضمان الحدود . وتضاف تلك المشاكل الى قائمة المشكلات القومية على اساس ان " كل مشكلة فى الامة العربية هى مشكلة قومية " . صحيح ايضا انه كلما تحرر الشعب العربى فى اية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال . وكلما نمت مقدرة الشعب العربى فى أية دولة عربية على التقدم الاجتماعى . انتبهت الصهيونية الى المخاطر المقبلة التى تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو ان يبلغ غايته . اولا: لانه بقدر مايتحرر الشعب العربى بقدر مايستطيع ان يحل مشكلة فلسطين . وثانيا: لان محاولات التقدم ولو فى ظل الاقليمية لن تلبث ان تعلم الجادين فعلا فى ممارسة التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة فى الامة العربية وان " التقدم لايقوم على اساس التجزئة " عندئذ يعرفون ان مشكلة فلسطين هى مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلى قيد ثقيل على محاولات التقدم الاجتماعى فيواجهون دولة الصهيونية بالارادة التى لاتهزم : ارادة التقدم الاجتماعى. وثالثا : لان التنمية فى ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير ، ومن هنا لايكون غريبا مانلاحظه من ان مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت فى الوطن العربى خطوة تحررية . وان الصراع ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية . وان قواها العربية تفرز وتتبلور ، رويدا رويدا، فى القوى التقدمية . الم نر كيف انها الان سنة 1971 اكثر حدة من سنة 1948 . وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذى قبل . وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء فى الجمهورية العربية المتحدة ، حيث يعيش ثلث الامة العربية ، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية فى البناء الاجتماعى .ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على اساس خطط التنمية فى الجمهورية العربية المتحدة . عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربى لاعادة البناء ويبذل فى كل هذا مايتجوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية ، وعندما يقارب البناء مرحلة الاثمار ، أى فى تلك االلحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربى على وشك ان يذوق ثمار جهده ، تختلق الذرائع وياتى عدوان اسرائيلى جديد ليهدم .. وهكذا . الم نر كيف تحول الصراع سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات او تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة او موت بيننا وبين اسرائيل . ولم تستطع اسرائيل هذه المرة ان تضرب ثم تعود فتسرح قواها وتعد نفسها لجولة قادمة . بل اضطرت للبقاء فى ساحة المعركة والدفاع حتى الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى القومية فى الوطن العربى مسيرتها التقدمية .

كل هذا صحيح وواقعى ..

ولكنه يقوم على مستوى اسلوب الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة االاصلية ، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه . فهو لايطغى على مشكلة فلسطين ولايغير من حقيقتها ولايقوم بديلا عنها . ولو كانت اسرائيل تعلم ، او حتى تتوهم ، ان التقدم الاجتماعى فى اية دولة عربية ، لن يبنى لها من بين مايبنى ، القبر الذى تدفن فيه ، لما همها فى كثير و قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات. و لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء التقدمى فى الدول االعربية . انما هى تهدم لانها تعلم ان ذلك البناء احد اساليب النصر فى الصراع الذى تثيره مشكلة فلسطين . وهكذا تبقى مشكلة فلسطين ، كما هى، مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة او الدول االتى كانت قائمة ، والقائمة ، والتى تقوم على تلك الارض . ذلك لان الارض التى تقوم عليها الدول العربية ليست ارضا خاصة بتلك الدول او بشعوبها . ان للشعب العربى فى كل دولة حقا مشتركا بينه وبين باقى االشعب العربى خارج حدودها السياسية . من هنا لانستطيع ان نفهم ، من الموقف القومى ، كيف يمكن ان يكون اغتصاب او احتلال اية ارض عربية هو مشكلة " خاصة" بين المعتدين وبين الدولة او الدول العربية التى تلقت ضربة العدوان . فلا نفهم ان يكون اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض والمياه الاقليمية فى سنتى 1956و1967 ومابينهما مشكلات اقليمية قائمة بين اسرائيل والدول العربية" االمعنية" كما يقولون . وعندما لانفهم المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض ـ من ناحيةـ ان تتنازل اية دولة عربية عن ارض فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف ولو فى مقابل استردادها للارض المحتلة فى سنة 1967 . ونرفض ـ من ناحية ثانيةـ ان تتنازل اية دولة عربية عن ذرة من الارض التى تقوم عليها لاسرائيل ولو فى مقابل استردادها مايتبقى من ارض محتلة .ونرفض ـ من ناحية ثالثة ـ ان تكون مسئولية تحرير الارض المغتصبة واقعة على عاتق جزء من الشعب العربى كله من المحيط الى الخليج . فكما نرفض ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربى لتسترد جزءا منه ، نرفض ان يهرب جزء من الشعب العربى من االمعركة ليتحمل جزء منه مسئولية الامة العربية كلها.

مشكلة فلسطين اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية .

واذا كان الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولايكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هى مشكلة حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العربية فذلك مايقوله المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرائيل ليبدأوا بعده مراحل بناء دولة الصهاينة ، حربا حربا ، مابين االفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن مشكلة فلسطين هى مشكلة اغتصاب أرض فلسطين ( أليس هذا بدهيا ؟.) ونطرحها كما لو كانت مشكلة توسع على حساب دولة او اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية بما اغتصبت من الارض العربية قبل سنة 1967 . وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية التى ينتمون اليها والواقع القومى الذى تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات العجماء أن لكل دولة " عربية " شعبها الخاص ومصيرها الخاص … ويناقضون القومية بالاقليمية ، يناقضون الكل بالجزء ، يناقضون الشامل بالمحدود ، يناقضون العام بالخاص ، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة ، انما يخفون التناقض الحقيقى القائم بين الشعب العربى والوجود الاسرائيلى ، وينتصرون فيه للصهيونية وحلفائها بترديد دعواهم الزائفة . اذ عندما ينحرفون الى المواقع الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا ومستقلا يواجهون بأن الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلا بالنفس عن الغير . والغير هنا هو شعب فلسطين وارضه المغتصبة . ويصبح تدخلهم فى مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو تطفلا، على استقلال الاخرين يستحق الردع او يستحق السخرية ويسخر العالم كله فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم ثم لايتركون فلسطين لمصيرها . وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لايكون امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التى تنظم علاقة الجوار فيما بين الدول : الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسى ودعم الصداقة … اوـ على الاقل ـ قبول حماية الدول لحدود دولهم لتضيع ارض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود . فهل يقبلون ماتنتهى اليه منطلقاتهم ام هى اخطاء غبية ؟..

الخطأ الثانى المتداول فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا "تطبيقا خاصا " للخطأ الاول . انه الزعم بأن مشكلة فلسطين هى مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذى كان يعيش على االارض المغتصبة .وهو الذى طرد منها . وهو الذى مايزال مشردا " بدون ارض وبدون هوية" . وهو الذى سيعود الى الارض عندما تسترد . فهى مشكلته الخاصة . هل يستطيع أحد ان ينكر ان اغلب الذين يعيشون على الارض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالأمس . المشردون خارجها اليوم ، العائدون اليها غدا؟.. لاأحد . ان احتجوا بالواقع غير المنكور ترسى القومية له أسسه العقائدية :":ان وحدة الوجود القومى تعنى اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادا من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومى لاتناقض ولاتلغى ولاتنفى ولاتحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هى الممارسة الفعلية التى تجسد وحدة الوجود القومى" . ( فقرة 30) . عودة المطرودين المشردين الى الارض المغتصبة ليست ـ اذن ـ مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر والمنازل ، ليست مجرد عملية انقاذ لساكنى المخيمات ، انها أكثر من هذا عمقا وضرورة . انها الممارسة الفعلية التى تجسد وحدة الوجود القومى ومع هذا فليست مشكلة فلسطين مشكلة خاصة بشعب فلسطين اذ ان هذا هو الوجه الثانى من عملة الاقليمية الزائفة . فحيث لاتتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا أن مشكلة فلسطين ليست مشكلتنا الخاصة ، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ " مشكلة فلسطين خاصة بشعب فلسطين " .ويسترون هذا الخداع باكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية عن شعب فلسطين ، عدم التدخل فى شؤون فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ، الحقوق " القومية" لشعب فلسطين ، التحالف مع شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين .. الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفة . اذ ان حصيلتها النهائية أن اذهب أنت ياشعب فلسطين وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون .

عندما يصدر هذا كله او بعضه من الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما انها الاقليمية الهاربة من الصراع من اجل استرداد ارض لاتعتبرها ارضها المتطلعة الي الافلات من مشكلة لاتعتبرها مشكلتها . والتى لامانع لديها ـ فى كل الحالات ـ ان يقبل المطرودون التعويض بدلا من العودة . ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل . اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين انفسهم فذلك امر غريب مريب .

ان يقبل المطرودون المشردون من الارض المغتصبة ان مشكلة فلسطين هى مشكلة خاصة بشعب فلسطين لايفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذى القته الاقليمية فى افواههم . ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للاقليميين بالهروب من المعركة : وصد القوميين عن الاسهام فى المعركة ، ومحاولةاسترداد الارض الخاصة بهم من مواقعهم فى الارض التى تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية االمخاتلة تقول لهم استردوا ارضكم كما تشاؤون ولكن لاتمسوا سيادتنا على ارضنا ، وتدفعهم بالعطف المخادع أو بالقوة الغاشمة الى ان يقبلوا جزءا من الارض المغتصبة ليقيموا عليها " دولة فلسطينية" يكون مجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل..حينئذ سيشعرون ببرودة الموت الذى دفعتهم اليه الاقليمية . فهل تقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم ام هى أخطاء غبية ؟..

ليس ثمة امة تخلو من الخونة . ولكنا لانستطيع ان نسند الخيانة الى أى عربى لانملك على خيانته دليلا غير قابل للشك . فقد علمتنا القومية ان مصيرنا مرتبط بمصير ابناء امتنا حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لايقبلون ماتنتهى اليه منطلقاتهم .:كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، او اغلبهم، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة دينية ، او مشكلة نظم اجتماعية ، او مشكلة دولية ، او مشكلة اقليمية … لايقبلون الوجود الاسرائيلى فى فلسطين ويجتهدون ـ بحسن نيةـ لحل مشكلة لم يفهموها فهما قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا فتأتى الحلول خاطئة . انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة " عربية" ويستغيثون بالمائة مليون عربى بدون ان يقولوا انها مشكلة " قومية"ثم لايفطنون الى أن العروبة التى لاتعنى الانتماء الاجتماعى والمصيرى الى الامة العربية هى كلمة "فارغة" من أى مضمون لايقوم عليها التزام بغاية . الايقولون انه صراع دينى ولايفطنون الى ان الوطن العربى هو مصدر الاديان وأن حركة التقدم العربى فى تاريخها الطويل قد جمعت الاديان جميعا الا يتذكرون ان الصهيونية قد اعتدت اولا والنظم االعربية عميلة الاستعمار ، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة ، واعتدت اخيرا والنظم العربية تقدمية وفى كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين النظم الاجتماعية ؟.. الايعرفون

أن الدول الاستعمارية هى التى كانت وماتزال تصنع القرارات الدولية ، بالقوة ، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية ؟ .الا يعلمون انه عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض العربية واختارت فلسطين بداية فى مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة دولة عربية قائمة فى الوطن العربى ، لا فى فلسطين ولا فى غير فلسطين ، بما تعنيه الدولة من سيادة على الارض ، بل كان الوطن العربى اما جزءا من الدولة االعثمانية واما اجزاء يحتلها المستعمرون الاوربيون ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذى أوتلك من االدول العربية ؟.. الا يرون ان" الممارسة" الفعلية للصراع بين الشعب العربى والحركة الصهيونية حول الارض المغتصبة فى فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية ، فتدخل حلبة الصراع الذى تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربى ، من كل دولة ، بدون توقف على القرارات الدولية .. ولايسمح الصراع ذاته لاى جيل عربى ، او جزء من الشعب العربى ، أو أية " طبقة" أو أية دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيونى واثاره المخربة كل مكان فى الوطن العربى لايمنعه الهرب ولاتصده القرارت الدولية ؟.. فلماذا هذا الاصرار االغبى على انكار القومية وهى العلاقة الوحيدة التى تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من النصر فيها فلا تخذلهم ولاتهزم غايتهم ان كانوا ـ حقا ـ لايقبلون الوجود الاسرائيلى فى فلسطين ؟..

ان كان هذا غائبا عن " فطنة" الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومى عن ان ينبههم الى مايخذلون به انفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف الصهيونى من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم " عقائديا" من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لاعدائهم بعد ان يعرفوه ، ولو عرفوه ثم اخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا انفسهم فى الموقف القومى وان كانوا قد وصلوا اليه كرد فعل لافاعلين ..

الموقف الصهيونى:

نشأت الصهيونية فى اوروبا نتيجة عدة عوامل متفاعلة .

اولها ان " التوراة" التى يتداولها اليهود ، وهى كتاب ظهر لاول مرة فى عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى، اصحاح 22) ، علمت وتعلم اليهود أنهم " شعب الله المختار" وتضعهم فى موقع العزلة الممتازة من الشعوب الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب وبذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم اقوى من غيرهم . ذلك لان الله قد اختارهم واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسم " اسرائيل " على اثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو فى طريقه الى ارض كنعان وبين الله ذاته ، لم يهزم فيها يعقوب فاعجب به الله وباركه واختاره ( سفر التكوين 322 ايه 25ـ 29) وهكذا استقر فى أذهان أجيال متعاقبة من اليهود " ايمان " بانهم شعب قوى ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر أجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لاتلوث نقاؤه " انى أدفع أيديكم سكان الارض فتطرحهم من أمامك . لاتقطع معهم ولامع الهتهم عهدا . لايسكنوا فى أرضك لئلا يجعلوك تخطئ " ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22، 23) . قد أدت تلك الاساطير القبلية الى ان أصبحت اليهودية بالنسبة الى المتدينين من اليهود ، تتضمن " عنصرية" مقدسة تجمعهم على عداء "مقدس"للشعوب ولم يكف كهنة اليهود عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين ، فبينما تفرض على اليهود التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعى فيما بينهم تبيح لهم أن يعاملوا الشعوب الاخرى بدون قيد اخلاقى او اجتماعى. قال حكماء صهيون :" اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا بيوتهم واهدموها . تسللوا الى قلوبهم ومزقوها" . أما " يهو" الاله الخاص ببنى اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بأن يقوده الى " مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها " ( سفر التثنية . اصحاح 6 اية 11). ، وتكمل الاساطير البناء الاجتماعى القبلى فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدى وظيفتها فى التضامن الاجتماعى الداخلى فتقول ان كل اليهود فى كل مكان من الارض، ومن أى جنس ، وأى لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب ( اسرائيل) بن اسحق بن ابراهيم ووحدة الرمز ( الطوطم) فى جبل صهيون الذى دارت فوقه المصارعة التى اثبتت قوة اسرائيل ( يعقوب) التى لاتقهر.

اننا نتعرف فى كل هذا على خصائص الطور القبلى الذى مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص، والاصل الواحد ، والتضامن الداخلى، والعدوان الخارجى، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا فى جميع انحاء العالم يوم أن ظهرت التوراة لاول مرة فى اوائل القرن الخامس قبل الميلاد.وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا فى تكوينهم ولا فى اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا فى الصراع القبلى الذى كان يدور فى كل مكان من الارض والذى انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا بالغزو الرومانى وفكريا بظهور المسيحية . ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض بالفتح الاسلامى فدخلت بقايا القبائل اليهودية فى شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة التكوين القومى واصبحوا عربا ، ولعل مثل هذا التطور ان يكون قد حدث فى كل مكان عاش فيه اليهود ، الا اوروبا .

ففى اوروبا عاش اليهود قرونا منعزلين فى أحياء مقصورة عليهم عرفت باسم " الجيتو " حتى نهاية القرون الوسطى . ولم يكن أى " جيتو" الامجتمعا قبليا مغلقا على اصحابه حبس تطور الجماعات اليهودية فى اوروبا عند الطور القبلى لايتجاوزونه . وكان مرجع ذلك ان اليهود فى اوروبا كانوا محاصرين بتعصب كنسى يظن ان له عند اليهود تأثرا قديما : صلب المسيح . من أجله طردهم فيليب اوجست من مملكته . ومن اجله أمر البابا انوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم . ومن اجله احرقت كتب اليهود فى الميادين العامة . وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح الاستغلالى الفتاك الذى يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا ، كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلى ، فهى تحرمه فيما بين اليهود وتبيحه اذا كان ضحيته غير يهودى .وعن طريقه مول اليهود فى اوروبا امراء الاقطاع فى حروبهم التى لاتنتهى وفى ترفهم الذى لايشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد الفعل تحديد اقامتهم فى اماكن خاصة وتحريم كثير من انواع النشاط المنتج عليهم .

أيا ماكان الامر فان اليهود فى اوروبا ظلواحتى نهاية القرون الوسطى فى الطور القبلى بكل خصائصه التى عرفناها . ثم جاءت الثورة الليبرالية فاطاحت بالتعصب الكنسى ، وانهت قضية الثأر القديم ، بل وأدت، على المستوى الدينى ذاته ، الى لقاء بين المسيحية واليهودية فى المذهب البروتستنتى، وتجسد كل هذا فى اعلان حقوق الانسان الذى اصدرته الثورة الفرنسية التى حرصت على الغاء كلمة الدين من اية وثيقة دستورية . وكانت فى كل هذا نموذجا للثورات التحررية التى عمت اوروبا وانهت عهد الاقطاع . وهكذا ، بعد تخلف حضارى طويل ، فتح باب التطور واسعا امام اليهود ليغادروا الطور القبلى ويندمجوا فى المجتمعات الاوروبية التى يعيشون فيها . وقد غادرته الكثرة الغالبة منهم خاصة فى اوروبا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين فى مجتمعاتهم ، وتخلف عن الركب الحضارى قلة قليلة متناثرة فى اوروبا الشرقية المتخلفة بدورها . وقد كان من الممكن ان ينتهى الامر بتلك القلة الى ان تتطور وينتهى عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التى جاءت بالتسامح الدينى فى ظل " الاخاء والحرية والمساواة" قد جاءت ايضا بالنظام الراسمالى . بقانون المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أى التزام من قبل المجتمع الذى ينتمون اليه .ثم بعدم تدخل الدولة فى النشاط الفردى على اساس أن " مصلحة المجتمع ستحقق حتما وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته" بحكم القانون الطبيعى . واخيرا باباحة الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادى والادبى طبقا للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة :" القانون لايحمى المغفلين " . فأتاحت الراسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة أوسع الفرص لتجسد ـ ايجابيا ـ عداءها القبلى " المقدس" للشعوب بوسائل أصبحت مشروعة فى ظل الليبرالية . وتحول كل " جيتو" الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعاد لكل ما ومن ليس يهوديا . وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنية " المؤمنين " بامتيازهم فى مجتمعات يرفضون الانتماء اليها . فى ظل نظم تبيح لهم الاستغلال ليفرضوا سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهى كل هذا الى أن يصبح اليهود فى المجتمعات الراسمالية سادة " المال" المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك . ان هذا امر جدير بالتامل لماذا يفضل اليهودى عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لوكان مثله الاعلى هو" تاجر البندقية" ألأن تلك الصنعة التى احتقروها فأتقونها فى ظل الاقطاع ؟ ام لان عنصر المال هو ، فى التحليل الاخير ، مناط السيطرة فى الاقتصاد الرأسمالى؟ .. ام لان " الفائدة" أكثر ضمانا من " الربح" ؟.. قد يكون السبب واحدا او اكثر من هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا فى تقاليد " حرفية " كما كان الامر بالنسبة الى الصناعات الاخرى فى ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول " حرفة " واحدة يكررونها ويتوارثونها ، ولكنه مابقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا لانه لايتفق مع العنصرية القبلية الموروثة . ذلك لان النظام الراسمالى فى نشأته كان نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعى الذى كان سائدا فى اوروبا من قبله . وقد استطاعت الراسمالية ان تحول المجتمعات الاوروبية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان ترسى حضارة مادية وعملية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعى يمثل هذا الجانب الايجابى البناء من آثارها . ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التى كانت ثمرة الجمود العنصرى الذى تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود فى اوروبا ، حالت دون أن يجد اليهود فى البناء الاقتصادى ومايصاحبه من تقدم اجتماعى ما" يغريهم" فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا " المصانع" لانها أدوات البناء الاجتماعى . وسيختارون بعد ذلك الصحافة والاعلام عندما تصبح ادوات السيطرة . وسيختارون الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا استعمال المال والصحافة والاعلام فى المجتمعات التى عاشوا فيها . كل ذلك لسبب بسيط هو انهم لايعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا فى بنائها بل يعتبرونها اعدائهم فعليهم بأمر " يهو" ان يسيطروا عليها او يخربوها . ان هذا يفسر ـ فيما نعتقد ـ الصورة الاوروبية لليهودى الجبان الذليل الخائن .. وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأى دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجدالعدوان ويقيم امتيازاتهم على القوة الجسدية التى من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة وقبول المذلة تعبيرا عن رفض اليهودى مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوى " قيدوا أرجلهم وانتم راكعون" . باختصار يلتزم اليهودى قيمه القبلية الخاصة ويرفض الا لتزام بقيم المجتمع الذى يعيش فيه فيبدو شاذا فى مجتمعه لانه يرفض الاندماج فيه .ولايرى هو فى موقفه شذوذا لان الانعزال عن " الغرباء" والعداء لهم فضيلة قبلية .

على أى حال ، عندما انتبهت الشعوب الاوروبية الى الاستغلال الراسمالى الذى ابتلع أو كاد المكاسب التى كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك" الطائفة" القبلية التى تقاوم التطور الحضارى وتجسد الكراهية والاحتقار لكل من لا ينتمى اليها ، وتتآمر خفية فتصطنع لها لغات خاصة لايعرفها غيرها ( البيدش فى شرق اوروبا وهى مشتقة من الالمانية واللادينو فى غرب اوروبا وهى مشتقة من الاسبانية).وقبل هذا وفوقه تمول النظام الراسمالى وتدير حركته الاستغلالية من مقاعدها فى البنوك . وكان للمستغلين الراسماليين من غير اليهود مصلحة لاشك فيها فى ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الراسمالى الاستغلالى فاشتركوا بوسائل شتى فى تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ، وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادى والاجتماعى الذى تعانيه الشعوب ، حتى تخرج الراسمالية بريئة . وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم التى عرفت باسم " معاداة السامية " .اما لماذا السامية مع ان يهود اوروبا ليسوا ساميين ، فلانهم لو اسموها " معاداة اليهودية " لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التى تروجها الراسمالية المنافقة . وهكذا نمت مشكلة اليهود فى اوروبا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الراسمالية المستغلة .

ولم يكن حل المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة القبلية واندمجوا فى مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضى ان تتحرر الاقلية اليهودية من اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلى لتندمج فى المجتمعات التى تعيش فيها كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية مطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع عشر تمثل الامل الاجتماعى الذى تنتهى به ، والى الابد، كل انواع القهر .كان ذلك هو الحل التقدمى لمشكلة اليهود فى اوروبا ومشكلة المجتمعات الاوروبية بما فيها من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت أقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور وتتحالف مع الراسمالية الاستعمارية التى تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات المتخلفة .

وشهد عام 1897 مولد منظمتين من العنصريين اليهود . كل منهما منظمة "
صهبيونية " . تحاول المنظمة الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنجح الى حين فتقوم فى الارض العربية دولة عنصرية فى سنة 1948 .

اما المنظمة الاولى فهى " الاتحاد العام للعمال اليهود فى روسيا وبولندة" ( البوند) . ويلاحظ منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم فى كل من روسيا وبولندا اى بدون اعتداد بالانتماء القومى لأى من الامتين الروسية والبولندية لانهما تعتبران " اليهودية" رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصرى . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف الاشتراكية وقد اصبحت جزءا من" حزب العمل الاشتراكى الديموقراطى الروسى " القائم على منطلقات فكرية ماركسية . فقد تشكل " البوند" سنة 1897 كواحدة من المنظمات العديدة التى كانت تكون ماعرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية فى شرق اوروبا . وقد اجتمعت تلك المنظمات فى سنة 1898 واتفقت على ان تتوحد فى "حزب العمل الاشتراكى الديموقراطى الروسى" الذى تم انشاؤه فعلا فى المؤتمر الثانى ( التأسيسى) الذى انعقد فى بروكسل ثم فى لندن سنة 1903 . وفى ذلك المؤتمر التأسيسى اقترح ممثلو " البوند" ان يكون هو الممثل " للبروليتاريا" اليهودية داخل اطار" الحزب الاشتراكى الديموقراطى الروسى" الذى يجب ان يقوم على اساس فيدرالى . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى ان " الفيدرالية" تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو " البوند" من المؤتمر ، وحدث الا نشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكنهم بقوا اعضاء فى الحزب حتى المؤتمر الرابع ( التوحيدى) الذى انعقد فى ستوكهلم سنة 1906 وفيه حصل " البوند" على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود . فى ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و" الشلل" التى تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة ، وكان " البوند" واحدا منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة اخرى لم تنتصر بعد فى الصراع ا لايدولوجى الذى كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ماعرف باسم " المسألة القومية " . ولما لم تكن ثمة " نظرية ماركسية فى القو مية " ، وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا . ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضى وحدة كل الماركسيين والاشتراكيين لان الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهى بالفشل سنة 1907 . ولقد شن النظام القيصرى بعد فشل الثورة ، حرب ابادة وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها او رحبوا بها .وكانت مجزرة . هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه . ثم يعود لينين سنة 1917 ليقود الثورة مرة اخرى وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة 1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة اخرى من اليهود " الاشتراكيين " . اولئك الذين قدموا لنا أمثال ويزمان وبن جوريون وشاريت . ولنا هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ماقيل من ان حرب الابادة التى شنها القيصر بعد فشل ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من اعداء السامية ، وهو غير صحيح ، فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا " البوند" نفسه هم القوى الاساسية او الوحيدة فى ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى الاشتراكية التى هاجرت بعد فشل الثورة او نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث ا ن اجتمعت فى ساحة ثورة 1917 المنتصرة . الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند . فما ان غادروا ارض" الوطن" حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا مع القوى الاستعمارية . الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من العنصرية الذين بقوا فى الاتحاد السوفبيتى بعد نجاح الثورة وأسهموا بى بناء الاشتراكية قد اندمجوا فى مجتمعهم بيسر ذى دلالة قوية على ان مشكلة اليهود فى اوروبا هى مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان يتحرر اليهود من التخلف القبلى ويتحرر المجتمع من الاستغلال الراسمالى حتى تنتهى المشكلة . وليس ادل على هذا من ان الاتحاد السوفيتى يضم جمهورية خاصة باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود فى كل مكان من الاتحاد السوفيتى بدون ان توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية على اصحابها افضل الحلول لتى قدمتها اوروبا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين . وكيف انهم فى الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ، ويعيشون فى جماعات متماسكة ، وينتهجون الاسلوب الجماعى فى الانتاج ؟ .. كيف يتفق ان يكونوا عنصريين مايزالون فى مرحلة الطور القبلى وهم ـ فيما يبدو ـ ماركسيون او اشتراكيون ؟..

هذه هى الخدعة التى لايمكن اكتشافها من منطلق مادى على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انسانى قومى " ينظر الى المجتمعات خلال حركتها الجدلية التى لاتتوقف من الماضى الى المستقبل" . ان بين المجتمع القبلى العنصرى اليهودى والمجتمع الاشتراكى تقاربا فى اسلوب الانتاج الجماعى . ولكن علاقات الانتاج الجماعى مرتبطة بالطور الذى يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها . والماركسيون اول من يجب ان يعرف هذا فعندهم يبدأ التطور الاجتماعى بالشيوعية الاولى وهى اكثر مراحله انحطاطا وينتهى بالشيوعية الاخيرة وهى اكثر مراحله تقدما . وفى كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع ذلك لاينخدع احد فى الفارق الحضارى بينهما . فاذا كان اليهود فى الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون فى جماعات متماسكة فلأن ذاك هو اسلوب الانتاج القبلى . ويمكن التمييز بين مااذا كان اسلوبا قبليا او اسلوبا اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانطلاق الداخلى والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردى وعندما يكون انسانيا سلميا فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردى الى الاسلوب الجماعى الاشتراكى . طبقا لهذا القياس لايكون فى شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة فى الارض المغتصبة ، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من " الجيتو" الى ارض فلسطين لتعيش ذات علاقتها القبلية المتخلفة : التضامن بين افراد القبيلة والعداء للاخرين . والكابوتز المسلح هو القبيلة التى ماتزال تعيش فى القرن العشرين وفى افريقيا الاف من هذه المجتمعات القبلية تعيش معا حياة اكثر جماعية من اليهود فى فلسطين ولايبقول أحد بأنها مجتمعات اشتراكية ولايغير من هذا ان المجتمع القبلى فى اسرائيل يستعمل أرقى أدوات الانتاج تطورا فى هذا الزمان . فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى ادوات القتال فى زمانها ومع ذلك ظلت فى طورها القبلى . وتستعمل كل الشعوب ـ الان ـ أدوات انتاج متشابهة فى تقدمها الفنى ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان " كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعى" ثم ان " التفرقة العنصرية " المعترف بوجودها فى مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى ماوصل اليه العلم ليست الا المميز القبلى للمجتمعات التى تعيش فى ذلك الطور المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ثم ان لدينا فى الوطن العربى دويلات من أسر قبلية تعيش على ماينتجه الامريكيون . ان الجماعية ـ اذن ـ هى التى كانت تغرى كثيرا من العنصريين اليهود اعتناق الماركسية . ولكن الماركسية ليست عنصرية . وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل اشتراكى أن ينظر الى المجتمعات نظرة أشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته. عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين فى الارض العربية المغتصبة يعيشون فى الطور الاجتماعى اللاحق للشيوعية البدائية وليس الطور الاجتماعى السابق على الشيوعية الاخيرة وانهم ـ بالتالى ـ عندما يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالى . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان دليلا واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية . وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم من الاحزاب وهو مانلاحظه فى مراحل الليبرالية الاولى ـ ويدخلون مرحلة الرأسمالية وآيتها التحالف الذى يزداد يوما بعد يوم مع الراسمالية الغربية وهذا لاينفى ان جماعات من الراسماليين المتحررين من القبيلة اليهودية تعيش فى اسرائيل او تحالف الصهاينة خاصة منذ أصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا . ولكن أن يكون فى الارض المغتصبة عنصرى واشتراكى معا ، أوأن يعيش الاشتراكيون فى ظل الروابط القبلية التى نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لاتستحق الا السخرية ..

المهم أن الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى قدمت للعنصريين اليهود أفضل الحلول التقدمية ليغادروا الطور القبلى. قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع فرفضوها … لماذا ؟..

هنا يأتى دور المنظمة الثانية التى ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية . انها المنظمة " الصهيونية " التى تأسست فى مؤتمر بال وحددت هدفها بأنه اقامة دولة لليهود فى فلسطين . وجمعت العنصريين اليهود فى اوروبا الغربية . وهى المنظمة التى سينضم اليها أصحاب تجربة " البوند" والتى ستحقق نجاحا مطردا فى مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل فى سنة 1948 . انها المنظمة التى جمعت شتات " القبائل" اليهودية لتقيم منها دولة قبلية على أرض فلسطين . وأول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت ؟.. وقبل أن نجيب ينبغى ان نذكر ان المجتمعات الاوروبية بالرغم من تقدمها ماتزال عامرة بالجماعات المتخلفة التى لم تتجاوز الطور القبلى . لانضرب قبائل الغجر مثلا . بل نضرب مثلا قبائل اللابيين الذين يعيشون فى السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة فى كل الامم ولنا منها نصيب لاينكر . ومصير كل هذه الجماعات المتخلفة ان تدرك تطور مجتمعاتها . اذن ، فمهما تكن أساطير العنصرية اليهودية كان التطور الاجتماعى فى اوروبا كفيلا فى النهاية بأن ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق بمجتمعاتها ، لولا أن " قوى" اخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه تلك هى القوى الاستعمارية..

ففى اواخر القرن التاسع عشر كان الاستعماريون قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة المحافظة على مواقعهم فيه وكان من أهم وسائل المحافظة على تلك المواقع فى الهند وآسيا الاحتفاظ بقناة السويس تحت سيطرة الاستعماريين وفى خدمتهم على وجه مستقر ودائم . ولم يكن ذلك ممكنا الا اذا حالوا دون ان تقوم فى الوطن العربى دولة واحدة قادرة على ان تقطع الطريق الاستعمارى الحيوى . وقد عرض الامر على مؤتمر استعمارى انعقد فى لندن سنة 1907 ليوصى بما يراه كفيلا بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية . وقد قدم عدة توصيات كان نصيب الوطن العربى منها مايلى :" ان اقامة حاجز بشرى وغريب على الجسر البرى الذى يربط اوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل فى هذه المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة ، وصديقة للدول الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملى للوسائل والسبل المقترحة ". وفى سنة 1937 نشر فى فرنسا كتاب تحت عنوان " الله اكبر " يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة الحركة الصهيونية فى النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه " ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجى وتأثيره فى مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع ان تتحكم فى قناة السويس والطريق الى الهند . اما ذا ظلت فلسطين مستقلة او اصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة فى سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية واخرى على جانبى فلسطين ـ ان دولة صغيرة " حاجزة" تقوم على 100,000 كيلو متر مربع على ضفتى نهر الاردن ستحمى كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية اخرى.. ان توازن القوى حول قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربى . يتوقف على دولة فى فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الا ستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودى ، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة فى هذا الاستقلال وليس العرب . اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج فى دولة عربية كبرى". وهكذاحالت القوى الاستعمارية دون ان تذوب العنصرية اليهودية فى حركة التطور الاجتماعى فى اوروبا ، وغذت تلك العنصرية بأدوات القوة وسهلت لها ان تغتصب أرض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت صفحات التاريخ أكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون أرض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوروبية ولكن بمساعدة الدول الاوروبية وخدمة لمصالحها .. أبعد مايكون عن الحقيقة اذن مايقال من ان اليهود ماجاءوا الى فلسطين الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه . انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا دولة حارسة على المصالح الاستعمارية تحول دون ان تحقق الامة العربية كل ماهى قادرة عليه من تطور اجتماعى فى ظل دولة الوحدة . جاءوا بمساعدة القوى التى لاتريد لهذا الشعب ان يعيش بما يملك . لم يجيئوا لانهم يهود . ولا لانهم اشتراكيون ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لان المجتمع الدولى كان فى حاجة ـ حتى يسود قانونه ـ الى وجودهم فى فلسطين . بل ليقيموا على الارض العربية مخفرا مسلحا يحمى تخلفها ويمنع وحدتها . وهو تاريخ لم يعد فى حاجة الى وثائق بعد ان تطور التآمر مع المانيا القيصرية الى تواطؤ مع الامبراطورية البريطانية الى تحالف يفخر به أصحابه بين الصهيونية والامبريالية الامريكية . ..

هذى هى الصهيونية كما نراها من الموقف القومى وطبقا لنظريتنا القومية . ولو كنا قد استوعبنا نظريتنا هذى لادركنا من أبعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة أكثر مما يدرك سوانا . انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التى علمتنا ان " الامة تدخل مرحلة التكوين القومى باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها) على ارض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلى . ثم تبدأ فى التكوين وتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة فى حلها " . اذن، ولينتبه الشباب العربى ، ان الصهيونية تحاول منذ 1948 أن" تصنع امة" من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ علىارض تكون خاصة بها . ولابد لكى تنجح من أن " تستقر" على الارض و" تختص" بها فترة زمانية كافية تبنى فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها امة . وقد كان عم 1948 هو البداية ولكن لزمان أمامهم مايزال طويلا ، فان الامم لاتتكون فى عشرات السنين فلا تجزع. ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ماتزال ، منذ الاستقلال، أمة فى دور التكوين . ولكن الصهاينة دائبون على تنفيذ مخططاتهم ، ولقد اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها . وعلى ارضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربى واكثر فهى ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق .ولكنهم على اى حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فأصبحت لهم لغة مشتركة . ولو سمح الشعب العربى للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة ، فانهم سيصبحون امة ، شاء الشعب العربى أم لم يشأ ، لان فعالية قوانين التطور حتمية ولاتتوقف على رغبات أحد ، والماضى يمتد تلقائيا فى المستقبل اذا لم يتدخل الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة امة فى فلسطين لن يستطيع أحد ان ينتزعها منهم مرة اخرى , لعل هذا ان يكون واضحا . فانه يحدد لنا التزامات عينية داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل ان تزول دولة اسرائيل .

هذا مانقوله نحن .

فماذا تقول الصهيونية عن نفسها ؟..

اذا كنا سنعود الى الاساطير الخرافية مرة اخرى فلعل هذا لايصدم المعجبين " بالتقدم الحضارى " لاسرائيل ذلك لاننا لانسند الى الصهاينة غير مايقولون . ولانستند من بين من يقولون الا الى مايقوله الصهاينة العلماء الماديون الذين لانظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودى . انهم ـ كما لا بد نتوقع ـ لايقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة . بل يقولون انها حركة قومية . والصهيونية هى ذاتها القومية . اما الامة فهم اليهود فى كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لاينكرون ان ليس لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة ، ولم يشتركوا فى بناء حضارى واحد . كل هذا لاينكرونه . ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة . فالنظرية الصهيونية فى الامة والقومية تقوم على اساس أن وحدة الثقافة ، والتاريخ الثقافى هما المميز الاساسى للامة . فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا فى كل ثقافات العالم ، وكل منهم اسهم بقدر مااستطاع فى ثقافة مجتمعه الذى يعيش فيه ، قالوا ان العبرة بالاتصال التاريخى للثفافة وهذا متوافر فى الثقافة الدينية لليهود منذ الشتات الى الان ، فهم ـ اذن ـ امة . هل هى امة ممتازة ؟.. لا. ان تعبير " شعب الله المختار " هو للتمييز وليس للامتياز . فليكن.. فليس لكل هذا من آثار فيما يعنينا فى هذا الحديث . اذ أن الذى يعنينا هو عنصر الارض . ان كنتم امة الان ، وكنتم دائم امة ، وانتم تعيشون فعلا على الارض وسط مجتمعاتكم فلماذا تتركون " اوطانكم"؟ .. لان تلك المجتمعات لم تقبلنا قط ، انها رفضت انتماءنا اليها وماتزال ترفض وقد تعرضنا فى تاريخنا الطويل لكل انواع الاضطهاد الظاهر ومايزال هذا الاضطهاد مستترا . حتى الذين اندمجوا ـ كما يقال ـ فى مجتمعاتهم يشعرون بالغربة واذا كانوا يرفضون الانتماء علنا الى الحركة القومية ( الصهيونية) فلانهم يخشون ان ينفجر العداء الكامن ضدهم فهم يساعدونها خفية او علنا تبعا للظروف . واذا كانت الحركة الصهيونية لاتضم الا القلة من اليهود فلان تلك هى القلة الواعية انتماءها القومى فهى الطليعة المنظمة التى تقود الحركة القومية ، وآجلا أو عاجلا، ، سينضم اليها كل اليهود .اذا كان الامر كذلك فلماذا لاتقاومون الاضطهاد فى مجتمعاتكم ولو بالتحالف مع باقى المضطهدين هناك بدلا من الفرار ؟.. لافائدة ان الحل الوحيد ان تكون لنا ارض خاصة نقيم عليها مجتمعنا ونعيش فيها حياتنا . لماذا اذن لم تقبلوا الاقامة فى الارض الخالية لتى عرضت عليكم فى اوغندا ؟. لاننا نريد ارض فلسطين ؟

لماذا فلسطين بالذات ؟..

هنا يعود المثقفون ، العلماء، المتحضرون ، الماديون، التقدميون الى الاساطير . اننا نلخص ماقالته نخبة مختارة من هؤلاء جميعا ونشره سارتر فى عدد خاص (991صفحة) من مجلة "الازمنة الحديثة"فى يونيو 1967 . قالوا ان الثقافة اليهودية التى هى مناط التكوين القومى للامة اليهودية قائمة على عدة اساطير دينية وميتافيزيقية . هذا صحيح . ولسنا نحتج بصحتها العلمية وانما نحتج بالاثار الاجتماعية التى احدثتها تلك الاساطير فى الجماهير اليهودية وصاغت بها تكوينها الاجتماعى . فمثلا تلقى اليهود من الله وعدا بأن تكون لهم أرض فلسطين . هكذا جاء فى التوراة " لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " ( سفر التكوين ، اصحاح 15 ، اية 18) . ومنذ ذلك الحين انقضت عشرات القرون . لاننكر اننا خلالها لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وان شعبا عربيا هو الذى كان يعيش عليها ، ولكن هذا لايغير من الواقع شيئا . والواقع انه طوال تلك القرون يعيش اليهود فى الشتات على أمل العودة الى ارض " الميعاد" كأثر من آثار ايمانهم الدينى بأن تلك هى الارض التى وعدهم الله بها . وبصرف النظر عن الجانب اللاهوتى فان الاثر الاجتماعى كان ومايزال قائما يصوغ حياة اليهود نفسيا واجتماعيا ويرددونه فى اجتماعاتهم وفى صلواتهم ويذكرون به فى كتبهم ويقوم محورا فى ثقافتهم القومية : ان ارض تمتد من الفرات الى النيل هى ارضهم . هذا هو الذى ابقاهم امة لم يذوبوا فى الامم الاخرى بالرغم من توالى الاجيال وهم فى الشتات وهذا هو الجانب المهم من الاسطورة لاننا قد نكذب الاسطورة ولكنا لانستطيع ان ننكر او نتجاهل اثرها الاجتماعى . وقد اخذ علينا الناس ماقاله بعضنا من ان فلسطين ارض بلا شعب فلابد من ان تعطى لشعب بلا أرض ولو فهمونا لما أخذوا علينا مانقول . فالعبرة عندنا ليست بالصلة المادية التى تتمثل فى اقامة شعب" غريب" فى ارضنا ولكن العبرة بالصلة الروحية بيننا وبين الارض . ومهما تكن الارض عامرة بمن يقيم فيها فانها خالية بالنسبة الينا الى ان نعود اليها نحن اصحابها . ان تلك الصلة لم تنقطع ابدا فلم ينس اى يهودى ارض فلسطين والعودة اليها ولايقال لنا ان ذلك ايجابا ذاتيا من ناحيتنا فان القبول الذى تتم به الصلة قد جاء من الارض ذاتها فلو راجعنا التاريخ لتبين لنا على وجه لايمكن انكاره حتى لو لم يستطع العلم اثباته ان ارض فلسطين لن تمنح كل عطائها الا لنا نحن اليهود الموعودين بها وهكذا لن تستطيع الامة اليهودية ان تسهم بكل ماهى قادرة عليه فى التقدم الحضارى الا على ارض فلسطين ، ولاتغنى عنها ارض اخرى كما ان ارض فلسطين لن تقدم كل ماتنطوى عليه من عطاء لا للشعب اليهودى ، ولايغنى عنه شعب آخر . انما تثور المشكلة لان الدول العربية لاتريد ان تقبل المهاجرين من ارضنا فى اراضيها الواسعة التى هى فى اشد حاجة الى مزيد من البشر . وبدلا من هذا تبقى عليهم فى المخيمات ،وتستعملهم " كورقة سياسية" فى مناوأة دولتنا لانها لاتريد ان تعترف بوجودنا فى حدود امنة وفى ظل علاقة جوار نتبادل خلالها الخبرات لنحقق التقدم الاجتماعى فى " منطقتنا " . وماهى حدود دولتكم طبقا لدستورها؟ صمت مطبق .لان اسرائيل " الدولة المتحضرة ".. تستغنى بالتوراة عن الدستور . وهى دولة مسالمة فلا تريد ان ترسم لذاتها حدود اكتفاء بما نقلته على جدار الكنيست من اساطير التوراة " من الفرات الى النيل" . اما عن تهمة خدمة المصالح الاستعمارية والتحالف مع الامبريالية . فان الصهيونية تتحالف مع من يحالفها مرحليا ولكنها لاتخدم الا غايتها ولولا عند الدول العربية ورفضها الاعتراف باسرائيل وتهديدها بالقاء اليهود فى البحر لما استمر تحالف اسرائيل مع الامبريالية . فما على العرب الا ان يعترفوا باسرائيل ويقبلوا التعامل معها حتى تستطيع " القوى التقدمية " فيها ان تحرر اسرائيل من ذلك الحلف لتتحالف مع القوى التقدمية العربية فى سبيل مستقبل اكثر تقدمية للجميع . هذه الخلاصة الاخيرة منقولة مما كتبه الذين يدعون ألآِشتراكية هناك.

هذا مايقوله الصهاينة " العلمانيون" بعد عشرين عاما من قيام اسرائيل على الارض لعربية . اما مايقوله الصهاينة المتدينون فهو اقل علما بكثير ومع هذا فهم لايختلفون جميعا فيما يهمنا.. ومايهمنا هنا هو ان نعرف نوايا ومخططات الصهاينة بالنسبة الى ارضنا العربية . فكلاهما يرى:

أولا: ان اليهود فى جميع انحاء العالم أمة . وان الصهيونية قومية . وان الحركة الصهيونية حركة قومية غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربى ، ويكون علينا أن نستنتج انهم يريدون الارض خالية من البشر لانها لازمة لاقامة الشعب اليهودى . وهذا مارسوه فيما اغتصبوه من أرض حتى الان . وهم يريدونها لاستقبال الشعب اليهودى كله الذى يبلغ 12 مليونا . وهذا ما أرسوا قاعدة ممارسته بقانون " العودة" الشهير الذى يمنح كل يهودى الجنسية لاسرائيلية بمجرد الاقامة فى اسرائيل . وبالتالى فهم يريدون أرضا خالية من البشر تتسع لسكنى الشعب اليهودى كله فهى لابد أن تمتد الى أضعاف أضعاف أرض فلسطين . وهذا يمارسونه بقدر مايستطيعون . ولما كانت الارض التى يريدونها ليست محددة بقدرتها على استيعاب الصهاينة الذين يهاجرون الى اسرائيل ولكن محددة على اساس انه " الوطن القومى" للامة اليهودية فان حدودها لابد من أن تكون مطابقة " للحدود التاريخية" لارض اسرائيل . وهذا مايمارسونه مرحلة مرحلة ولن يتوقفوا دونه قط طالما كانوا قادرين . نريد أن نقول انه طبقا لذات " النظرية" الصهيونية التى يلتقى عليها الصهاينة ويلتزمون بها فى الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف ويثيرون تحت لوائها مشكلة فلسطين ، فان مشكلة فلسطين ، كما ينبغى ان نفهمها حتى من نوايا اعدائنا، هى مشكلة أرض عربية يريدونها خالية من الفرات الى النيل.






الوحدة العربية ومعركة تحرير فلسطين

د. عصمت سيف الدولة





منذ أن اغتصبت الصهيونية جزءا من الارض العربية فى فلسطين سنة 1948 … رفع فى الوطن العربى شعار يقول ان الوحدة هى الطريق الى تحرير فلسطين ".على أساس من القول بأن دولة الوحدة هى القادرة ـ وحدها ـ على أن توفر المتطلبات المادية والبشرية والاستراتيجية الكافية لتصفية دولة اسرائيل فى معركة قصيرة تضع فيها العالم أمام الامر الواقع . وكان لابد من أن تتحرر الدولة العربية أولا حتى تقيم الوحدة فتحرر فلسطين ... وهكذا كانت هزيمة 1948 . التى عرفت باسم " النكبة " محركا أول لقوى التحرر العربى التى استطاعت خلال العشر سنوات التالية أن تجلى الجيوش المحتلة عن كثير من أجزاء الوطن العربى . ومع كل خطوة تحررية كان يبدو كما لو كان موعد الوحدة قريبا . وأن الارض المغتصبة من فلسطين فى طريقها الى الحرية . وبلغ التفاؤل ببعض العرب حد دراسة تفاصيل الوحدة التى هى الطريق الى تحرير فلسطين فقيل أنها تلك التى تقوم فيما بين الدول العربية المحيطة بالارض المحتلة وأسموها " دولة الوحدة الطوق" .وظل ذاك الشعار سائدا الى ان تحققت الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . وانتظرت الجماهير العربية فى كل مكان أن توفى دولة الوحدة مسئولياتها فتكمل الطوق أو تحرر فلسطين .. وطال الانتظار الى أن وقع الانفصال سنة 1961 . وقع سهلا بدون مقاومة . وقبل سريعا بدون انتظار . وثبت من كل هذا أن الامل الذى عقد على وحدة 1958 فى تحرير فلسطين كان أملا غير واقعى ومتسرعا معا . اذ أن وحدة 1958 لم تفشل فى تحرير فلسطين فحسب ، بل فشلت حتى فى الحفاظ على وجودها . ومنذ سنة 1961 التقت أغلب القوى فى الوطن العربى ، وفى العالم ، على محاولة دفن قضية الوحدة وقضية تحرير فلسطين معا تحت ركام من الصراعات الدولية والاقليمية . الى أن جاء حزيران ( يونيو ) 1967 فاذا بالقدر الاكبر من القوة العربية يقاتل متراجعا فى صحراء سيناء بينما كان قد تقدم اليها دفاعا عن دمشق .

وكان ماكان .

وكان طبيعيا أن تعصف هزيمة حزيران ( يونيو ) بكثير مما كان سائدا فى الوطن العربى من أفكار واتجاهات ، وأن تثير الشك فى مبررات وجود كثير مما كان موجودا من قوى ونظم ، وأن تشيع اضطرابا شديدا فى المقدرة على رؤية المستقبل الذى كان يبدو ـ حينئذ ـ حالك السواد . غير أننا الان . وبعد مايقارب ثلاث سنوات من الهزيمة نستطيع أن نرى بوضوح أن ليس كل ماكان فى حزيران ( يونيو ) 1967 كان سيئا .

لقد كان اسوأ مافيه أن الامة العربية ، ذلك الطرف الاصيل الذى لم يكن ممثلا فى المعركة ، قد دفعت من أرضها ، وأبنائها ، وكرامتها ، ثمنا فادجا لاخطاء القوى الاقليمية . غير أنه فى مقابل هذا كشفت الهزيمة العاجلة للدول العربية عن عجزها الذى لا مفر منه عن تحرير فلسطين . وأدى هذا الى أن دخلت الجماهير العربية ساحة المعركة فى يومى 9و10 حزيران ( يونيو ) 1967 لتفرض الصمود أولا . ثم لتستمرفى القتال بعد هذا فى شكل منظمات جماهيرية مسلحة . وهذا كسب لاشك فيه . فلأول مرة فى التاريخ العربى المعاصر توجد فى الارض العربية قوة مقاتلة لاتحمل هوية أية دولة عربية .

هذا من ناحية ..

ومن ناحية أخرى انهار الزكام الذى حاولت قوى كثيرة أن تدفن تحته قضية تحرير فلسطين . لم يعد أحد يذكر الاسباب التى كانت ذرائع القتال فى حزيران ( يونيو 1967) . ونسى الناس خليج العقبة وحق المرور فيه . وتجاوزت المعركة ازالة آثار العدوان . وفرض على الدول العربية الا تسترد أرضها الى أن تحدد لها موقفا صريحا من تحرير فلسطين . وهكذا برغم كل شئ. برغم المناورات ، وبرغم التآمر ، وجد جميع الاطراف أنفسهم وجها لوجه أمام حقيقة المعركة : أما الوجود العربى واما الوجود الا سرائيلى فى فلسطين،وهو كسب لاشك فيه . .كسب من حيث أننا قد عرفنا ، ولو بعد دفع ثمن فادح للمعرفة ، أن أحدا فى الوطن العربى لايستطيع أن يزعم لنفسه الحرية قبل أن تتحرر فلسطين .أو أن يحلم احلام الرخاء فى جوار الوجود الاسرائيلى فى فلسطين .

وعندما فرضت معركة تحرير فلسطين ذاتها على الناس ، عاد الحديث عن علاقة الوحدة بتحرير فلسطين . ورفع فى الساحة شعار مختلف يقول:":ان تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هى الطريق الى تحرير فلسطين ". وزاد أصحابه فأسموه " استراتيجية ".

وهو قول غير واقعى ، ومتسرع معا .

أما انه غير واقعى فلان القوى المعادية هى التى بدأت معركة احتلال جزء من الارض العربية فى فلسطين سنة 1948 وفى غيبة دولة الوحدة . . وهى التى بدأت معركة تأمين الوجود الاسرائيلى سنة 1956 وفى غيبة دولة الوحدة .ثم انها هى التى بدأت معركة فرض الاعتراف بدولة اسرائيل سنة 1967 وفى غيبة دولة الوحدة أيضا . فحتى لو كانت هزيمة الدول العربية فى حزيران ( يونيو ) سنة 1967 ، ورفض الجماهير العربية للهزيمة واستمرارها فى القتال ، قد حول المعركة مما أراد بها الصهاينة الى معركة تحرير فلسطين ، فان هذا لايغير شيئا من حقيقة أن العدو هو الذى اختار وحده تاريخ المعركة ، وفرضها فى الوقت الذى اختاره وحده . وعلى هذا يمكن القول بأن القوى المعادية قد استعجلت معاركها سنة 1948 وسنة 1956 و سنة 1967 لتثبيت الوجود الاسرائيلى " داخل حدود آمنة ومعترف بها " فى غيبة دولة الوحدة لان تلك القوى تعرف أن الوحدة العربية هى الطريق الموثوق الى تصفية الوجود الاسرائيلى وتحرير فلسطين ،وأن غيبة دولة الوحدة تقدم لها أكثر الظروف ملاءمة لتحقيق غاياتها العدوانية .

ان هذا يبدو لنا أكثر اتفاقا ، واتساقا ، مع الواقع الذى نعرفه ، من الزعم الذى يوحى بأن القوى العربية ، أو أية قوة عربية ، هى التى اختارت أن تبدأ وتخوض المعركة القائمة من أجل تحرير فلسطين وفى غيبة دولة الوحدة تنفيذا " لاستراتيجية " أعدت من قبل على أساس أن " تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هى الطريق الى تحرير فلسطين ".

وهو قول متسرع ، لان أصحابه لم يصبروا على أنفسهم ، ولا على الظروف حتى يتبينوا :أولا ـ مااذا كان النضال القائم فى سبيل تحرير فلسطين سيحقق غايته فى غيبة دولة الوحدة أم أن تطورات المعركة المسلم بأنها طويلة ومعقدة ، وصعبة ، ستضعهم ـ ربما أقرب كثير مما يتصور الكثيرون ـ أمام خيار حيوى : فاما اقامة دولة الوحدة التى توفر لهم العمق الاستراتيجى اللازم لمواصلة القتال واما هزيمة اخرى . وحتى يتبينوا ـ ثانيا ـ مااذا كان بعض المناضلين فى سبيل تحرير فلسطين سيكفون عن القتال ليقيموا على الارض المحررة دولتهم الفلسطينية المسماة " ديموقراطية " أم أنهم سيواصلون القتال الى أن تقوم دولة الوحدة الديموقراطية .

ذلك لانه اذا كانت المعركة تدور الان فى ظل تأييد ودعم " حلف الخرطوم " الذى انعقد بين الدول العربية فى آب ( أغسطس) سنة 1967 من أجل " ازالة آثار العدوان " فان هذا الحلف موقوت ـ على أحسن الفروض ـ بغايته . وعندما تنتهى مرحلة " ازالة آثار العدوان " . على أى وجه تكون نهايتها ، يكون الحلف قد استنفذ اغراضه فينفض . حينئذ تبدأ " فعلا " معركة تحرير فلسطين . ولم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف تستمر المعركة وقد كفت الدول العربية ، راغبة أو كارهة ، عن دعم المعركة . وأغلقت حدودها . وصفت أو حاولت تصفية قواعد المناضلين ؟.. نقول كيف تستمر الا اذا سقطت الاقليمية العربية المتراجعة واقيمت على انقاضها دولة عربية توفر للقتال أسباب الاستمرار حتى النصر . انها عندئذ دولة الوحدة النواة أو نواة دولة الوحدة .

ومن ناحية أخرى ، لم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف يكون تحرير فلسطين طريقا الى الوحدة العربية خاصة اذا كان ذلك الشعار المسمى " استراتيجية " متضمنا كهدف اقامة دولة فلسطين المسماة " ديموقراطية " كيف تكون تلك الدولة الاقليمية طريقا الى الوحدة العربية ؟.. ماهى المعطيات الجديدة المتوافرة أو التى يمكن أن تتوافر لدولة فلسطين . ولم تكن متوافرة لدول عربية كثيرة تحررت ولم تتوحد . ان كل مانعرفه من المميزات الخاصة بدولة فلسطين المسماة " ديموقراطية " هو ان نسبة اليهود غير العرب فيها سيكون أكبر منها فى أية دولة عربية أخرى . فهل يصلح هذا سببا جديدا لتكون طريقا الى الوحدة ؟..

ان هذه اسئلة لاتكفى النوايا ـ ولو كانت حسنة ـ للاجابة عليها .

أين الحقيقة اذن ؟.

هل ثمة علاقة بين الوحدة العربية وتحرير فلسطين ؟ وان وجدت فما هو مضمونها ، وأين تقع ، وكيف تتجسد فى هذه المرحلة التاريخية التى يمر بها النضال العربى ؟.

فى الاجابة على هذه الاسئلة نجتهد بقدر مايطيق هذا الحديث المحدود .

عندما يكون الحوار دائرا بلغة واحدة ثم لاينتهى الى اتفاق فلابد من أن يكون ثمة خلاف فى مضامين الكلمات التى يستعملها المتحاورون . وتكون الخطوة الاولى أن نعرف مايعنيه كل طرف بالكلمات التى يقولها . والحوار حول علاقة الوحدة بتحرير فلسطين يدور بين الذين ينكرون الوحدة ولاينكرون تحرير فلسطين ، فلابد اذن من أن يكون ثمة خلاف بين مايعنيه كل منهم " بالوحدة العربية " أو " بتحرير فلسطين ".

ونحن نعتقد أن مرجع الغموض وعدم التحديد فى هذه العلاقة الى الذين يتحدثون عن الوحدة العربية أو أنهم هم المسؤولون عن القدر الاكبر منه . ولولا هذا لما رأينا أن كل الناس - فيما يقولون - راغبون فى الوحدة العربية ومن دعاتها ، ومع ذلك ماتزال الوحدة أبعد الاهداف العربية عن التحقق . بل أن أغلب الناس لايعرفون كيف تتحقق وماهو الطريق اليها . ولو عرفوا لعرفوا موقع تحرير فلسطين من هذا الطريق .

وآية هذا أن كثيرين من اولئك الذين يتحدثون أو يكتبون عن الامة العربية . وعن القومية العربية . وعن الوحدة .. الخ .حديثا يبدو كالمناجاة الذاتية . ويعز معه الحوار . لاننا لانستطيع أن نعرف مما يقولون كيف عرفوا مايتحدثون فيه الا أن يكون عن طريق شعورهم بالانتماء القومى ، أى حالتهم النفسية ، والشعور بالانتماء القومى دلالة صحيحة على وجود امة ينتمى اليها المتحدث ولكنه لايصلح منطلقا الى تحديد أهداف المستقبل . ونحن نعرف هذا مثلا من قول مطروح ومتردد فى الادب القومى العربى . فى كل الادب القومى العربى تقريبا كما لو كان بديهيا . ذلك القول بأننا مادمنا امة عربية واحدة " فيجب " أن تكون لنا دولة سياسية واحدة . أو أننا مادمنا أمة عربية واحدة " فيجب" أن نساهم جميعا فى تحرير فلسطين . والشعور بالانتماء القومى يبرر أننا امة عربية واحدة. اما لماذا " يجب" مابعد هذا فلا جواب . أو أن ثمة اجابات غير وافية . او اجابات غير صحيحة وان كانت هى ذاتها غير مبررة قوميا . مثل تلك الاجابة التى تقول " يجب" أن تقوم الوحدة لانها الطريق الى تحرير فلسطين ، لان دولة الوحدة ـ وحدها القادرة على توفير المتطلبات اللازمة لتحقيق نصر عسكرى ضد الصهيونية . وهو قول صحيح . ولكن المسألة هى كيف عرفنا أنه صحيح . ان كنا عرفناه عن طريق ممارسة القتال الفاشل عشرين عاما ضد اسرائيل . لاأكثر . ثم تنفض الوحدة بعد أن تكون قد أدت مهمتها . وفى هذه الحالة تكون الوحدة غير لازمة بالنسبة الى الدول التى لاتحيط باسرائيل ، بل وتكون الوحدة العسكرية بين الدول التى تحيط بها بديلا صالحا من الوحدة السياسية لا نها توفر المتطلبات اللازمة للتفوق العسكرى أو يمكن توفرها . بل نزيد فنقول ان حتى الوحدة العسكرية لاتكون لازمة لو احسنت بعض الدول العربية استخدام امكانياتها المتاحة ماديا وبشريا . اذ لو احسنت لكانت قادرة على هزيمة اسرائيل . وفى كل الاحوال ستكون علاقة الوحدة بتحرير فلسطين موضوعا من " صلاحية " العسكريين ، قادة المعركة ، الذين يقررون مضمون تلك العلاقة ، وأين تفع، وكيف تتجسد طبقا لتطورات استراتيجية أو تكتيك القتال ضد اسرائيل .

اما اذا كنا قد عرفنا أن " الوحدة العربية " لازمة لتحرير فلسطين عن طريق البحث العلمى فى تلك الظاهرة الاجتماعية التى تسمى " أمة "واكتشاف العلاقة الموضوعية بين الوجود القومى والوحدة القومية . فان الوحدة تكون لازمة لزوما موضوعيا ، فنلتزمها غاية فى معركة تحرير فلسطين ، وفى غير معركة تحرير فلسطين ، ولانعفى منها أحدا مهما يكن بعيدا عن ساحة معركة فلسطين ، ولانتراجع عنها حتى بعد أن تتحرر فلسطين .

هنا يكون موقفنا من الوحدة وتحرير فلسطين موقفا عقائديا ، وليس موقفا انتهازيا .

والموقف العقائدى القومى يقوم ـ باختصار ـ على خمسة أسس متكاملة :

اولا: ان الامة جماعة بشرية تكونت تاريخيامن جماعات وشعوب كانت مختلفة لغة وتراثا ومصالح ومتصارعة ومتفاعلة خلال ذاك الصراع ، انتهت بعد مرحلة تاريخية طويلة من المعاناة الى أن تلتحم لتكون شعبا واحدا ذا لغة مشتركة وتراث مشترك ومصالح مشتركة . وهذا لاخلاف عليه . انما الخلاف حول الارض الخاصة والمشتركة كعنصر من عناصر التكوين القومى . ونحن نرى أن الاختصاص برقعة مشتركة من الارض هو العنصر الجوهرى المميز للامة . ذلك لان كافة العناصر الاخرى مثل وحدة اللغة التى تركز عليها النظرية الالمانية ، ووحدة المصالح الاقتصادية التى تركز عليها النظرية الماركسية . أو وحدة الثقافة التى تشيد بها الكتابات العربية . أو حتى وحدة الارادة التى تركز عليها النظرية الفرنسية .. الخ .كل هذه عناصر ممكن أن تتوافر ، وأن تجتمع ، لجماعات بشرية لاترقى الى مستوى " الامة " كالمجتمعات القبلية مثلا . انما تجاوزت المجتمعات الطور القبلى ودخلت طور التكوين القومى بالاستقرار على أرض معينة . ثم اكتملت تكوينا باختصاصها بتلك الارض المشتركة ، وبهذا أصبحت أمة .

ثانيا : يترتب على هذا أن الامة تكوين واحد من الناس ( الشعب) والارض ( الوطن) معا . فنحن عندما نقول أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربى لايكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل ( الامة ) الذى يتضمن الجزء ( الوطن ) فالشعب العربى ( الناس ) والوطن العربى ( الارض ) يكونان معا الامة العربية . التى ماتحولت من شعوب لاتختص شعبا بعينه الى أمة الا عندما التحم الشعب العربى بالوطن العربى واختص به ليكونا وجودا اجتماعيا واحدا هو الامة العربية . من هنا ندرك انه عندما يتعرض الوطن العربى ، كله أو بعضه ، للابادة أو الطرد من أرضه . وعندما يتعرض الوطن العربى كله أو بعضه للغزو الاستيطانى أو الاقتطاع أى عندما تقوم أية محاولة لفصل الناس ( الشعب ) عن الارض ( الوطن ) لانكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربى يمكن تعويضهم عنه أرضا بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءا من الوطن العربى يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه ، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومى العربى ذاته .

وهكذا تقدم لنا القومية أول ضوابط الموقف العقائدى من الغزو الصهيونى لفلسطين .

ثالثا : ثم أنه لما كانت الامة تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب فى الوطن هى مشاركة تاريخية تحول من ناحية دون الشعب وأن يتصرف فى وطنه أو جزء منه فى أية مرحلة تاريخية معينة لان الوطن شركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة . وتحول من ناحية أخرى دون أى جزء من الشعب وأن ( يتصرف ) فى الاقليم الذى يعيش عليه أو فى جزء منه بالتنازل عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه ( علاقة خارجية ) وتحول من ناحية ثالثة دون أى جزء من الشعب وأن يستأثر بأى اقليم عن بقية الشعب ( علاقة داخلية ).

ومن هنا نصل الى عدة نتائج هامة وملزمة قوميا . أولها أن فلسطين كجزء من الوطن العربى اقليم مملوك ملكية مشتركة للشعب العربى كله وليس ملكا خاصا لشعب فلسطين . ثانيها؛ ان الشعب العربى كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لايملك الحق فى التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة ، على حرية فلسطين . ثالثهما : ان مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربى كله وليس على شعب فلسطين وحده . رابعا: ان كل الاتفاقات ، او المعاهدات أو القرارات ، والدساتير ، والقوانين ، والمواقف ، والتصريحات ،سواء كانت صادرة من دول أجنبية أو دول عربية ، فى الماضى أو الان أو فى المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قوميا ، فهى ليست حجة على الامة العربية ولاقيدا على حقها فى تحرير فلسطين .

ان الامة كتكوين تاريخى لم تتكون اعتباطا أو مصادفة . بل تكونت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل . فاذا كنا قد بلغنا خلال المعاناة التاريخية الطور القومى ، أى مادمنا أمة عربية واحدة فان هذا يعنى أن تاريخنا ، الذى قد نعرف احداثه وقد لانعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة أفضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معا لتكون أمة عربية واحدة وانها عندما اكتملت تكوينا كانت بذلك دليلا موضوعيا غير قابل للنقض على أن ثمة " وحدة موضوعية " قد نعرفها ، وقد لانعرفها بين كل المشكلات التى يطرحها واقعنا القومى ، أيا كان مضمونها ، وأنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية لايمكن أن تجد حلها الصحيح الا بامكانيات قومية ، وقوى عربية ، فى نطاق المصير القومى . قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بامكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ولكنه لن يلبث أن يتبين ، فى المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافئ مع الامكانيات القومية المتسق مع التقدم القومى ، قد أخطأه عندما اختار أن يفلت بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التى تشكل حلولها المصير القومى الواحد.

وهكذا بينما احتاج الاقليميون الى الهزيمة المرة فى حزيران ( يونيو ) 1967 ليتعلموا أن أحدا لايستطيع أن ينتصر فى معركة التحرر مادامت فلسطين محتلة لايحتاج القوميون الى تجارب مريرة ليعرفوا أن أحدا لن ينتصر فى معركة نحرير فلسطين مادام للاستعمار قدم وقاعدة فى الوطن العربى ، وأن فلسطين لن تتحرر بغير امكانيات قومية ، وقوى قومية ، فى نطاق معركة التحرر العربى واطار المصير القومى .

خامسا : وأخيرا ، فان هذه الوحدة الموضوعية بين المشكلات التى يطرحها الواقع القومى بما نعنيه من أن حلولها الصحيحة المتكافئة مع المقدرة القومية غير قابلة للتحقق الا بامكانيات وقوى قومية فى اطار المصير القومى .تفرض الوحدة العربية كأداة يستحيل بدونها وضع كل الامكانيات والقوى القومية ، واستعمالها ، فى سبيل حل كل المشكلات العربية ، وتحقيق المصير العربى الواحد . ان هذا لايعنى أن الاقليميين ودولهم عاجزون تماما عن تحقيق أى نجاح فى مواجهة المشكلات التى يتصدون لها ، بل يعنى تماما انهم لاينجحون الا مؤقتا وأنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ، فى المدى القصير أو الطويل ، أن الوحدة لازمة لاطراد النجاح أو الحفاظ عليه

وهكذا نعرف من الان . أن فلسطين لن تتحرر فى غيبة دولة الوحدة ، وأنها حتى لو تحررت لن تستطيع أن تحافظ على تحررها الا فى ظل دولة الوحدة . كيف اذن فشلت وحدة 1958 فى تحرير فلسطين ؟ .. لاسباب بسيطة . لانها كانت استجابة قومية ولكنها لم تكن وحدة قومية فشلت فى أن تتحول الى وحدة قومية . كانت اشتراكا بين اقليمين فى الرئاسة وفى الحكومة ، وبقى الاقليمان منفصلين جماهيريا ، واقتصاديا ، وماليا ، وعسكريا فلم تكن تجسيدا لوحدة المصير داخلها . ثم انها اقتنعت بالاقليمين وتوقفت عن الامتداد ، فارتضت التجزئة ولم تجد وحدة المصير خارجها وهكذا انقلبت الى دولة اقليمية فى اقليمين ، بدلا من أن تكون دولة الوحدة النواة ففقدت أساسها العقائدى ومضمونها القومى ، ففشلت .

الى هنا نكون قد عرفنا الموقف القومى العقائدى من الوحدة وعلاقتها بتحرير فلسطين .غير أن هذا لايكفى ، لان الموقف القومى العقائدى تعبير سلبى فى مواجهة الواقع ، ويبقى أن نعرف كيف يحدد قوانا ويضبط حركتها الايجابية ، أى كيف تتحول القومية من وعى على الواقع الى حركة لتغيير الواقع وأين تقع العلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية فى تلك " الحركة " .

وأرجو الا يكون غائبا عنا أن حقيقة المشكلة التى نعالجهاآخذة فى الوضوح خلال الحوار فنحن الان لسنا أمام القضية الشكلية الاولى : أيهما ا لطريق الى الاخر ، الوحدة أم تحرير فلسطين ، بل نحن أمام الحقيقة الموضوعية لتلك القضية ، علاقة النضال من أجل الوحدة بالنضال من أجل تحرير فلسطين .

ولما كانت الحركة النضالية ، أية حركة لتغيير الواقع تتضمن خمسة عناصر هى : المنطلق والغاية والقوى والاستراتيجية والتكتيك ، فسنرى فيما يلى ـ باختصار شديد ـ كيف تحدد لنا القومية العناصر الخمسة للحركة القومية وموقع معركة تحرير فلسطين منها .

(1) اما عن المنطلق فهو محدد بالوجود القومى ذاته ، بالامة كواقع موضوعى ، وبواقع الامة فى مرحلة الانطلاق ، وفى الواقع العربى وقائع كثيرة أولها أننا أمة واحدة ولكن مجزأة و
أن فلسطين جزء من الامة العربية ولكن مغتصبة ، من هنا تكون البداية .

(2) أما عن الغاية فهى محددة بوحدة الوجود القومى التى تعنى اختصاص الشعب العربى كله بالوطن العربى كله ، فيما يتفق مع تلك الوحدة يبقى ومالايتفق معها يجبأن يزول . ولما كانت لصهيونية تغتصب جزءا من الوطن العربى وكانت كل دولة عربية تستأثر بجزء من ذلك الوطن . وكان هذا وذاك لايتفقان مع وحدة الوجود القومى ، فان غاية النضال القومى تكون استرداد الارض العربية من غاصبيها ، والغاء تجزئتها واقامة دولة عربية واحدة عليها، بما فيها فلسطين .

(3) أما عن القوى فمحددة بوحدة المصير القومى . ولما كانت وحدة المصير القومى تعنى أن الحل الصحيح لايمكن أن يتحقق الا بامكانيات قومية وقوى قومية . فان القوى المناضلة من أجل الوحدة لن تكون قادرة على النصر النهائى الا اذا كانت قوى قومية . أى الا اذا كانت مجسدة فى ذاتها هدف الوحدة . وهى لاتكون كذلك اذا قبلت التجزئة الاقليمية فيها ، أى اذا قبلت أن تكون قوى اقليمية ولو كانت متحالفة .

وهكذا تكون وحدة القوى القومية شاملة المناضلين فى معركة فلسطين ، ولكنها تنفى تجزئة القوىالى قوى قومية وقوى فلسطينية .

(4) اما عن الاستراتيجية فهى محددة بالوحدة الموضوعية للمشكلات التى يطرحها الواقع القومى فلابد من أن تكون استراتيجية واحدة تصل بين الواقع القومى والمصير القومى . ولما كانت الوحدة العربية الشاملة لاتقوم الا بعد التحرر الكامل لكل اجزاء الوطن العربى فان التحرر يشكل المرحلة الاولى من استراتيجية النضال من أجل الوحدة . وهى استراتيجية ملزمة للمناضلين فى كل جزء : التحرر كمرحلة اولى من نضال غايته الوحدة . وهكذا تدخل معركة تحرير فلسطين فى نطاق المرحلة الاستراتيجية الاولى من النضال القومى من أجل الوحدة العربية : مرحلة التحرر . ويصبح القول بأن تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة بشرط أن نفهمه على أنه طريق دخول " فلسطين " الى دولة الوحدة العربية .

ومن ناحية أخرى فان وحدة الاستراتيجية تعنى أنه كلما انتصرت القوى القومية فى ساحة معركة ألقت بقوتها فى الساحات الاخرى الى أن تحقق الوحدة العربية الشاملة . وهكذا يكون النضال القومى ملتزما بسحق الاقليمية والغاء التجزئة فى الاجزاء المحررة واقامة دولة الوحدة النواة ثم الدخول بها معارك تحرير وتوحيد باقى الاجزاء وتضاعف المقدرة على النصر ـ هنا ـ لاشك فيه ، ولكن ليس مصدر الالتزام بتحقيق الوحدة النواة والدخول بها معركة التحرير ، بل مصدره الموقف القومى العقائدى . وعلى هذا يصح القول بأن الوحدة هى الطريق الى تحرير فلسطين بشرط أن نفهمه على أنه طريق الوحدة النواة الى الوحدة الشاملة .

(4) أما عن التكتيك فلا يتوقف على القوى القومية . ولكن على ظروف المعارك ،وقوى الاعداء ، وأساليببهم ، وغايتهم ، والقوى القومية مطالبه فى هذا بأن تلتزم الاسلوب العلمى فى المواقع التكتيكية لهزيمة القوى المعادية . ولكن ـ وهذا بالغ الاهمية والخطورة ـ فى نطاق الالتزام الاستراتيجى أى الا تترك للقوى المعادية فرصة استدراجها من خلال المناورات التكتيكية الى خارج خطها الاستراتيجى ، أو أن تندفع هى الى قبول أى نصر تكتيكى يكون على حساب الغاية الاستراتيجية . وهكذا لايجوز أن نتننازل أو نتراجع عن هدف الوحدة العربية من أجل النصر التكتيكى فى أية معركة ولو كانت معركة تحرير فلسطين .

وهكذا يستقيم لنا ـ كما أرجوـ فهم العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين فى هذه المرحلة ، على وجه يمكن تلخيصه فى جملة قصيرة : التحام القوى القومية فى قوة مناضلة واحدة تخوض معركة تحرير فلسطين وتفرض الوحدة فى الاجزاء المتحررة ثم تدخل بها المعركة لتأمين النصر النهائى فى معركة تحرير فلسطين حتى تستطيع أن تكسب فلسطين لدولة الوحدة .

فهل هى علاقة صحيحة ؟

هنا يأتى دور الممارسة لتكون محكا لاختبار صحة المعرفة العلمية .

فماذا تثبت الممارسة ؟.

(5) أما على الجانب العربى فلم يكف أى قادر على الكلام ، منذ حزيران ( يونيو )1967 عن القول بأن معركة تحرير فلسطين معركة عربية ، وأن مسئولية تحرير فلسطين تقع على الامة العربية كلها ، وأن التعامل مع " الواقع الملموس" ـ كما قالت احدى النشرات الصادرة من الجبهة الشعبية أثبتت أنه :" من الواضح أن النضال من أجل تحرير فلسطين ليس مهمة الشعب الفلسطينى وحده بل مهمة الشعوب العربية كلها وان انجاز هدف التحرير وتصفية الكيان الاسرائيلى لايمكن أن يكون الا حصيلة نضال الشعوب العربية كلها فى حرب شعبية طويلة الامد ضد الامبريالية والصهيونية على امتداد الارض العربية .". وأنه مالم تتم تعبئة طاقات الجماهير العربية كلها فان سحق العدوان الاسرائيلى وتدمير جذوره يبقى حلما غير قابل للتحقيق ( الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين ) ـ حركة المقاومة الفلسطينية فى واقعها (الراهن).كلهم كل المساهمين فى المعركة ، قادة ، وقواعد ، وحكومات لايكفون عن الاستغاثة بالمائة مليون عربى ، وتحميلهم مسؤولية معركة التحرير التى لايمكن أن يتم النصر فيها بغير قوة الجماهير العربية . حتى الاقليمية الفلسطينية تدعو الجماهير العربية الى أن تحشد نفسها فى جبهة مساندة .

اذن " فالواقع الملموس" قد أثبت أن النصر لايتم الا بالتحام الجماهير العربية وفاء لمسؤولياتها عن تحرير فلسطين ، وهو صحيح .

ولكن الذين يستغيثون بالامة العربية ، وبالمائة مليون عربى . ويحملونهم مسئولية تحرير فلسطين لم يقولوا شيئا عن حقوق المائة مليون عربى فى فلسطين ( المتحررة ) أو فى ازالة آثار العدوان .لم يقل أحد كلمة واحدة اجابة عن السؤال الذى يهم الجماهير العربية : لماذا يموتون من أجل تحرير فلسطين ؟ أليست المسؤولية هى الوجه الاخر للحق ؟ فأين حق الامة العربية فى فلسطين وكيف يتجسد ؟ ان من أغرب ماقرأنا فى هذا ماقاله اولئك الذين اصدروا نداءهم المنشور عن حلم التحرير الذى لايتحقق الا بنضال الشعوب العربية تبريرا لدخول الجماهير معركة التحرير ، قالوا :لان الجماهير الكادحة لاتملك الحياة ، مع أنها تملك مع الحياة أمل الوحدة والتقدم . ويستغيثون بالجماهير العربية دفاعا عن الكرامة العربية . والكرامة العربية عزيزة وتستحق القتال دفاعا عنها . ولكنها ليست كلمة فارغة ، انها تعنى حياة كريمة مطهرة من المذلة ولايريد أحد أن " يعد" الجماهير العربية حتى بالحياة الكريمة المطهرة من المذلة ولو بعد التحرير ،ربما لانهم يعرفون أن ذلك لايتحقق الا فى دولة الوحدة العربية وهم لايريدون أن يلتزموا بوعد الوحدة بعد التحرير . ان الجماهير العربية ليست بلهاء وقد كان لها فى حزيران ( يونيو ) 1967 عبرة لاتنسى ، فاذا كان أحد يظن أنها ستقاتل حتى الموت الى أن تتحرر فلسطين لمجرد أن يعود الامر فى الوطن العربى الى ماكان عليه قبل حزيران ( يونيو ) 1967 فسيتعلم أن الغباء لاينفع صاحبه أبدا . والغباء وباء فى الاقليمية العربية .بدليل انهم مازالوا يتصرفون على أمل أن كل شئ سيبقى كما كان . بل أن منهم من هو مشغول عن المعركة بمخططات التوسع بعد المعركة فهو يدخر قواه ليبنى فى الارض العربية امبراطوريته الخاصة . وكل هذه أوهام . لا يساويها وهما الا توقع استجابة الجماهير العربية لدعوة الالتحام من أجل الموت لاشئ أكثر ، واستنفارها بالحديث عن المسؤولية بدون التزام بحقها فى الارض العربية ولما كان هذا الالتحام لايتم الا على هدف الوحدة فان هذا " الواقع الملموس " يقدم دليلا من الممارسة على أن النصر لايتم الا بالتحام تحرير فلسطين بالوحدة العربية .

أما عن الجانب الآخر ، جانب القوى المعادية فان الامر أكثر وضوحا . فهى تخوض معركتها ضد الامة العربية وليس ضد أية دولة عربية . وهذا واضح من أن الحركة الصهيونية عندما وضعت مخططاتها لغزو الوطن العربى فى مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن هناك أية دولة عربية قائمة لافلسطين ولاغير فلسطين . قد تصطدم الصهيونية تكتيكيا مع دولة عربية قائمة أو اخرى تبعا لما تتبينه من مخاطر مؤقته . ولكن خطتها الاستراتيجية تستهدف اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل ، بصرف النظر عما هو قائم على تلك الارض من دول أو نظم أو قوى . الغزو الصهيونى موجه اذن الى الامة العربية . فهى الطرف الاصيل فى المعركة وهذا يقتضى أن تكون قواها فى المعركة قوى قومية ملتحمة .

واذا كانت الحركة الصهيونية ذات أهداف محددة واستراتيجية خاصة ، فان من عناصر تلك الاستراتيجية التحالف مع القوة الاستعمارية المتفوقة . تحالفت مع المانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ثانيا ثم مع الولايات المتحدة الامريكية أخيرا ، تبعا لانتقال قيادة الاستعمار العالمى . وللاستعمار العالمى موقف عدائى لم يتغير ضد الوحدة العربية . هو الذى صنع التجزئة ابقاء للتخلف حتى يظل مسيطرا على مقدرات الامة العربية . وهو الذى يحرس التجزئة حتى لاتقوم دولة الوحدة . وهكذا التقت المصالح الاستعمارية مع المصالح الصهيونية لاقامة دولة يهودية على الوطن العربى تحقق أهداف الصهيونية وتحول دون الوحدة معا .

قرأنا كلنا عن تقرير كاميل بونومان سنة 1907 الذى انتهى الى أن حماية المصالح الاستعمارية فى الوطن العربى تستلزم اقامة حاجز بشرى قوى وقريب يفصل المشرق العربى عن المغرب العربى ويحول دون الوحدة العربية المتوقعة .ولقد كنت مهتما بالتعرف على هذا التقرير فى مصدر رسمى تحقيقا لصحة الاشارة اليه فى الكتابات الخااصة ، الى أن اطلعت على ملخص له منشور فى وثيقة عربية رسمية ، فأصبح حقيقة تمكن الاشارة اليها . ولكنها ليست الحقيقة الوحيدة ، فقد كان من ضمن المكاسب التى تحققت بعد هزيمة حزيران ( يونيو ) 1967 أن أصبح للقضية العربية أنصارا من الدارسين فى أوروبا وخاصة من الفرنسيين . وعرفنا مما كشفوه من وثائق علاقة الغزو الصهيونى بالوحدة من هذه الوثائق مانشره بيير ديستريا فى كتابه " من السويس الى العقبة " صفحة 56 نقلا عن كتاب نشر فى فرنسا سنة 1937 بعنوان " الله أكبر" ألفه " محمد أسعد بك" وهو اسم مستعار لاحد عملاء الصهيونية فى الوطن العربى . والكتاب عبارة عن تقرير كان مقدما الى حد قادة الحركة الصهيونية العالمية هو المستشرق النمساوى الدكتور فولفجانج فايست . يقول كاتبه :

" ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من أجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجى وتأثيره فى مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم فى قنال السويس والطريق الى الهند . اما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو أصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة فى سبيل انشاء الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبى فلسطين . ان دولة صغيرة " حاجزة " تقوم على 100000 كيلو متر مربع على ضفتى نهر الاردن ستحمى كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية اخرى ..

ان توازن القوى حول قنال السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين بالنسبة الى العالم العربى ، يتوقف على دولة فلسطين تكون كسويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودى ، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة فى هذا الاستقلال وليس العرب اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج فى دولة عربية كبرى ".

ان هذا الكلام القديم يبدو حديثا ، لانه يعبر عن استراتيجية معادية وضعت قديما وماتزال تحكم تكتيك القوى المعادية . ومن حين الى آخر يعبرون عنها بوضوح وقوة . فى تشرسن الثانى ( نوفمبر ) 1958 أى بعد قيام وحدة 1958 نشرت مجلة " الابسر فاتور دى مويان اوريان " مقالا بمناسبة الذكرى الثانية لحرب 1956 قالت فيه :ان التفوق الاسرائيلى قدم ضمانا لحماية الوضع القائم ضد المحاولات الوحدوية . لقد أصبح واضحا أن حفظ التوازن فيما بين الدول العربية المجاورة لاسرائيل والدول العربية عموما مهمة يتولاها الاسرائيليون وتدخل فى نطاق واجباتهم . اننا نقوم هنا ، اذا صح التعبير ، على تنفيذ " مبدأ مونرو " خاص بالشرق الاوسط . ان القرار الذى اتخذناه بهذا الخصوص منذ عشر سنوات ( أى منذ 1948 ) قد أدى الى الاستقرار والسلام بدلا من الخوف " وفى كانون أول ( ديسمبر ) سنة 1966 قال ليفى أشكول فى رسالة بالراديو أن سياسة اسرائيل منذ سنة 1958 ( أى منذ الوحدة ) أن تحول ولو بالقوة دون أى تغيير يحدث فى الوضع القائم للدول العربية " . وفى شباط ( فبراير ) سنة 1967 قال أبا ايبان فى تصريح أدلى به فى لندن :" يجب أن يكون واضحا أن مصير المنطقة العربية لايمكن أن يكون الوحدة . بالعكس انه الاستقلال القائم على التجزئة ".

وهكذا تثبت الممارسة ـ ممارسة المعركة ضدنا ـ أن القوى المعادية قد غزت فلسطين مقدمة لغزو مزيد من الاراضى العربية لاقامة دولة يهودية وظيفتها أن تحول دون الوحدة العربية لشاملة كهدف استراتيجى لتلك القوى المعدية .

وهذا يعنى أن طبيعة معركة تحرير فلسطين التى تفرض التحام الجماهير العربية تحتم أن يكون التحامها من أجل الوحدة كهدف استراتيجى للقوى العربية . وبهذا تقدم طبيعة المعركة الدليل على صحة الموقف القومى من العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين . اذا كان هذا هو الحل الصحيح : فماالذى يحول دونه ؟.

أولا: وقبل كل شئ ، عدم وفاء القوى القومية بمسؤولياتها ، فلو أرادت الوفاء لما حالت أية قوة على الارض دون أن تلتحم فى قوة مناضلة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة .

ثانيا : الاقليمية العربية ، والاقليمية كنقيض للقومية تقوم على أساس أن لكل اقليم عربى تكوين اجتماعى (مجتمع ) قائم بذاته مستقل بمصيره ، ولما كان الاستقلال علاقة ذات طرفين أو أكثر ( الاستقلال بالذات عن الغير ) فان دلالة الاقليمية تتجاوز أى اقليم لتصبح علاقة قائمة على تبادل الاعتراف بتجزئة الوطن العربى تجمع الاقليمين فى كل مكان ، حتى الذين لاينتمون الى دولة عربية ، لتضعهم جميعا فى مواجهة الشعب العربى فى موقف مضاد لوحدته القومية . وتتجسد هذه الاقليمية فى الموقف الاقليمى من المشكلات العربية ، ومن معركة تحرير فلسطين بوجه خاص ، لان الاقليمية متصدية فعلا للمعركة دفاعا عن فلسطين أو دفاعا عن الاجزاء التى احتلت بعد 1967 ولكن من موقف اقليمى .

وقد قلنا دائما ونقول الان ان الاقليمية فاشلة .

ولسنا نحتكم لتجربة الفشل فى السنين الماضية ، لان هناك من يتوهمون أن تغيير القيادات الاقليمية قد يكون سببا للنصر .وذلك من أوهام الاقليمية . لان فشل الاقليمية كامن فى ذاتها مهما تكن نوايا قادتها . ففى معركة تحرير فلسطين مثلا ، تفتقد الاقليمية ( غير الفسطينية ) حتى مبررات القتال . ان استقلال الدول الاقليمية ذاتا ومصيرا يجردها من أى حافز للقتال من أجل تحرير فلسطين لسبب بسيط هو أن فلسطين تقع خارج حدود الدول الاقليمية المستقلة ذاتا ومصيرا . وأكثر الاقليميين امانة هم الذين يعترفون بهذا ويبحثون عن مخرج لاسترداد ماضاع من أرضهم ثم يلقون مسؤولية تحرير فلسطين على شعب فلسطين واذا قيل أن اسرائيل تمثل خطرا على الدول العربية فان المسألة ـ بمنطق الاقليمية ـ تكون كيف تؤمن وجودها من هذا الخطر . وهو ممكن ولو بالمساومة على أرض فلسطين ذاتها ، ولو بقبول حماية واحدة أو أكثر من الدول . كل هذا ممكن بدون حاجة الى تحرير فلسطين ، واذا لم يكن ممكنا فان الاقليميين سيقاتلون دفاعا عن أرضهم ان استطاعوا ، ولكنهم لن يصلوا أبدا ـ ولو استطاعوا ـ الى حد دخول معركة تحرير فلسطين .

هذا من ناحية ..

ومن ناحية أخرى فان " الاقليمية " المستقلة ذاتا ومصيرا تعنى أولا استئثار كل دولة عربية بالجزء الذى تقوم عليه فهى تغتصبه من الامة العربية . وتعنى ثانيا حرمان الشعب العربى فيها من حقه فى الارض العربية خارجه فهى تحبسه فيه وبهذا تحول ـ سلبيا وايجابيا ـ دون التحم الجماهير العربية فى قوة موحدة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة . وبهذا لاتخدم الا الغزو الصهيونى لفلسطين . ولهذا عندما يتحدث الاقليميون عن تحرير فلسطين لايصدقهم أحد ويسخر منهم العالم كله .والعالم على حق لان الاقليمية المستقلة بمصيرها عن فلسطين تكون غير منطقية عندما لاتترك فلسطين لمصيرها المستقل . ان على الشعب العربى فى كل مكان أن يفلت من شراك التضليل ولو احتراما لارواح الشهداء من ابنائه الذين راحوا ضحية التضليل الاقليمى . والحقيقة أننا مادمنا متفقين على أن التجزئة قد سهلت غزو فلسطين . فيجب أن نعرف ونعترف بأن الغزو الصهيونى لفلسطين قد بدأ واتسع ومايزال قائما فى حماية الاقليمية العربية التى تجسد تلك التجزئة . واذا كنا متفقين على أن الاقليمية العربية مشتبكة فى صراع ضد الصهيونية دفاعا عن استقلالها ، فيجب ن نعرف ، ونعترف بأن هذا الاستقلال لايعنى أنها ستخوض معركة تحرير فلسطين ، بل يعنى أنها طالما بقيت فى الوطن العربى فستحول ، بكل الطرق، من أول المغالطة اللفظية الى آخر التصفية الجسدية ، دون التحام القوى القومية لدخول معركة تحرير فلسطين ، أى أن استقلالها ذاته يحول دون تحرير فلسطين . وأنها يجب ان تسقط لتقوم دولة الوحدة حتى تتحرر فلسطين .

أما الاقليمية الفلسطينية فلها مصلحة مؤكدة فى تحرير فلسطين ولاشك فى أنها ستقاتل مااستطاعت لتحرير فلسطين ، ولكن الاقليمية ستخذلها . الاقليمية فيها والاقليمية خارجها . هذا لاشك فيه . ان شعار الاستقلال عن الدول العربية بمعركة تحرير فلسطين يتضمن حتما استقلال الدول العربية عن معركة تحرير فلسطين . وليس صحيحا أن يقال أنه مع ذلك لايعنى الاستقلال عن الجماهير العربية ولايحول دون التحامها فى معركة تحرير فلسطين . لان مجرد الدعوة الى التحام الجماهير العربية يعنى دعوتها الى كسر القيود الاقليمية وهو أمر يمس صميم وجود الدول الاقليمية ويتناقض مع استقلالها عن فلسطين واستقلال فلسطين عنها . ان كان هذا تكتيكا فهو تكتيك فاشل لانه ينطوى على مغالطة مكشوفة . وكل تكتيك ناجح يجب أن يكون منضبطا عقائديا واستراتيجيا والا فهو مغامرة أو مقامرة .

الحل القومى ، اذن ، هو الحل الصحيح لمشكلة تحرير فلسطين . فهل هناك موضع فى هذا الحل لمشكلة الاقامة فى فلسطين المتحررة . تلك المشكلة التى يقدمون لها صيغة فلسطين المسماة " ديموقراطية ":، حلا يرضى ـ فيما يقولون ـ الرأى العام العالمى ؟.. ان حلها القومى واضح وصريح . اذ بمجرد أن ننسى التمييز الدينى والعنصرى تقدم لنا " القومية " الحل لصحيح . فالقومية لاتقبل الاستقلال الاقليمى لفلسطين عن الامة العربية وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان فى حل مشكلة الاقامة فيها . فهى " دويلة " يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت ، والارض المتروكة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد أصبحت أموال الاخرين . ثم يقال لهم لاتذكروا ماكان وعيشوا " ديموقراطيين " .كأن الديموقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . ان فلسطين مهما تكن أرض السلام ستضيق بمن فيها وتنتهى حرب التحرير لتبدأ الحرب الاهلية فى أرض فلسطين . .القومية لاتقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفى دولة الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى فان للامة العربية أبناء من اليهود فى فلسطين المحتلة وفى أماكن كثيرة من الارض. اولئك العرب اليهود . انهم يحملون لسبب أو لآخر الهوية لاسرائيلية أو هويات اخرى أجنبيه . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الارض العربية الى اماكن أخرى .كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . ولكل هؤلاء حق قومى فى أن يقيموا فى رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربى فى فلسطين أو فى غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق فى أن تكون دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية دولتهم القومية التى تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الامن وأسباب التقد م الاجتماعى .وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لامتهم ، وأن يرتفعوا بوعيهم الى مستوى المسؤولية القومية ،وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هى أرض أمتهم العربية ، وأن لهم حق الاقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل ، أو كانوا وافدين اليها من أقطار عربية أخرى .وأن من حقهم أن يعودوا اليه ، أو الىمكان من الوطن العربى ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم فى القومية سواء مع اخوانهم العرب الذين أكرهوا على مغادرة فلسطين ، لافضل لأحد منه على الآخر الا بقدر مايجسد فكرا ومسلكا ولاءه القومى لامته العربية . وحتى الذين تورطوا منهم فوجدوا انفسهم فى مواقع الخيانة لامتهم ، ويقتلون اخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة فان جزاءهم سيكون متعادلا مع ماكان لهم من حرية فى الاختيار ، وعلى مايكون لهم من موقف يختارونه فى الصراع العربى ضد الغزو الصهيونى . ولكنهم فى كل الاحوال لن يكرهوا على مغادرة أرضهم العربية ولن يفتقدوا حماية دولة الوحدة .

أما الذين خانوا وطنهم فهجروها ، وجاءوا غزاة للوطن العربى فلا مكان لهم فى الارض العربية وعليهم أن يلحقوا بأممهم حيث كانوا ولسنا مطالبين بأن ندفع لهم ثمن الخيانة أو أن نقدم لهم مكافأة على العدوان .

ذلك هو الحل السلمى الوحيد المقبول قوميا .

وهو حل لانبتكره نفاقا لدفاع السلام . انما نقدمه دليلا على سهولة الاهتداء الى الحلول السلمية الصحيحة من الموقف القومى العقائدى لانه الموقف الصحيح . وليس أدل على أنه الحل السلمى الصحيح من أن المهاتما غاندى كان رمزا خالصا للسلام الانسانى مع أنه لم يكن عربيا قوميا قال غاندى فى 14 تموز ( يوليو) سنة 1946 :

" ان فلسطين للعرب بذات المعنى الذى تعتبر فيه انجلترا للانجليز وفرنسا للفرنسيين انه لخطأ بين ، وأمر غير انسانى ، أن يفرض اليهود على العرب . أن مايجرى فى فلسطين اليوم لايمكن أن يوجد له مسوغ من أى قانون اخلاقى للسلوك .. انها لجريمة ضد الانسانية أن يقبر العرب الاعزاء لكى يتخذ اليهود كل فلسطين أو جزءا منها وطنا قوميا لهم أ ن التصرف ألامثل هو الاصرار على معاملة اليهود معاملة عادلة فى أى مكان ولدوا ونشأوا فيه " .

ونحن باسم القومية العربية نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة فى وطنهم العربى وماعلى الامم الاخرى الا أن توفى بمسؤولية السلام فتحمى أبناءها اليهود من التعصب ضد السامية ، وبهذا تحل المشكلة ويسود السلام .

ان دعوتنا القومية اذن دعوة سلام فى جوهر ها,واننا لمسؤولون قوميا عن تحرير العرب اليهود من القهر العنصرى المفروض عليهم فى أرض فلسطين .ومسؤولون قوميا عن عودة العرب اليهود الذين غادروا وطنهم العربى وتعويضهم عن أى عسف لم بحترم انتماءهم القومى للامة العربية .ولكننا غير مسئولين على أى وجه عن ارضاء التعصب الاوروبى ضد اليهود أو التعصب الصهيونى ضد البشر جميعا . بأن نقيم للصهيونية دولة فى أرضنا ، سواء فى فلسطين أو حتى فى الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لاأحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه فان جنحوا الى السلم جنحنا . وان اصروا على البقاء اكرهناهم على العودة الى أوطانهم ونعد لهم مانستطيع من قوة .

أهى عودة الى شعار القائهم فى البحر ؟
ان هذا لايتوقف علينا ، ولكن على الطريقة التى يختارونها للجلاء عن الارض العربية . وعلينا أن نكف عن النفاق باسم الانسانية فان الحرب ليست مباراة رياضية بل هى صراع وحشى ومجزرة بشرية . وان كان ثمة من يدعى الانسانية نفاقا فليبحث أولا عن المسؤول عن المجازر البشرية والعرب لم يكونوا أبدا مسؤولين .

فى أواخر الحرب الاوروبية الثانية كانت أغلبية اليهود الالمان فى سجون النازية . وكانت النازية فى مأزق اقتصادى وعسكرى لايمكنها من الابقاء عليهم ، فاتفقت النازية والصهيونية فى مفاوضة مباشرة جرت فى سويسرا على ترحيلهم من المانيا .وعرض الامر على الحلفاء ، فأحالوه الى لجنة برئاسة اللورد موين الانجليزى .ثم استقر الرأى على أنه بالرغم من مخاطر الابادة الجديدة التى تعدها لنازية للتخلص منهم الا أن ترحيلهم من المانيا سيخفف عنها بعض متاعبها ويعوق انتصار الحلفاء وقرروا جميعا ترك اليهود للموت فأبيدوا بالوحشية التى نذكرها . ونذكر أيضا ان لحركة الصهيونية طاردت من أجل هذا للورد موين حتى قتلته فى شوارع القاهرة .

انها الحرب والصهاينة أول من يعلمون هذا ويعاملوننا وفقا له

فاذا كان واحد من العرب قد قال ـ أخيرا ـ اننا سنلقى الاسرائيلين فى البحر فليتذكر المنافقون أن الزعيم الصهيونى وايزمان قد قال:" لا أذيع سرا اذ قلت أننا اتفقنا مع بريطانيا على تسليمنا فلسطين خالية من العرب قبل نهاية الانتداب ". وأن الزعيم الصهيونى جابوتنسكى قال:" ان فلسطين يجب أن تكون لليهود أما العرب فلهم الصحراء .ان اتباع سياسة اللين مع العرب للتوصل الى اركان الوطن القومى اليهودى فى فلسطين ثم اجلاء العرب عنها تدريجيا مع الزمن سياسة مملة يطول شرحها لانه اصبح معروفا لدى العرب ماهى الغايات التى يسعى اليها اليهود ولذلك بات من الضرورى مجابهة العرب بالامر الواقع وافهامهم ضرورة الجلاء الى الصحراء ".ون الزعيم الصهيونى اسرائيل زانكويل قال": ان فلسطين وطن بلا شعب فيجب أن تعطى لشعب بلا وطن وواجب اليهود فى المستقبل أن يضيقوا الخناق على سكان فلسطين العرب حتى يضطروهم الى الخروج منها." وان الزعيم الصهيونى سيملانسكى قال:" ان فلسطين يجب أن تكون وطنا للشعب اليهودى وأنه من الممكن نقل أهل فلسطين العرب الى الاقطار العربية المجاورة ".وان الزعيم الصهيونى مناحم بيجين قال": ان مذابح الاسر العربية عمل رائع من أعمال الاستراتيجية العسكرية ".وان الزعيم الصهيونى بن جوريون قال:" علينا أن نتلقن الدرس بأن الهزائم العسكرية فى حد ذاتها لاجدوى من ورائها مالم يعقبها اجراء فعال وعلينا ان نستخدم الانتصارات العسكرية كأساس للتوطن السكانى الذى لايمكن اغفاله " . وأنه فيما بين يومى 11/11/1948 و 17/11/1966 أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة ثمانية عشر قرارا بعودة الشعب العربى الى فلسطين فقال الزعيم الصهيونى أبا ايبان ": حتى لو صوتت الامم المتحدة بنسبة 121 الى واحد فلن نقبل قرارها ".

فهل فقدوا بهذا كثيرا من الرأى العام العالمى ؟

لنكف اذن عن " النفاق" باسم الانسانية فان النفاق لايخدع أحدا ان الاوربيين الذين يريدون كسبهم نفاقا هم الذين القوا باليهود فى الافران الموقدة وليس فى البحر . وهم الذين أهلكوا من أنفسهم خمسين مليونا فى حربين خلال ربع قرن دفاعا عما يعتقدون أنه حق . وتعلموا من كل هذا أن دعوة الحق التى تهرب من حلبة الصراع دفاع عنه دعوة منافقة .

ولنقلها صريحة قاطعة اذا فرض علينا العالم أن نختار بين أن يذهب العرب الى جوف الصحراء أو أن يذهب الصهاينة الى أعماق البحر فليذهب الصهاينة الى أعماق البحر . ولن نكون المسؤولين . بل العالم هو المسؤول.

* * *

دكتور / عصمت سيف الدولة
"محاضرة القيت فى نادى المحامين فى عمان( الاردن) يوم 10 مارس 1970"


الاسـلام والـديـمـقـراطـيـة

بسم الله الرحمن الرحيم،

تقول في رسالتك، وكأني أراك جزعا، إن السلطة السياسية التي قد تنشأ داخل الأمم الإسلامية لن تكون ذات طبيعة واحدة من حيث المضمون والشكل. فالأمة العربية مثلا، وهي أمة كاملة التكوين التاريخي والإجتماعي تغلب عليها آراء أهل السنة في مسألة الخلافة أو الإمامة أو الحكم ولكن هذا التصور "السني" قدلا يلقى إجابة من أهل الشيعة في إيران مثلا،/ وهي أمة كاملة التكوين يغلب عليها المذهب الشيعي الذي له فقه كامل ومتميز في مسألة الحكم.

 ومن ناحية ثانية، كل أمة من الامم الإسلامية، تحتوي بين ظهرانيها أقليات أو طوائف إسلامية لا تشارك الأغلبية موقفها العقائدي أو السياسي، فالأمة العربية يوجد بها شيعة ودروز واسماعيلية وعلويون فضلا عن المذاهب الفقهية الأخرى، فكيف يمكن فرض تصوّر الأغلبية الدينية على هذه الأقليات؟ وكيف العمل حينئذ؟

أ- جاء ذلك في سياق سؤالك عن أهل الذمة وقد عرضت عليكم فيما سبق ما خطر لي بالنسبة لنظام الذمة وأهلها، ورايت أن أكمل الجواب على ما استطردت إليه في سؤالك ويدور أساسا على الموقف من أصحاب المذاهب المتعددة غير مذهب الأغلبية، ثم جاء سؤالك الإستنكاري : " كيف يمكن فرض تصور الأغلبية الدينية على هذه الأقليات وكيف العمل حينئذ؟ كان يكفي جوابا أن أقول لك أنه في مجتمع معيّن وفي وقت معيّن تتعدد الآراء والمواقف والمذاهب ويختلف الناس ويتخاصمون وقد يتقاتلون.، ولا سبيل الى اجتناب القتال إلا تطبيق ما تراه الأغلبية مع الإحتفاظ للاقلية بحق المعارضة ليحتكم الجميع بعد التطبيق إلى حصيلة التطبيق لمعرفة ما إذا كان راي الأغلبية صحيحا أم خاطئا، وذلمك بشرط المكساواة في حرية الرأي. ذلك لأنه لا يوجد لأية مشكلة في زمان معيّن إلا حلّ واحد صحيح. فإذا اختلف الناس فإما أن تكون حلولهم كلّها خاطئة وإما أن يكون أحدها صحيحا وما عداه خطأ. كيف يُعرفُ هذا؟ بتطبيقه، أي تفضيل رأي الأغلبية، إذ أنه الذي يحقق مصالح الأغلبية. ولا يوجد معيار آخر للتفضيل ما دمنا نحافظ على المساواة بين الناس في حرييّة الرأي (من شروح الجدل الإجتماعي).ليس معنى هذا أن الأغلبية دليل على صحة رأيها، أي مطابقته للحل الصحيح موضوعيا، فقد يتضح من التطبيق أن الأغلبية كانت ضحية خطأ في فهم المشكلة أو في الاهتداء إلى الحل. فيتحول التطبيق إلى اختبار صحة وليس دليل صحة، ومن هنا تبقى حرية المعارضة وسيلة وحيدة لمراقبة الإختبار التطبيقي وتصحيح الرأي الذي كان للأغلبية حين تصبح المعارضة أغلبية. واعتقد ان هذا أصبح مسلّما فكريا على الأقل في العالم الحديث - مع تحفّظات شديدة- على توافر شرطية المساواة في حريّة الرأي، وحق المعارضة في هذا العالم الذي نسميه حديثا لأنه حادث واقع ليس  إلا.

ولعلّ هذا أن يلفتك، وقد يقنعك، بأن ما كان يمكن أن تتعدد المذاهب في الإسلام، ولا تقل مذاهب إسلامية، إلا لأن الإسلام قد قرّر ثم أقرّ، ثم حرص، على المساواة بين الناس( ومنهم أهل الذمة وحتى الكفار كما أسلفنا) واحترام حرّيتهم في الرأي وفي المعارضة. وهو وحده، من بين كل النظم والأديان والأيديولوجيات الذي أرسى قاعدة " من اجتهد فأخطأ فلهُ أجر ومن اجتهد فأصاب فلهُ أجران" حتّى لا يخشى أصحاب الرأي من أن تكون آراءهم خاطئة وحرّض الذين يخشون "السوء من القول" فيحجمون عن إبداء آرائهم على أن يبدوه ولو بالقول السيء.

ولكن كيف تتعدد المذاهب والآراء في مجتمع يؤمن بإله واحد، ورسول واحد، ويأخذ دينه من كتاب واحد؟ لأن هذا هو الإسلام كما هو، والذي ينكشف للمتأمل فيه لإتساق آياته مع القوانين الكونية الموضوعية التي لم يكن أحد يعرفها حين نزل القرآن.

ب- يقول الله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" (آل عمران 7) وفي القرآن 180 آية تستعمل كلمة "صالح" ومشتقاتها في التعبير عن "العمل" المفضّل في كل نشاط إنساني. والصالح ضد الفاسد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الله غنيّ حميد، فبالنسبة لمن يتحدد الصلاح أو نقيضه الفساد؟. بالنسبة للناس، للبشر، من هنا ننتهي، وهذا مذهبنا ، إلى أن لمشروعية  النّشاط الإنساني في الإسلام مصدران أساسيان : 1- الآيات المحكمات. 2- مصالح الناس أو ما أسماها بعض الفقهاء :"المصالح المرسلة" وهو وضعي وما جاءت اللايات المتشابهات، أي القابلة للتأويل (وقد كان في قدرة الله سبحانه أن تأتي كل الىيات محكمات) إلا لأن من سنن الله التي لا تتبدل أن كل شيء مؤثّر متأثّر فمتغير فيلاحقه تأويل الأيات المتشابهات على ما يتفق ومصالح الناس المؤثرة المتأثرة المتغيّرة، فيبقى التاويل الوضعي في حدوده الشرعية. لا يستطيع أحد أن ينتقص كلمة من هذا الرأي ولا أن يضيف إليه. ذلك لأن مصدره القرآن، وقد خلإتم القرآن بقوله تعالى" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتلإ لكم الإسلام دينا".(المائدة 3). فكل إضافة إلى القرآن لا يعتد بها مصدرا للشريعة. وهكذا نعود إلى قصر مصادر الشريعة على الىيات المحكمات، وتأويل الآيات المتشابهات على ما يتفق ومصالح الناس. 

وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر الآيات المحكمات لمن غمت عليه دلالتها بالشرح أو بالاداء (السنة العملية). ولكنه في الوقت ذاته كان يتأول الآيات المتشابهات على ما يتفق مع مصالح الناس في حياته بما يسمّى الأحاديث النبوية. وانتهى كل بوفاته، وتبعه المسلمون من بعده، يلتزمون الىيات المحكمات ويتأولون الآيات المتشابهات على ما .. ماذا؟ ما يتفق مع مصالح الناس في مجتمكع المسلبمين الذي اتسع طولا وعرضا وأرضا بالفتح الاسلامي. فظهرت اجتهادات فكرية تحوّلت غلى مدارس فقهية أو مذاهب، في ظل القاعدة " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر". عنوان حرية الراي في الإسلام إلى أن جاء عصر الحكام المستبدين في العصر تالعباسي وما بعده فإختار كل حاكم مذهبه ليكون مذهب المسلمين كافة  واستعمل في ذلك بطش السلطة. وما زالت المذاهب في الاسلام أكثر اتساعا وشمولا وأكثر تفريعا من كل ما جاء في القرآن من آيات محكمات..

وبما كثرت الىراء، وتحوّلت إلى مذاهب، وأصبح الإنتصار إلى المذاهب سياسة ، أراد اصحاب كل مذهب أن يدعموه بما جمع لهم واستعملوه أو إستغلّوه من أقوال أسندة إلى الرسل قبل أن تجمع بحوالي قرنين، وقيل أنها احاديث نبوية. فلمّا استفحل أمر الجمع والإنتحال والإدعاء والتلفيق إلى درجة زعمهم  أن ثمة كلاما نسبوه إلى الله وأسندو روايته إلى محمد غير ما جاء في القرىن وأسموها الأحاديث القدسية، وهو هرطقة صريحة، فتولّى علماء الحديث ( إذ أصبح البحث في الاحاديث علما) تصنيف ما نشر منها حسب قوّتها الملزمة فانتهوا إلى أن من بين عشرات الألوف من الأحاديث ليس ثمة إلا أربعين حديثا "متواتر"، أي قطعي الإسناد إلى رسول الله ونفى بعضهم وجود أي حديث متواتر، وبقيت الأحاديث المتواترة قطعية الإسناد  خاضعة للتقسيم الثنائي فمنها أحاديث محكمة ومنها أحاديث متشابهة.

ج- القيمة الحيوية لتلك المذاهب وصلتها بالإسلام مستمدة من أنها كانت تعبر عن رؤية كل متحدث أو مجتهد أو فقيه لما "يصلح " للمتغيرات في مجتمعه في زمانه، فتفرقت المذاهب الفقهية تبعا لتغيّر و"تطور" مصالح المسلمين في الاقطار والأمصار، وظهرت "المصالح المرسلة" و "الراي" و "القياس" و "الإجماع" كمصادر للشريعة في بعض المذاهب على اختلاف فيما بينها. فعندما يقال مثلا، إن الغمام الشافعي قد وضع مذهبه الاول حين كان في العراق، ثم وضع مذهبه الثاني حين جاء إلى مصر فأقام فيها، لا يكون ذلك ان الإمام الشافعي كان " مُلفّقا " كما قال أحد الجهلة في رسالة دكتوراه قدّمها إلى كلية الآداب جامعة القاهرة، ولم تقبل، بل لأن الإمام الشافعي كان يجتهد طبقا للأصل القرآني في تأويل الىيات المتشابهات على ما يلائم مصالح الناس وهي لم تكن متطابقة في العراق ومصر على عهده. فقيل بحق إن اختلاف الفقهاء رحمة بالمسلمين.

د- نعود إلى البداية. كيف يمكن معرفة مصالح الناس وهي متغيّرة ؟ الجواب : إذا كان القرآن قد أمر في آية محكمة أن "لا إكراه في الدين" فلا إكراه في مذهب في الدين وهذا واضح، هذا وحده لا يؤدي مباشرة إلى معرفة مصالح الناس، المصدر الثاني بللشريعة :"الجدل الغجتماعي" يقدّم غليك الجواب، حرية الناس بدون حدود في المشاركة في اقتراح حلول تلك المشكلات. العمل الجماعي لتطبيق تلك الحلول التي هي " مصالح الناس" كما يعرفونها من مشكلاتهم التي لا يمكن أن يعرفها غيرهم. فإذا لم يتّفقوا فيُطبّقُ ما تراه الأغلبية بحكم المساواة، ويتبقّى للأقلية حق المعارضة إلى أن يتم إختبار مدى مطابقة راي الأغلبية لمصالح الناس جميعا. وبذلك تكمل الدائرة ويصبح الجدل الإجتماعي ( القانون الموضوعي للديمقراطية) جوهر مصالح الناس من حيث هو نظام اكتشاف مصالحهم في زمن معيّن في مجتمع معيّن.

ولولا أن المساواة من ثوابت نظام الحياة في الإسلام، ولولا أن مصالح الناس غاية ثابتة في الغسلام، لما أمكن أن يؤدي الجدل الإجتماعي إلى تطور المجتمع في الإسلام، ولمّا قيل أنه نظام إسلامي وهو وضعيّ وليس إلهيا.  

والله أعلم




 

الـمـوقـف مـن الـكـفــار

بسم الله الرحمن الرحيم، 

تقول في رسالتك أن الإسلام لم يجبر أحدا على الاعتقاد فيه وبشكل خاص الكفار وأن كل الآيات التي حضت على قتال الكافرين لا باعتبارهم كافرين ومخالفين في العقيدة الدينية بل لدفع اعتداء واتقاء فتنة تصيب المسلمين نتيجة كيد أو مؤامرة.

قول حسن وأرجو أن تسمح بإضافة خاطرات ..

أ - الكفر نقيض الإيمان، وكلاهما عقيدة، الأولى عدمية والثانية وجودية إذ محل كل منهما وجود الله ذاتا وصفات، الأولى تنفيه والثانية تثبته، وفي حدود ماهيتها العقيدية لا تتوقفان على الظهور، على التعبير، إثباتا أو نفيا فلا يسأل الكافر عن كفره أو المؤمن عن إيمانه ماداما مضمرين إلا أمام المطّلع  على السرائر، الله. من هنا نجد مئات الآيات في القرآن التي قررت جزاء على الكفر أو الإيمان أنذرت به أو بشّرت في الآخرة ولم ترد في القرآن آية واحدة تأمر بعقاب الكافر على كفره مادام مضمرا ولا بجزاء المؤمن على إيمانه غير المعلن.

ب - قال الله تعالى في كتابه : " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"  - الكهف 29 - . وقال :" إن تكفروا فإن الله غني عنكم " -الزمر 7 - وقال :" إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد" .- إبراهيم 8 - . لماذا إذن العذاب الأليم على الكفر والنعيم المقيم على الإيمان في الآخرة؟.. مفتاح الجواب جاء في قوله : "ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد".-لقمان 12 -. وفي قوله "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ.-البقرة 256 -. وفي قوله "أو أنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين".-يونس 99-. وقوله "ومن كفر فلا يحزنك كفره".-لقمان-.

دلالة هذه الآيات معا واضحة على أن الكفر ولو كان عقيدة مضمره لا يضر الله شيئا سبحانه وتعالى، ولكنه يضرّ صاحبه والمجتمع الذي ينتمي إليه، لأنه يجرّد صاحبه من صدق الالتزام في تعامله مع الآخرين بقواعد التعامل الاجتماعي بين الناس التي جاءت في القرآن والتي تسمّى جملة "الإسلام" بما فيها ممّا فيها مما يقال له عبادات، ويذهب بعض الشّراح إلى القول بأنها علاقة خاصة بين العبد وربّه.لا. كل ما جاء به الإسلام لمصلحة الناس، أمّا الله جلّ جلاله فهو غنيّ حميد. ولعلّك قرأت في كتابي "عن العروبة والإسلام". إيضاحا أوفى لهذا الرأي. المهم أن الكفر بالله ولو كان مضمرا، ليس علاقة عقيدية خاصة بين الكافر والله، بل هو إنكار خفي للإسلام كنظام اجتماعي يستمد قوّته الملزمة من أنّه من عند الله. من هنا نفهم ما ذهب إليه بعض الشّراح والفقهاء من التدليل على الكفر بإنكار ما" عُرف من الإسلام بالضرورة" نفهمه ولكنّا لا نوافق عليه ولا نأخذ به، لأن القول بالضرورة حكم عقلي تتوقف صحته على توافر الصحة في أربعة مواضع : -1- صحة فكر الحاكم -2- صحة الواقعة السبب -3- صحة فكر محدث السبب -4- مطابقة فكر محدث السبب فكر الحاكم عليه بالكفر. فمحال أن يأتي الحكم محكما، ولا إلزام بغير قاعدة محكمة، لا تحتمل التأويل . هذا مبدأ قرآني.

ج- على أي حال سأورد إليك فيما يلي دليلا من القرآن على أن الكفر المضمر لا ينتقص من الإسلام المعلن شيئا إن اجتمعا. جاء هذا في قوله تعالى: " قالت الأعرابُ آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وأن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم"-الحجرات : 13-. الأعراب المذكورون في الآية كفره بشهادة الله عالم الغيب والشهادة. ومع ذلك أشهدوا الناس على أنهم مسلمون. هاهنا كفر -عدم إيمان- مضمر واسلام مشهرٌ، فما الحكم أو ما الجزاء؟ أما عن الإسلام المشهر فقد ارتبط الجزاء فيه بالتزام قواعد وعبّرت عن الآية بالقول "إن تطيعوا الله ورسوله" وهو شرط وجاء الجواب "لا يلتكم من أعمالكم شيئا" أي لكم كل حقوق المسلمين لا ينتقص منها شيء. أمّا عن الكفر المضمر فقد ذكرهم الله جل جلاله بأنه غفور رحيم وعدا بالمغفرة رحمة بهم 

د- من أشكال الكفر المضمر "النفاق" . وقد أنذر القرآن المنافقين بمصير " في الدرك الأسفل من النار " - النساء 145 -. ولكنّه جاء خاليا من أي عقوبة على النفاق تطبيقا لذات القاعدة العامة المشار إليها في البند السابق، فالأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا طائفة من المنافقين.

 هـ - بقي حكم الكفر المعلن، الكفر المعلن نقيض الإسلام المعلن أو بمعنى أدق نقيض معلن للناس بانعدام القوة الملزمة اجتماعيا للقواعد الآمرة والناهية التي جاءت في كتاب الله، من حيث انه نقيض مصدرها: الله. وقد خصص القرآن سورة كاملة للموقف الإسلامي من الكفار، انه الاجتناب، قال الله تعالى في سورة "الكافرون" :" قل أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين". وهو موقف سلبي كما ترى لا ينطوي على إكراه أو اعتداء أو قتل. وأوضح دلالة على موقف الاجتناب ما أُمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عدم الاهتمام بما قد يلقاه من أذى من جانب الكافرين، قال تعالى: "ولا تُطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا" -الأحزاب:48-.

 و - ومع ذلك فقد أمر القرآن المسلمين يقتل الكافرين إذا ما أوجدوا أنفسهم في المواقف التي أبيح فيها للمسلمين القتال. ولم يبح القرآن للمسلمين القتال إلا في ثلاثة مواقف : الأول، المبدأ، موقف الدفاع. "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" -البقرة 190-. وقد جاء تطبيقه بالنسبة إلى الكافرين في الآية التالية :" فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين"- البقرة 191-. وهو مشروط بالمبدأ "لا تعتدوا". الموقف الثاني هو قتال الطائفة الباغية حين يتقاتل المؤمنون. قال تعالى :"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله"- الحجرات 9-. عَرض الصلح على المتخاصمين من المؤمنين إجراء أولي من الإجراءات القضائية في الإسلام قبل الحكم. - بين الزوجة وزوجها وبين القاتل وولي الدم وما بينهما من مخاصمات - . وقد تضمّنت الآية عرض الصلح بصيغة المر "فأصلحوا" فأخذ حكم الفرض لا يجوز تركه قبل التدخل. ثم فُرض على المؤمنين قتال الطائفة الباغية وهي هنا التي ترفض الصلح وليست التي بدأت القتال. فيكون الموقف الثاني الذي أبيح فيه للمسلمين القتال أو فرض عليهم هو القتال حقنا لدماء المؤمنين في قتال دائر فيما بين طائفتين منهم لفرض الصلح على الطائفة التي لا تقبله " حتى تفيء إلى أمر الله" وليس حتّى بعد نشوب القتال من أمر الله" وليس حتّى تقبل وجهة نظر الطائفة الأخرى، ومنه نتعلّم أنّ الصلح ، حتّى بعد نشوب القتال من أمر الله. وليس في أي دين سماوي أو غير سماوي، وليس في أي شريعة من شرائع الأرض الموضوعة حكم يبيح، أو يفرض القتال لوضع حدَ للقتال إلا في الإسلام . القتال ضد من يرفض الصلح الذي يراه المؤمنون، أي المجتمع.

ثم يأتي الموقف الرابع الذي أبيح فيه للمسلمين القتال ، مندوبا لا فرضا، أن يقاتلوا دفاعا عن ضحايا الظلم من الناس، أي ناس في أي مكان، من أي جنس، على أي دين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. قال تعالى :" وما لكم لا تقاتلون في سبيل اله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا"-النساء 75-. شرط القتال هنا، بالإضافة إلى مبدأ "لا تعتدوا" أن - يستغيث المظلومون بالمسلمين لدفع ظلم واقع لا على فرد ولكن على مجتمع بما فيه من رجال ونساء وولدان. ويسمّى في الشريعة الإسلامية -القانون- "حق الغوث" فهو رخصة بالدفاع وليست فرضا واجبا.

ز- ختاما لهذه الخاطرات أعود إلى سؤالك لأعيد صياغة شطره الثاني صيغة مختصرة فأقول: ليس في القرآن آية تحض على قتال الكافرين أو غير الكافرين ولا المخالفين في العقيدة الدينية ولا اتقاء فتنة نتيجة كيد أو مؤامرة وانما يفرض القرآن القتال دفاعا في كل الحالات. بل أن القرآن  يوصي المسلمين بأن يبَرّوا غيرهم وأن يكونوا عادلين في التعامل معهم إلا الذين قاتلوا المسلمين لردّهم عن دينهم أو أخرجوهم من ديارهم أو عاونوا من أخرجوهم فيحر القرآن على المسلمين مناصرتهم أو التحالف معهم  أو صداقتهم. وهي الحالة الوحيدة التي أمر فيها القرآن بقطع أوشاج الأخوة الإنسانية بين البشر. قال تعالى في سورة الممتحنة: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم إن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون". -الممتحنة 8.7 -. الموالاة تعني الصداقة والمناصرة وما في حكمهما، من والى ولا تعني الولاية من تولّى، فلا شأن للآية بالحكم أو تولي القيادة كما يزعم البعض.

ح - ثم تأمّل من آيات الذكر الحكيم :" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". - البقرة 62-. و"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".-المائدة 69-.

الصابئ هو الذي ينتقل من دين إلى دين. والصابئون صفة كانت تطلق على جماعات طائفية لهم كتاب واحد "كتاب ألج نزا" ولكنهم موزعون انتماء إلى ديانات عديدة مثل المجوسية والزرادشتية والهندوسية والبوذية والكنفشيوسية. وقد كان من بينهم نفر يعيشون في البصرة جنوب العراق، وكانوا يعبدون الكواكب ويزعمون أنهم من أهل الكتاب الذين أوصى بهم القرآن احتجاجا بكتابهم.

المهم أنهم لم يكونوا مسلمين..

فانظر كيف قرر لهم القرآن أن "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". لقد أسند قراره إلى توافر أمرين: 1- الإيمان بالله واليوم الآخر. 2- العمل الصالح. ولم يشترط الإسلام. وقد يبدو هذا غريبا، ولكنه ليس غريبا، فليس الإسلام مقصورا على ما ابلغه محمد بن عبد الله إلى الناس بصفته رسولا من الله، ولكن الإسلام هو جوهر كل الأديان منذ إبراهيم عليه السلام. وجوهر ذاته هو "العمل الصالح". الصالح لمن؟ للناس،للبشر إذ أن الله غني حميد. وإذا كان ما جاء في القرآن من أحكام وقواعد هي الصيغة الأخيرة للعمل الصالح فإن الصلاح كمضمون لا يتوقف على العلم بالقرآن أو على أن يكون "الصالح" مسلما بالضرورة. فإن لم يكن كأن كان يهوديا أو نصرانيا أو صابئا أو مجوسيا أو مجنونا فقد رفع عنه الخوف.-من الإكراه- والحزن -من القهر مثلا-.

وكل هذا لا مثيل له في أي دين أو مذهب أو إيديولوجية أو فلسفة أو نظام ما وضعه الإنسان، والمسلمون ملزمون باتباع هذا الموقف من الغير الذي لا مثيل له، فإن لم يفعلوا فقد خالفوا جوهر الإسلام واحتكموا في أمر الغير المسالم إلى غير ما أنزل الله، نقول المسالم حتى لا ننسى شرط فرض القتال " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" .-البقرة 190-.

والله أعلم.