رؤية ناصرية للقضية العراقية
[عبد الستار الجميلي]

 

 

رؤية ناصرية للقضية العراقية - 1


عبد الستار الجميلي


إهداء

إلى شهداء التيار القومي الناصري والمعارضة الوطنية في العراق عموماً ، ضحايا القمع المنظم و الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتمييز السياسي والعنصري والطائفي وأسلحة الدمار الشامل لشارون العراق



التيار القومي العربي في العراق.. والنظام الدكتاتوري

في المشهد السياسي العراقي الحالي، ثمة صور كثيرة اختلطت فيها الأوراق على نحو متعمد، في الجانب الأكبر من زاوية النظر.. وفي الجوانب الأخرى، تداخلت ردود الفعل بقصور الرؤية وسوء الفهم..
ومصدر هذا كله، كان أيادي اللاعبين.. وهي كثيرة.. ازدحمت بها حدود الميدان، وهو ميدان ( كما نراه نحن ) اكبر من أن يكون مجرد رهان عادي بين لاعبين محترفين.. وأكثر خطورة.. لأنه يتعلق بمصير شعب، ومستقبل خريطة..
فمصائر الشعوب، حين تحتدم حولها الصراعات، تتحول (بحجمها وخطورتها) إلى ملاحم وبطولات ، وحتى تراجيديات.. على الرغم، من إننا نعيش، أو بدأنا ندخل، في عصر تراجعت فيه المبادئ والبطولات، إلى مستوى عادي وهامشي، وأحيانا بلا ألوان.
والخريطة السياسية، التي يتعلق بها الصراع، قدر لها (كغيرها من الخرائط الشقيقة المجاورة) أن ترسم بأقلام رصاص.. وخطوط الرصاص، بطبيعتها، سهلة على المسح، ولا تترك حتى آثارا، تعيق أيادي اللاعبين، ليرسموا بعد ذلك ما شاءوا من الخرائط والخطوط من جديد.. ومن بين هذه الصور، التي اختلطت فيها الأوراق وردود الفعل بسوء الفهم وقصور الرؤية.. هي علاقة التيار القومي العربي في العراق، بالنظام الدكتاتوري الحالي.. وهي صورة تجسد حجم اللعبة وخطورتها ومستقبليتها.. صورة أريد لها أن تكون- وفق طبيعة الأوراق التي تم خلطها، ودقة اللاعبين وقدرتهم على التخفي والغش-أن تكون، معتمة.. قاتمة.. قبيحة.. قاسية، تماما كالألوان التي تغطي وجه وموقع وحقيقة النظام من هذه الصورة.. ومن اجل الحقيقة.. فلنقترب أكثر من الصورة، لنمعن وندقق النظر..
لا خلاف، بأننا نعيش اليوم، مرحلة من أدق المراحل وأكثرها خطورة وحسما على مستقبلنا ومصيرنا، كشعب ووطن، بعد أكثر من ثلاثة عقود من السنين العجاف، التي جثم فيها على صدورنا وأحلامنا واحد من أكثر الأنظمة دموية ووحشية، التي شهدتها البشرية منذ فجر الحضارة الإنسانية والى الآن.. نظام اتخذ من القتل والإرهاب وسحق روح الإنسان وكرامته، وسيلة وحيدة لبقائه، وحرمنا جميعا حتى من حق الأنين والتوجع.. وفرض على الشعب كله، حالة حصار داخلي وعقاب جماعي مدمر ومروع، بعد أن حطم كامل البنى التحتية والمؤسسات الهيكلية والبنيوية للدولة والمجتمع.. ومارس أبشع عمليات التمييز العنصري والطائفي والتطهير العرقي والابادة الجماعية ضد القوميات والأقليات والطوائف، وفي مقدمتهم الشعب الكردي والعرب الشيعة.. وقسم المواطنين إلى درجات، أولى وثانية وثالثة وهكذا.. واستهتر بعلنية فجة بأبسط حقوق الإنسان وحرياته.. وسرق أموال الشعب العامة بعد أن حولها إلى مال خاص.. وشن حروبا بالنيابة، كان أولها ضد الجارة إيران وشعبها المسلم، خرج منها العراق وبعد ثماني سنوات من محرقة الموت، بأكثر من مليون ضحية، بين شهيد وأسير ومفقود ومعوق، وآلاف من الأيتام والأرامل، واقتصاد مشلول، ومشاكل اجتماعية لا تعد ولا تحصى، وزيادة في حدة التوترات والصراعات والحساسيات الإقليمية والدولية في المنطقة كلها.. ثم تبعها بغزو همجي إقليمي لدولة الكويت الشقيقة، البؤرة الحضارية التي كانت تتنفس-وان على بطء- هواء الديمقراطية النقي، الذي كان يقض مضاجع النظام في مملكة الجحيم التي بناها على الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي لمرحلة بكاملها .. غزو همجي، كان من نتائجه، إن أبواب العراق كلها قد فتحت على مصاريعها لكل الاحتمالات بما فيها التفتيت السياسي والمجتمعي للكيان والمؤسسات والمصائر والعلاقات..
ثم قام بعد ذلك، وخلاله وقبله، بتكبيل المجتمع كله، بإخطبوط جهنمي من القمع الوحشي المنظم، اذرعه الأمن والمخابرات وجهاز الأمن الخاص والمخبرون والحزب، والجيش الذي أفرغه من محتواه ودوره الوطني وكوادره العسكرية الحقيقية، وفق نظام هرمي تسيطر عليه عائلة من الأميين و القتلة و اللصوص يقف على رأسه الدكتاتور الذي عمم على المجتمع كله أعراف و عادات عصابات المافيا و إبادة شخصيته المريضة التي تجردت من كل الصفات الإنسانية و الوطنية و القومية.
تلك هي حقيقة النظام الدكتاتوري..
وكان من بين أكثر الأمور خطورة وعدوانا وظلما على الوعي الوطني والقومي، والوجدان الروحي والإنساني، إن هذا الخراب كله، قد تم تحت إعلام وشعارات تدعي الانتساب إلى العروبة والفكر القومي العربي.. مما أحدث خلطا متعمدا في الأوراق، وسوء فهم مقصود لتراث وواقع ومواقف التيار القومي العربي في العراق، لصالح فكرة خاطئة-هي خطيئة في حقيقتها- حاول النظام الدكتاتوري أن يروج لها لمصلحته، بمختلف الطرق والوسائل، وبمركزية شديدة.. متكررة.. مستمرة.. تدعمه في ذلك جهات عديدة، مأجورة.. أو مخدوعة، أو تركت لنفسها أن تخدع، حتى من داخل التيار القومي العربي في العراق والوطن العربي.. وتلك جزئية كانت مثار آسف وحزن عميقين.. هذه الفكرة الخاطئة والخطيئة، تصور النظام على انه نظام قومي عربي، وانه يخوض حروبا قومية ضد أعداء العرب على غرار حروب عبد الناصر، وانه حامي البوابة الشرقية للأمة العربية.. إلى آخر ادعاءات ومفردات وجزئيات هذه الفكرة التي لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة، بقدر ما تعبر عن رغبة مقصودة لتجميل القبح ببهرج كاذب، منتزع قسرا من حقائق فكرة جميلة ونبيلة في مضامينها ومعانيها.. وبقدر ما تعبر عن حجم التزوير والتجني المتعمدين على الواقع والرموز والأفكار..
وقد زاد من رسوخ هذه الفكرة الزائفة في أحشاء الحقيقة، إن النظام الدكتاتوري قد شهد-خصوصا في السنوات الأخيرة- زيارات متكررة لقيادات وأدباء وفنانين ناصريين من مصر العربية واليمن خصوصا.. كان من بينها زيارة متكررة لخالد جمال عبد الناصر، الذي ارتبط اسمه برمز قومي وتاريخي، لازال الوجدان الشعبـي العربي متعلقا به أملا ومستقبلا.. وهي زيارة أثارت جدلا وردود فعل سلبية حتى على مستوى المواطن العادي في الشارع العراقي.. كما شهدت الفضائيات العربية دفاعا عن النظام الدكتاتوري من قبل قيادات قومية ناصرية، خصوصا مقابلة الأستاذ عبد العزيز مخلوف الأمين العام للتنظيم الشعبـي الناصري في اليمن، أثارت مع كل الأسف الشديد حزنا عميقا لحجم الخديعة التي مارسها ويمارسها النظام الدكتاتوري، إلى حد إن قيادات ومثقفين قوميين ناصريين، يفترض أن يكونوا على قدر كبير من الوعي والمسؤولية القومية، قد انطلت عليهم اللعبة، وصدقوا الادعاءات القومية، لنظام وجد أصلا لقتل الفكرة القومية العربية، وبالتالي راحوا يشاركون-بالوعي وباللاوعي- في تعميم الخديعة وزيف الفكرة على الشعب العربي كله.
وبغية تعرية الزيف كله، وكشف التجني وحجم الخديعة، فإن هذا المقال المتواضع، الذي يأتي من داخل التيار القومي العربي الناصري في العراق، والذي يتشرف كاتبه بأن يكون واحدا من الملتزمين به، يحاول أن يضع الحقائق كما هي، وفي مكانها الصحيح من المشهد السياسي العراقي والعربي، حتى يتبين لشعبنا-الذي سيكون هو في النهاية الحكم والقائد والمعلم مهما بدا الآن مما هو ظاهر من المشهد، أن دوره وإمكانياته معطلة أو مشلولة-يتبين حجم المسافة والرؤى والمواقف والأخلاقيات التي تفصل إلى حد التناقض الجذري والأساسي بين التيار القومي العربي- الناصري منه خصوصا- وبين النظام الدكتاتوري اللاقومي واللاعربي وزيف ادعاءاته.. وخطل الفكرة التي روج ويروج لها، من اجل أن يلصق كل سوءاته، التي بان معدنها الرديء، بالفكر القومي العربي وتراثه التقدمي والإنساني.. وهو منها براء.

* أولى هذه الحقائق:
إن هذا النظام قد جاء بعد انقلاب عسكري، اكتنفه الغموض، وحامت حوله الشكوك منذ يومه الأول، من حيث التوقيت والأطراف والأهداف.. فمن حيث التوقيت/ جاء الانقلاب بعد سنة من الضربة الصهيونية الإمبريالية الخاطفة في (5) حزيران/1967، التي استهدفت من بين ما إستهدفت، وقف المد القومي العربي الذي كان يقوده- فكرا وحركة- جمال عبد الناصر بكل ثقله ووزنه النضالي والتاريخي.. وكانت قد بدأت عقب النكسة مباشرة، بوادر الرد العربي على النكسة، وفق استراتيجية سياسية وعسكرية جديدة، كان العراق واحدا من أهم أطرافها الأساسيين..
- كجيش أولا: تم إعداده وتربيته على عقيدة دفاعية وهجومية في آن واحد، تركزت على عدو خارجي أساسي واحد، هو الكيان الصهيوني والقوى التي تقف معه أو خلفه.
- وكشعب ثانيا: حيث تمت محاولات جادة لإقامة وحدة وطنية حقيقية، تجمع في إطارها الأطراف الأساسية للحركة الوطنية العراقية، وحل القضية الكردية سلميا.. وكانت الأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية والقومية والديمقراطية والكردية في العراق قد بدأت تضغط وبشكل شبه علني على نظام عبد الرحمن عارف بهذا الاتجاه..
- ثم كاقتصاد ثالثا: حيث بدأت خطوات جادة- وكانت في اغلبها سرية- لوضع النفط العراقي- كجزء من النفط العربي- في خدمة المعركة القومية، قد تصل إلى حد التأميم الكامل أو الجزئي، وحسب متطلبات المرحلة..
إذن فالعراق أصبح جزءا من استراتيجية عربية شاملة، اعتمدتها الثورة العربية بقيادة جمال عبد الناصر، جناحاها الجبهتان الغربية والشرقية..
وفي هذا الوقت بالذات، حدث انقلاب 17تموز/1968.. ولم يعطل دور العراق في هذه الاستراتيجية فقط، لكنه عمل بالضد منها تماما، وحاربها بكل ما أوتيت له، من قوى وأساليب وأموال..
ومن حيث الأطراف/ فقد قامت بالانقلاب مجموعتان..

المجموعة الأولى : كانت تنتمي إلى الجناح اليميني في حزب البعث، الذي كان يمثله عفلق؟!!.. والجناح هذا، كان قد أدين من قيادات وقواعد حزب البعث نفسه في الستينات، فضلا عن الإدانة العربية العامة.. بعد أن تكشفت حقيقة ارتباطاته المشبوهة بالدوائر الاستعمارية، حين مارس الخيانة العظمى لقضية الوحدة العربية (جوهر الفكر القومي العربي كله) بشكل علني وسافر، حيث شارك عفلق شخصيا وجناحه اليميني بمؤامرة الانفصال والقضاء على أول تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث.. وهي خيانة ما زالت آثارها ونتائجها السلبية على النضال العربي كله، مستمرة إلى الآن.. كما قاد هذا الجناح نظاما قمعيا وتجربة دموية في كل من العراق وسوريا خلال الستينات، كان القوميون والوطنيون أول الضحايا في تجربتهم المروعة تلك.. كما ساهم هذا الجناح وبشكل مباشر في تخريب كل المحاولات الجادة التي قامت بعد ذلك، لوضع حركة الوحدة العربية وقواها على الطريق الصحيح، وفي مقدمتها ميثاق 17 نيسان 1963 للوحدة بين مصر وسوريا والعراق، وخلق كل الشروط والمقدمات المطلوبة لنكسة 5 حزيران/1967، التي أصابت قضية الوحدة العربية في الصميم..

والمجموعة الثانية : كانت تضم ما سمي في تلك الفترة بـ"حركة الثوريين العرب" المرتبطة مباشرة بالدوائر الغربية الاستعمارية بشكل علني لا يخفى على احد.. وهي حركة أقيمت بالأصل، لقطع الطريق أمام أي تحول ديمقراطي أو اشتراكي أو وحدوي في العراق، لذلك فقد ضمت في إطارها، أكثر العناصر الرجعية عداوة للوحدة العربية والتحولات الثورية.. وكان على رأس جدول اولويات هذه المجموعة منع التيار القومي الناصري من الوصول إلى السلطة في العراق، وبأي ثمن.. وكان دور عناصر هذه المجموعة حاسما في إفشال محاولتين ثوريتين قام يهما الناصريون لاستلام السلطة في العراق خلال حكمي عبد السلام وعبد الرحمن عارف.
هكذا اجتمعت أطراف المؤامرة.. فالهدف والمواقع والأيدي الخفية كانت واحدة.. وان اختلفت الأدوار بعد ذلك، لينفرط العقد، تبعا لاختلاف أيدي اللاعبين..
ومن حيث الهدف: فإن تحليل طبيعة هاتين المجموعتين من حيث الأدوار، والخلفية السياسية، ارتباطا بالوقت الذي نفذا فيه الانقلاب، وهو وقت حافل بالدلالات والاحتمالات الوطنية والقومية، يؤكد لنا، أن الهدف المباشر الذي كان وراء هذا الانقلاب، كما أوضحته الحقائق التي ظهرت مباشرة، من حيث التوقيت والأطراف، أو التي تكشفت فيما بعد.. هو حصار الثورة العربية وعبد الناصر، وتعطيل دور العراق، ومن ثم إلغاؤه من حسابات الموازين السياسية والاستراتيجية عربيا وإقليميا وعالميا، وتأثير ذلك كله على مجمل القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية الوحدة العربية بتجلياتها المتعددة، والتي تركزت فيها، كل عناصر ومفردات إرادة الرد على النكسة، وإعادة البناء، ومن ثم إزالة آثار العدوان، في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ العرب الحديث..

* ثانية هذه الحقائق:
وتأسيسا على الحقيقة الأولى، فإن هذا النظام الدكتاتوري هو ابعد ما يكون عن العروبة وعبد الناصر والفكر القومي العربي.. هذه الرموز والمفردات، التي تشكل تراثا إنسانيا نبيلا، بنته أجيال من المفكرين والمناضلين والجماهير، كانوا في أول قائمة ضحايا النظام.. وهي حقيقة جديرة بالتأمل والانتباه..
نظام يدعي الانتماء إلى العروبة والفكر القومي العربي، لكنه بعد ساعات قليلة فقط من استلامه السلطة، يبطش بالقوميين الناصريين.
أولا وقبل أية قوة أخرى.. وأي بطش..؟
كان النظام قد اعد خطة مسبقة، لتفكيك التيار القومي العربي في العراق، وشل دوره تماما وتهميشه، وبالتالي إخراجه من ميدان التأثير الأساسي في الصراعات المقبلة حول المستقبل والمصير وطنيا وقوميا.. لذلك فإنه ومنذ ليلة 17 تموز الدامية، اتخذ سلسلة إجراءات قمعية، استهدفت هذا التيار، كجبهة رئيسية.. كان في مقدمتها.. اعتقال وإعدام واغتيال وتشويه سمعة قياداته وكوادره ورموزه، والزج بالآلاف من مناضليه في السجون، وبتهم عادية جاهزة (غير سياسية)، والتعتيم الإعلامي على وجودهم.. وتفكيك تنظيماته السياسية.. وملاحقة عناصره حتى خارج العراق، بالاغتيال والخطف والمطاردة.. وقائمة الشهداء من القوميين الناصريين، طويلة، اختلفت فيها طرق الاستشهاد وتنوعت.. من القتل في التعذيب والإعدام والاغتيال والخطف، إلى الحرق والإلقاء في أحواض التيزاب، والاغتصاب أو التهديد به.. وهناك الكثير من جثث هؤلاء الشهداء لم تسلم لذويهم لحد الآن، مما يقطع بأنهم كانوا ضحايا لتجارب الأسلحة الكيماوية والبايولوجية والتسميمية، التي يدفع شعبنا ثمنها الآن، من جهده وماله ومستقبله..
وقد جرى كل ذلك المشهد الدامي، وسط صمت مطبق، للإعلام العربي والغربي، والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان..؟!
وعلى سبيل التوثيق لكل ما قلناه، وتنشيط ذاكرة البعض، التي يبدو إنها ضعفت أو تناست على الأغلب ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر هنا البعض القليل من هؤلاء الشهداء..
1-الشهيد فؤاد ألركابي، طعن في رقبته ونقل من السجن إلى المستشفى مشيا على الأقدام لينزف حتى الموت.
2-الشهيد طلال حامد-خطف من جامعة القاهرة واعدم في بغداد.
3-الشهيد العقيد عبد الستار العبودي- إعدام وحشي.
4-الشهيدان الطياران، الأخوان ماجد وامجد طركي ألجميلي- اعدما معا في بداية السبعينات.
5-الشهيد احمد الجبوري- كان لاجئا سياسيا في سوريا، واغتيل في لبنان.
6-الشهيد متعب صلال ألشمري- اعدم منذ أكثر من عشرين سنة، ولم تسلم جثته لأهله لحد الآن..
7-الشهيد طلال عبد الجبار بكر- اعدم في عام 1982 ولم تسلم جثته لحد الآن..
8-الشهيد محمد يونس أصلان-اعدم عام 1982، ولم تسلم جثته لحد الآن..
9-الشهيد عبد حسين ألجميلي-ادخل قصر النهاية أواخر عام 1970، خرج بعدها فاقدا لعقله تماما، ثم مات بعدها غرقا..
10-الشهيد حميد زيد ألشمري- اعدم في الثمانينات ولم تسلم جثته لحد الآن..
11-الشهيد حسين عليوي ألشمري- اعدم في الثمانينات ولم تسلم جثته لحد الآن..
12-الشهيدة المحامية الهام عزيز كردي-اغتيلت في شوارع بغداد من قبل المخابرات العراقية..
13- الشهيد خالد ألحديثي-اختطف في التسعينات، واعدم ولم تسلم جثته لحد الآن..
14- الشهيد الرائد جابر حسن حداد .
15- الشهيد الرائد سليم مجول المعيني.
16- الشهيد العقيد شاكر الزكم .
17- الشهيد حامد شيحان .
18- الشهيد طلال سعدي .
19- الشهيد اللواء الطبيب راجي التكريتي .
20- الشهيد الملازم الاول جاسم الخفاجي .
21- الشهيد الملازم جميل جزاع الخطيب .
22- الشهيد انور الجميلي .
23- الشهيد العقيد كمال الراوي .
24- الشهيد عائدة عبدالكريم كردي .
25- الشهيد باسل الطائي .
26- الشهيد محمد عبدالرزاق مخلف الحديثي .
27- الشهيد كريم محمد جواد الموصلي.
28- الشهيد عايد احمد درويش الجميلي .
29- الشهيد العميد الركن احمد ذياب الجميلي .
30- الشهيد ابراهيم محمد الحديدي .
31- الشهيد محمد صالح الجبوري .
32- الشهيد احمد ابو طبرة .
33- الشهيد سعد الدليمي .
34- الشهيد طه العاني .
35- الشهيد فرحان الريشاوي .
36- الشهيد عبدالله العلوجي .
37- الشهيد حامد حسن الكروي .
38- الشهيد جعفر سعيد .
39- الشهيد محمود علوان العبيدي .
40- الشهيد طه المشهداني .
41- الشهيد معتز عبد الرزاق الكبيسي .
42- الشهيد الملازم عدنان حسين .
43- الشهيد احمد خالد الدليمي .
44- الشهيد الكاتب والروائي الكبير محمود جنداري-ادخل السجن المؤبد في نهاية الثمانينات، واخرج بعدها بسنوات، منهكا، وفي عام 1995 وجهت إليه دعوة من مهرجان جرش في الأردن وبقي النظام يماطل في الموافقة على سفره، وبعد أن أرهق من قبل النظام ابلغوه بالموافقة على سفره يوم الخميس 13/تموز/1995، ومات في اليوم الثاني بالسكتة القلبية يوم الجمعة 14/تموز/1995..
وغيرهم الكثير.. الكثير من الشهداء والمعتقلين..
من هذه الحقيقة يتبين، إن النظام الدكتاتوري قد سلط آلته القمعية على التيار القومي العربي أولا.. وقبل أية قوة أخرى.. وتلك هي حقيقة الصورة.. صورة العلاقة بين التيار القومي العربي في العراق، والنظام الدكتاتوري، الذي يدعي زورا الانتماء إلى العروبة، والفكر القومي العربي.. انهما على طرفي نقيض في كل شيء..
وتلك هي الحقيقة.. حقيقة الصورة والواقع معا..

* ثالث هذه الحقائق:
بعد أن مارس النظام قمعه المنظم ضد التيار القومي العربي، وتفكيك تنظيماته السياسية، وتشتيت قياداته ورموزه.. بدأ النظام بعد ذلك-وليس قبله- سياسات التمييز العنصري والتطهير العرقي والابادة الجماعية ضد الأكراد والشيعة، وشن حروبه الوهمية بالنيابة، ضد إيران و ضد الكويت العربي، الذي كانت أوامر سرقة شعبه العربي و اغتصاب نسائه العربيات، تصدر من الدكتاتور شخصياً..
و كانت ذروة المأساة، أن الدكتاتور قد مارس وشن تلك السياسات والحروب، باسم العروبة وتحت أعلامها وشعاراتها، وعلى وقع أغانيها الوطنية، التي ذاع صيتها في الخمسينات والستينات إبان المد القومي الناصري..
لكن الحقيقة، كانت بخلاف الواقع وبالضد منه تماما..
فتلك السياسات والحروب، ليست إلا مؤامرة ( بالمعنى المباشر والسلبـي للكلمة ) احكم عقد خيوطها بغبار وضباب كثيفين، اختلط فيهما ( وبشكل مدروس ) الدور ومشاهده المتعددة، بحقائق الواقع الذي كان ينوء تحت ثقل حجر قاس يكتم الأنفاس، ويمنع التشكل المطلوب ( في مثل هذه الحالات ) لصرخة الاحتجاج التي كانت تبحث عن لسان، كان قد قطع ليلة 17/تموز/1968..
وكان لهذه المؤامرة أكثر من وجه..
- كانت هذه المؤامرة، تستهدف أولا، وقبل أي شيء، العروبة(انتماءً وفكرا وحركة) من خلال عمليات التشويه المتعمد، وإلصاق كل الصفات العنصرية والفاشية بها، حتى تقترن لدى الوعي والوجدان الآخر، بهذه العمليات والصفات وحدها، التي هي ابعد ما تكون عن ذلك التراث الإنساني النبيل، الذي نأى بعيدا عن كل تلك الممارسات والأساليب، وأدانها فكرا وحركة..
والتراث القومي العربي الحديث، خصوصا التراث القومي الناصري وموقف عبد الناصر من قضايا الأقليات والطوائف، شاهد نفي لكل تلك الصفات والممارسات، لمن يريد أن يطلع بموضوعية على هذا التراث..
- ومن جهة ثانية، فإن هذه المؤامرة كانت تستهدف إذكاء نار الشعور ألاثني- الطائفي واستخدامه ضد طبيعته وروحه، بما يحدثه من ردود فعل طبيعية كحماية للذات، تتجه مباشرة نحو مصدر الفعل وكل غطاءاته، مما يعقد المشكلة بعد ذلك، ويدخلها في متاهات نفسية وإنسانية، يصعب- أن لم يكن من المستحيل- استئصالها، وبالتالي حلها..
فالنظام الدكتاتوري، مارس عمليات التهجير والتعريب، والتطهير العرقي، والابادة الجماعية، والتمييز العنصري والطائفي ضد الأكراد والشيعة وغيرهم من الأقليات والطوائف، باسم العروبة والفكر القومي العربي، بهدف إحداث ردود فعل لدى الأكراد (كأقلية قومية) والشيعة (كطائفة إسلامية) تتجه مباشرة إلى النظام وصفته القومية العربية التي يدعيها(وهي صفة لا علاقة له بها في الحقيقة)، لتحدث بعد ذلك-كما هو معد ومخطط- القطيعة المقصودة بمتضاداتها الثنائية الرئيسية الشهيرة (عرب/أكراد).. (سنة/شيعة).. وغيرها من الثنائيات المتضادة الأخرى..
والحقيقة هي ليست كذلك على الإطلاق..
فالنظام ليس عربيا، ولا علاقة له بالعروبة، حتى على مستوى الجذور العراقية لقيادة هذا النظام.
إن الحقيقة، كما تبدو من تسلسل الأحداث، تتغلغل في الجسد العربي، المثخن بالجراح والنزف المؤبد.. وذلك هو موضوع الحقيقة الرابعة...
* رابع هذه الحقائق:
إن التحليل الموضوعي لطبيعة القمع والسياسات التي نفذها النظام ضد التيار القومي العربي في العراق والقوى الوطنية الأخرى.. وضد الأقليات والطوائف.. وضد الدول العربية والإسلامية.. والخراب الكامل للبنى والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.. والخدمات الجليلة التي قدمها لصالح رجحان كفة التوازن السياسي والاستراتيجي إلى جانب الكيان الصهيوني والدول الغربية.. يكاد يقطع- إلى حد اليقين الكامل- على إن هذا النظام هو جزء من مخطط اكبر، رسمت ملامحه منذ سنين عديدة، لنسف العروبة والإسلام من الداخل...
إن الغرب الاستعماري، جرب الاحتلال الخارجي وآثاره ونتائجه، وكان الفشل ذريعا على كافة المستويات.. لكنه لم يستسلم.. فكر بطريقة أخرى.. الاحتلال من الداخل...
درس مفردات القوة والضعف في تلك المحاور الجغرافية والسياسية، العربية والإسلامية- والتي سماها الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل بقوس ألازمات-، فوجد إن مكمن القوة الرئيسي في هاتين المنطقتين هو الإسلام والعروبة..
الإسلام، كدين وعقيدة ورابطة، الذي يجمع في إطاره حشودا هائلة من البشر، يصل إيمانها إلى حد الاستشهاد...
والعروبة، كإطار قومي موحد، بالنسبة للعرب الذين يمسكون بين أيديهم، بواحد من أهم عقد الاستراتيجيا الاقتصاد في العالم...
حين ذلك، فكر الغرب الاستعماري-وتلك هي طريقته الحديثة- بخلق شخصيات وتأسس أحزاب، قومية وإسلامية، ليدفع بها بعد ذلك على مسرح الحوادث، أبطالا ومجاهدين.. وحتى شهداء ...
فكان حزب البعث وميشيل عفلق،جزءا من عملية الاحتلال تلك... وهي حقيقة، تنبهت لها بشكل مبكر، وقبل غيرها، قيادات وقواعد حزب البعث العربي الاشتراكي، التي لم ولن ينكر منصف، اسهامهم التاريخي في النضال القومي العربي،.. لذلك كان موقف هذه القيادات والقواعد حاسما وواضحا من عفلق وجناحه اليميني، ومخلوقاته المشوهة.
تلك هي الحقيقة.. وذلك هو الدور.. اللذان تؤكدهما الكثير من الشواهد والوقائع.. حقيقة النظام، ودور الديكتاتورية ..
ولكن، ألا يبدو هذا الطرح متناقضا-على الأقل من حيث الظاهر- مع ما نراه من مواجة مسلحة وعلى الجبهات كافة، بين النظام، والغرب الاستعماري، التي وصلت إلى حد التدخل المسلح لإسقاط هذا النظام.
إن التناقض الظاهري هذا، يزول بإثبات حقيقة، مفادها إن الصراع الحالي بين الدكتاتور والمجتمع الدولي، لا علاقة له بالكرامة والأرض والسيادة الوطنية كما يدعي النظام.. لكن الصراع في مجمله يتركز على الدور، طبيعته وحدوده، ولا علاقة له بالكرامة والأرض والسيادة الوطنية، إلا من حيث مفردات ومظاهر وعناصر، يرتديها الممثلون، وهم يعتلون مسرح الأحداث، ليؤدوا ادوار البطولة والاستشهاد.. وهو دور يرفض الدكتاتور التخلي عنه بحكم تمسكه المجنون بالدم و السلطة .. وهو رفض يشكل خروجا على الدور-دون أن يتناقض معه طبعا-لكنه يحتاج إلى تسوية بين اللاعبين.. ولا ضير في أن تتحول التسوية إلى صراع مسلح مادام الضحايا من غير اللاعبين والممثلين.. وهذا كله موضوع مقالة أخرى..

* خامس هذه الحقائق:
مع فكرة الانتماء إلى الفكر القومي العربي التي روج لها النظام، هناك فكرة أخرى سارت بموازاتها، وبما يكمل ويرسم للنظام صورة أخرى، كان الإعلام الغربي، أكثر من روج لها ولازال.. بتكرارية، تصل بها إلى حد التصديق.. وهي فكرة تخص المعارضة العراقية وطبيعة قواها.
إن الإعلام الغربي-وقبله إعلام النظام ومأجوريه-يصور دائما طبيعة المعارضة العراقية بما يخدم النظام وادعاءاته.. فالنظام لا يواجه في العراق إلا معارضة أثنية-طائفية.. الأكراد الذين يريدون الانفصال في الشمال، والشيعة في الجنوب الذين يريدون ربط العراق بإيران الشيعية؟!!، وهي صورة زائفة، يراد الوصول بها-من خلال التكرار-إلى حالة التصديق اللا شعوري عند الناس...
ومع هذه الفكرة الزائفة-واستكمالا لها- يرسمون للنظام صورة أخرى.. صورة النظام القومي العربي المعتدى عليه، والذي يدافع-انطلاقا من مسؤوليته القومية-عن مستقبل العراق العربي، في مواجهة"الانفصاليين" في الشمال والجنوب.. وهي صورة زائفة لا تقل تزويرا وخطورة عن الفكرة الأولى.. فالمعارضة العراقية، لا تقتصر على فئة أو أقلية أو طائفة دون أخرى.. إنها تشمل كل التيارات العراقية الأساسية من كافة الاتجاهات .. التيار القومي العربي-الناصري خصوصا، الذي كان تيارا معارضا منذ ليلة 17/تموز/1968 الدامية.. والتيار الإسلامي بشقيه السني والشيعي.. والتيار الماركسي بأحزابه وتنظيماته المختلفة.. والتيار الكردي بأحزابه التاريخية وحركته القومية المسلحة.. وكافة الاتجاهات والأقليات الأخرى.. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن المعارضة الكردية والشيعية، ليس في تراثهم أو تاريخهم أو برامجهم ما يشير إلى نيتهم في الانفصال، كما يحاول النظام جاهدا أن يثبت ذلك في الأذهان.
فالأكراد ، كأمة وحركة تحرر قومي، كان هدفهم معلنا وواضحا منذ البداية، الحكم الذاتي، الذي تطور مع الحقائق الجديدة على الأرض، إلى الفيدرالية، ولكنه كان في الحالتين، ضمن وحدة أراضي وسيادة العراق .. وهم لم يحملوا السلاح إلا دفاعا عن وجودهم، الذي استهدف النظام إلغاءه، من خلال أساليبه وممارساته التي اشتهر بها، إلى حد الالتصاق باسم النظام كجزء من طبيعته ودوره... وجرائم الانفال ومأساة حلبجة مازالت محفورة في الذاكرة الإنسانية وستبقى...
أما الشيعة، فهم عرب قبل أي شيء وليسوا أقلية.. وقد اجبرهم النظام (كجزء من خطة الدور) على"الوعي الشيعي الخاص"، بعد أن وصل القتل في مواجهتهم على الهوية الطائفية.. وليس في نيتهم على الإطلاق، ربط العراق بإيران، كما يدعي ويروج النظام.. إن الشيعة قد يرتبطون بأواصر روحية، تحتمها طبيعة مذهبهم الإسلامي، القائم على المراتب الدينية للمرجعيات التي يمثلها رجال الدين، ليس مع إيران وحدها، ولكن مع دول كثيرة يعيش فيها مواطنون من المذهب الشيعي الإسلامي .. لكن هذه الأواصر ليست سياسية، ولا تصل في كل الأحوال إلى حد الارتباط السياسي بإيران كدولة، وبأي شكل من الأشكال..

* سادس هذه الحقائق:
هي تلك الفكرة المتجنية على الوقائع والرموز والأفكار، التي تصور الدكتاتور على أنه عبد الناصر جديد..
وهي فكرة تشكل مع خدعة التصوير و زيفه، عدواناً على الموروث الحضاري و الأخلاقي لأمةٍ بأكملها كان عبد الناصر (أنساناً و فكراً و نضالاً ) تجسيداً و رمزاً له .. كما تمثل حجم التداعي و التصدع و الاستهانة الذي أصاب بنية الوعي العربي، إلى الحد الذي صار فيه من المسموح و الممكن المقارنة بين الرمز.. و المسخ..
فشتان ما بين الرمز ... و المسخ...
لقد مثل عبد الناصر-فكرا وحركة- رمزا إنسانيا، لمشروع قومي عربي جديد، ربط العرب حضاريا بحركة العصر وقيمه.. مشروع تكافأت فيه الأساليب شرفا مع الغايات...
فيما جسد الدكتاتور.. المسخ، حجما مروعا من التشوه النفسي و الأخلاقي لشخصيةٍ مريضة مثلت "إضافة عربية" فريدة و متفردة في سيكولوجية الجريمة و المجرم ليس إلا.
لذلك فإن فكرة المقارنة بينهما لا يهمها المسخ، بقدر ما يهمها مسخ الرمز قبل قتله..
ذلك هو جوهر الفكرة .. استكمالا لفصول المشهد و حركة الممثلين الذين أرهقهم الدور، أمام صلابة و عمق الرمز المتجذر في أعماق الوعي الشعبي العربي.. و هو كأي وعي شعبي، صعب المراس، عصي على التفكيك و الاختراق..
و تكفيفاً للوعي، و بياناً لحجم التجني، و تنشيطاً لذاكرة البعض.. سنعطي أدلةً من الواقع:
 فعلى المستوى الشخصي، عاش عبد الناصر حياة مثالية نادرة حتى بشهادة أعدائه، كان مصدرها تلك القيم الأخلاقية و الاجتماعية للإسلام و العروبة، التي تشربها منذ بداية حياته.. و التي انعكست فيما بعد إيجابياً على عائلته التي بقيت جزءاً من الشعب و لم تكن على مساس بقضايا السلطة و شؤون الحكم..
 أما الدكتاتور، فإن الفضائح الأخلاقية و الاجتماعية له و لعائلته على كل لسان و بالوثائق، إلى الحد الذي يعف قلمي عن ذكرها.. أما طريقة حياة الدكتاتور اليومية و علاقته بالآخرين فإن خلفاء و سلاطين ألف ليلة و ليلة التي بالغ في تصويرها خيال كاتبها الشعبي فيما يخص الترف الذي كان يعيش فيه أولئك الخلفاء و السلاطين.. لا تصل حياتهم و ترفهم إلى واحد بالمئة مما يعيش فيه هذا الدكتاتور المتخلف الذي سرق أموال الشعب العامة بعد أن حولها إلى مال خاص له و لعائلته.. و على سبيل المثال لا الحصر: فإن الدكتاتور لا يأكل إلا لحم الغزال فقط و لا يشرب إلا حليب النوق و الويسكي المستورد.. في الوقت الذي فرض فيه على الناس حالة مجاعة متعمدة..
و فيما يخص علاقته بالناس فإنه قد قسمهم درجات، كل درجة لها حدودها التي لا تتعداها مطلقاً، للوصول إلى مقامه العالي.. الدرجة الدنيا لها حق رؤية بديله فقط (و البدائل متعددون) .. الدرجة الأعلى لها حق رؤيته بشخصه فقط دون الاقتراب منه أو مصافحته.. و الأعلى لها حق مصافحته و تقبيل يده فقط.. و الأعلى تقبيل صدره فقط.. و الأعلى تقبيل كتفه فقط .. و الأعلى لها حق تقبيل وجهه القبيح، و تلك هي حاشيته الخاصة بما فيها العائلة .. إنه " الإله " الأوحد .. الموحد (( حاشا الآله الواحد الأوحد )) ، الذي فرض على الشعب يومياً أن يمارس طقوس عبادة شخصيته المريضة.. وويلُ لمن لا يسبح بحمد الدكتاتور.. لأنه سيكون طعاماً لكلاب عدي البوليسية المجوعة لهذا الغرض .. و تلك ليست مبالغة إنها الحقيقة التي يعرفها أبسط مواطن عراقي.. واحد من ضحايا الدكتاتور استشهد بهذه الطريقة، وهو الشهيد الدكتور راجي التكريتي احد القيادات الناصرية في العراق و من العسكريين القلائل الذين كانوا في الاتحاد الاشتراكي العربي في الستينات، اتهمه الدكتاتور بالإعداد لانقلاب عسكري في التسعينيات فأطعموه هو و من كان معه لكلاب عدي البوليسية و كتبوا في شهادة الوفاة، مات بالسكتة القلبية..
 أما على الصعيد السياسي .. فقد خاض عبد الناصر حروباً قومية لم يكن الباديء فيها أبداً، مع أن الحق كان إلى جانبه دائماً.. حرب 1956 .. و الوحدة و الانفصال.. و حرب اليمن.. و حرب 1967 ، و غيرها الكثير.. لكنه لم يغزو أبداً بلداً عربياً أو أجنبياً .. و عندما واجه مؤامرة الانفصال التي قام بها عفلق و جناحه اليميني، رفض أن يرسل الجيش لسحق هذا الانفصال، و كان قادراً على ذلك، لأنه فضل – إنسانياً و أخلاقياً – أن لا يكون سبباً في إراقة قطرة دم عربية واحدة بأيدي عربية ..
وقد واجه عبد الناصر كذلك قضايا الأقليات و الطوائف، داخل مصر و على مستوى الوطن العربي، بنفس الروح الإنسانية و الموقف الأخلاقي و التقدمي الأصيل لفكره القومي العربي.. ذلك الفكر الذي أستوعب داخله – دون أن يلغي خصوصيتها – كل تلك التقسيمات الأثنية – الطائفية في إطار المجتمع المدني و قيمه الحضارية، و في مقدمتها قيم المواطنة و التسامح الفكري و الديني و الأخوة القومية.. لذلك فإن مسألة الأقباط – مثلاً في عصر عبد الناصر لم تشهد أي احتكاك سلبي يستحق الذكر.. و في عصر عبد الناصر أيضاً أدخل المذهب الشيعي كمذهب خامس يدرس في الجامع الأزهر ..
كما واجه عبد الناصر مشكله القوميات على مستوى الوطن العربي، فحين تحققت بعض الشروط الموضوعية و الذاتية لتحقيق الوحدة بين مصر والعراق بعد حركة 18 تشرين 1963، رفض عبد الناصر الوحدة إلا بعد تحقق وحدة وطنية داخل العراق يدخل إليها الأكراد مختارين و ليس مكرهين..
أما الدكتاتور فحدث و لا حرج .. فإن سجل الطاغية في هذا المجال لم تشهد له البشرية مثيلاً حتى في العصر الحجري .. إن هولاكو و هتلر و الكيان الصهيوني و كل مجرمي التاريخ الإنساني هم حالات مثالية مقارنةً بالدكتاتور التي وصلت أساليبه إلى حدود لا يستوعب آلياتها إلا من عاش تحت وطأتها عن قرب و تماس يومي، لأنه لا يمكن لعقل بشري بعيد مكانياً عن الحقيقة، أن يتصور أنه يمكن أن تصل الوحشية و البدائية و الهمجية إلى هذا الحد من التدمير و الإفناء للإنسان الآخر في نهاية القرن العشرين قرن الحضارة و العلم و الديمقراطية و حقوق الإنسان و القوميات و الأقليات و الأديان والمذاهب ..
لقد مارس هذا الدكتاتور كل أنواع الجرائم و الأساليب و الممارسات الوحشية التي عرفتها البشرية و التي لم تعرفها بعد .. مارس القتل بكل أنواعه ، و الإبادة الجماعية (الجينوسايد) و التطهير العرقي ، و التمييز العنصري و الطائفي .. و دفن الأحياء و الأموات في مقابر جماعية و في أعماق سجون مظلمة تحت الأرض طالت حتى غوائل بأكملها .. رجالاً و نساءً.. أطفالاً و شيوخاً .. فتياناً و شباباً و لا زالت هناك غوائل بأكملها تعيش منذ أكثر من عشرين سنة في سجون مظلمة تحت الأرض و رجالُ (منهم الناصريين) لم يعرف لهم مصير لحد الآن ، لأن الدكتاتور قد غيبهم في سجون لا يفوقها عدد إلا صوره و جدارياته الخاصة التي فاقت عدد سكان العراق أضعافاً مضاعفة..
و بعد كل هذا الخراب السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الأخلاقي الذي أحدثه الدكتاتور في العراق و الوطن العربي يتحدثون عن عبد الناصر جديد .. لتصبح المقارنة جريمة كاملة ضد التأريخ و الواقع و الرمز و كل الأجيال العربية الحالية أو التي لا زالت تطرق أبواب الحياة.


* سابع هذه الحقائق وآخرها:
إن النظام الدكتاتوري، لم يوجه قمعه ضد العروبة، كتيار سياسي فقط.. لكنه وجه قمعه ضد العرب، بكل تشكيلاتهم السياسية والاجتماعية الأخرى.. حالهم في ذلك حال الشعب كله، الذي كان يتلقى القمع والوحشية، تماما كالحصص التموينية، أفرادا وجماعات..
فالأحزاب الوطنية العراقية الأخرى، التي يشكل العرب القسم الأكبر منها (الشيوعية والإسلامية والديمقراطية... الخ) كان لها نصيبها من هذا القمع الوحشي، الذي وصل حدودا فاقت كل تصور واحتمال... والعشائر العربية العراقية، هي الأخرى، لم تسلم، من قمع النظام وتخريبه الاجتماعي والأخلاقي، إذ دخل هذا النظام حتى باطن بنيتها التقليدية، من خلال عملية خلق أجنحة متصارعة داخل العشيرة الواحدة.. ينصب لها شيوخ ومخاتير ووجوه، ليشغلهم بعد ذلك في عملية الصراع على النفوذ والوجاهة والرشوة، التي يخصصها كحصة ثابتة، لمن يثبت جدارة في الولاء للنظام.. والجدارة تتمثل دائما، بحجم التقارير والمعلومات التجسسية، -خصوصا عن ذوي الرحم والقرابة- التي يقدمها هذا الشيخ أو ذاك المختار لأجهزة النظام الأمنية.. وحين يكتشف إن احد أفراد العشيرة، قد عبر عن تمرده ضد النظام، بالقول أو بالعمل، فان غضب النظام وعنفه وقمعه، يتعدى درجة القرابة الرابعة، ليطال العشيرة كلها.. تبدأ بعدها عمليات تصفية وإبعاد وحركة تنقلات مدنية وعسكرية في الدولة كلها لأبناء العشيرة، التي تجرأ واحد من أبنائها على تحدي الصنم، الأوحد.. المؤبد..
وقد طالت هذه السياسة القمعية، عشائر عربية أصيلة في جذورها الوطنية والقومية.. كعشائر الجميلة في الرمادي والموصل.. والجبور في الموصل وصلاح الدين.. والدليم في الانبار .. والعبيد في كركوك.. وقائمة طويلة من العشائر العربية في الجنوب.. وغيرها الكثير من العشائر العربية التي اكتوت بنار النظام وذاقت الأمرين من سياسة التعسف والتمييز والقمع، التي طالت حتى الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى الانتماء إلى هذه العشيرة اوتلك...
بعد كل هذه الحقائق السبعة، التي حاولنا أن نعرضها بموضوعية تليق بخطورة الموقف وطبيعة المرحلة...
هل يبقى هناك مجال لتلك الصورة الزائفة، التي اختلطت فيها الأوراق بردود الفعل وسوء الفهم وقصور الرؤية..؟
وهل يبقى هناك مجال، للحديث عن علاقة-أية علاقة- بين التيار القومي العربي في العراق.. والنظام الدكتاتوري الحالي..؟
وهل يمكن الحديث بعد ذلك، عن صفة قومية-أية صفة قومية- لهذا النظام الدكتاتوري، أو انتماء له-أي انتماء- للفكر القومي كما يدعي..؟ إن الإجابة المنصفة.. الموضوعية.. ستكون -حتما- لا...
وهي إجابة إذا قدر لها أن تأخذ مكانها الصحيح في المشهد السياسي العراقي الحالي-الذي يعاني من غياب ملحوظ للتيار القومي العربي لأسباب تتعلق بالتيار نفسه وموقف الأطراف الأخرى وهي أسباب ستكون موضوعا لمقالة أخرى أيضا- فإن ذلك كله، سينعكس ايجابيا على إطار وحركة المعارضة العراقية، ووحدة برنامجها الوطني الديمقراطي، المتمثل بإقامة نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي، كبديل وطني للنظام الدكتاتوري الحالي...



رؤية ناصرية للقضية العراقية 2 - عبد الستار الجميلي



التيار القومي العربي في العراق والمعارضة العراقية

إن التيار القومي العربي في العراق، هو تيار عريض، عميق الجذور في التربة العراقية، ويضم مدارس واتجاهات وأحزابا متعددة وحتى متناقضة، لذلك لابد من التأكيد في البدء على أن ما يهمنا في هذا المقال، ليس التيار القومي في إطاره العريض، وإنما الذي يهمنا هو خطه الأساسي الذي بدأ يتشكل في العراق، داخل هذا التيار، مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كتيار سياسي قومي مرتبط بالمضامين السياسية والاجتماعية والحضارية، التي بدأ جمال عبد الناصر يبلورها، فكرا وحركة، مع بروزه كقائد لحركة التحرر القومي العربي، بعد انتصاره السياسي في معارك السويس عام 1956، ثم في معاركه القومية الأخرى وإنجازاته الفكرية والسياسية، ثم الإضافات النظرية والفكرية الأساسية لجيل من المفكرين والمنظرين والمثقفين المرتبطين بهذا الخط، حيث تشكلت نظرية ورؤية ثورية لتغيير الواقع العربي ارتبطت بجمال عبد الناصر، اصطلح على تسميتها في الفكر السياسي المعاصر بـ (الناصرية) .. لذلك فإن دلالة مصطلح(التيار القومي العربي) ستكون مرتبطة بخطه الناصري الأساسي عندنا، في هذا المقال وغيره...
ولما كان بحثنا هذا، عن علاقة بين التيار القومي الناصري والمعارضة العراقية ينطلق من إيمان عميق بأهمية ومحورية هذه العلاقة، فإنه لابد من رسم ملامح عامة لصورة المعارضة العراقية في خطها العام خلال التسعينات، امتدادا للمراحل السابقة، وكما ينظر إليها الداخل- الذي نزعم أنّا كنا جزءا منه خلال ثلاثة عقود- وليس كما تنظر هي إلى نفسها.. وهي صورة لابد منها، في أي تصور لعلاقة ممكنة معها، خصوصا، إذا كان هذا التصور يصدر من داخل تيار أساسي، يصب في واحد من أهم مرجعياتها التاريخية..
قبل 2/آب/1990، لم تأخذ المعارضة العراقية، كل هذا الحيز من الاهتمام السياسي والإعلامي، لكل المحاور العربية والإقليمية والعالمية، الذي أخذته مع غزو النظام الديكتاتوري لدولة الكويت الشقيقة، وما تبعه من تطورات ارتبطت به، وفي مقدمتها حرب تحرير الكويت، التي اشتركت فيها فعليا أو رمزيا الكثير من دول العالم، بما فيها عدد من الدول العربية.. ثم الانتفاضة الشعبية الثورية المجيدة في آذار/1991.. كان التعتيم على وجود المعارضة العراقية، قد وصل حدودا، تصورت فيها شعوب العالم، إن الشعب العراقي، المشهور بضميره الوطني ووجدانه الثوري، قد استسلم بكامل قواه ومكوناته السياسية والاجتماعية، لقوى النظام الغاشمة.. وكان لهذا التعتيم أسبابه.. وهي في أغلبها أسباب غير مشروعة .. وكان من بينها قمع النظام والمصالح الدولية..
لكن غزو الكويت الهمجي الإقليمي، وما تبعه من تطورات، قد جاءت معها، بحقائق عديدة، طبعت المراحل اللاحقة كلها بطابعها المباشر..
فبالإضافة إلى الحقائق المتعلقة بسقوط أقنعة النظام القومية، وظهور وجهه الحقيقي، كنظام فاشي يميني إقليمي.. والحقائق المتعلقة برجحان كفة التوازن السياسي والاستراتيجي لصالح الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني في المنطقة العربية كلها، ثم الحقائق المتعلقة بانفتاح أبواب العراق لتدويل كل شيء.. بالإضافة إلى هذه الحقائق وغيرها..
كان غزو الكويت، قد لفت الانتباه وشد الوعي في العالم كله إلى حقيقة أخرى، هامة وجوهرية.. وهي حقيقة وجود المعارضة العراقية، كقوى فاعلة، استطاعت خلال أيام من شهر آذار/1991، أن تحقق انتفاضة شعبية هائلة في كل شبر من أرض العراق.. إشترك فيها الشعب العراقي كله، وليس العرب الشيعة والأكراد لوحدهم كما يدعي النظام ومأجوروه والإعلام الغربي بنغمته المعهودة.. وكانت هذه الانتفاضة- بحق وبكل المقاييس- أضخم عمل شعبـي ثوري خلال القرن العشرين كله، ضد الديكتاتورية وقمع الحريات .. فلأول مرة- خلال القرن العشرين- يشترك شعب بأكمله –نعم بأكمله-في إعلان ثورة شعبية بهذا الحجم الهائل من العمق والاتساع، إلى الحد الذي تجاوزت فيه كل قيادات وخطط المراكز السياسية والميدانية للانتفاضة والمعارضة العراقية التي فوجئت قبل غيرها بذلك المخزون الثوري الهائل، الذي تفجر فجأة ليهز الأرض، لا من تحت أقدام النظام الديكتاتوري الذي سقط وحسب، ولكن حتى من تحت أقدام قوى كثيرة تهددت مصالحها مباشرة.. لذلك كان الاتفاق سريعا بين الأطراف لوقف ذلك الزلزال الشعبـي، وتلافي خطورة نتائجه الواقعة والمحتملة.. بين النظام الديكتاتوري الذي حمل عصاه وعاره على كتفيه واستعد للرحيل الأبدي، والقوى الدولية التي رأت أمام عيونها الذاهلة إن ثمار انتصارها السريع، ستؤول إلى قوى أخرى، غيرها حتما.. فكان أن أعطى جورج بوش الضوء الأخضر، لغورباتشوف.. لبريماكوف.. ثم للسفارة السوفيتية في بغداد.. ليبدأ النظام بعد ذلك، عملية سحق الانتفاضة الشعبية بوحشية ودموية، لم تشهد لها البشرية مثيلا إلا في الكوابيس وأخيلة المرضى النفسانيين من آكلة لحوم البشر.. وتشويه صورتها وإنجازاتها، وإلصاق أبشع الصفات بجنودها، مع أن الشعب كله، كان جنودا لها..
لكن المعارضة العراقية، رغم النكسة العارضة، لم تستسلم.. بدأت تعيد قواها وتنظم نفسها، مستندة بذلك إلى عمقها الطبيعي، الشعب، الذي تجاوز مع انتفاضة آذار، كل حواجز الخوف والقهر، التي حاول النظام أن يقيمها حتى داخل الأسرة الواحدة.. وبدأ الرأي العام العالمي، يكتشف، بعد أن تحطم جدار القمع والمصالح الدولية، وأمام أطنان الوثائق والمعلومات والحقائق، بدأ يكتشف عمق المأساة التي يعيشها الشعب العراقي بكل فئاته وأقلياته وطوائفه، والتي فاقت كل حدود للتصور.. فتحركت الأمم ‏المتحدة ومنظماتها، وعدد كبير من القوى المعنوية في الألم، وبدأ الضغط يتزايد باتجاه تفهم معاناة هذا الشعب، ومساعدته في خلق كافة الشروط الإنسانية المطلوبة للتغيير الثوري الديموقراطي الشامل، الذي ينهي عقودا طويلة من الاستبداد وقمع الحريات وسحق روح الإنسان وكرامته، والتمييز العنصري والطائفي والتطهير العرقي والابادة الجماعية.. من هنا بدأ العالم يتفهم أكثر حقيقة المعارضة العراقية، وشرعية مطاليبها وأهدافها، ودورها الموضوعي في إجراء هذا التغيير، وإقامة البديل الوطني الديموقراطي الذي يتيح للشعب العراقي فرصة إنهاء معاناته والمساهمة الايجابية في صنع الحياة داخله ومن حوله.. وكان مركز الضغط الرئيسي قد توجه إلى مجلس الأمن(الممثل الحقيقي لمصالح القوى الكبرى) ليذكر العالم كله، بواجبه الإنساني والأخلاقي تجاه شعب، وصلت بدائية وهمجية ووحشية الدكتاتور الذي يحكمه، حجما هائلا من التدمير والإفناء للآخر، لا يمكن لعقل بشري أن يصدقه أو حتى أن يتصوره في القرن العشرين، قرن الحضارة والعلم وحقوق الإنسان.. مما ساعد المعارضة العراقية على تحقيق إنجازات لا يستهان بها خلال فترة زمنية قياسية.. وكانت الذروة في هذه الإنجازات وأهمها على الإطلاق- من الناحية الاستراتيجية العملياتية- هو خلق قاعدة آمنة داخل العراق.. فكانت أرض كردستان المحررة، هي القاعدة والمنطلق الأمين لقوى المعارضة من داخل الوطن المستباح.. وبدأت قوى المعارضة العراقية، تضع أقدامها على الطريق الصحيح.. وكان الطريق الصحيح بالنسبة للجميع، هو ضرورة وحدة عملها السياسي وبرنامجها الوطني الديموقراطي ولو في حدوده الدنيا من الأساسية، القومية والإسلامية والماركسية والكردية وباقي الأقليات، من ناحية أخرى..
وكان أن طرحت عدة إطارات لإمكانية تحقيق هذه الضرورات.. وقد تحقق الكثير على هذا الطريق.. بحيث صار من الممكن الحديث عن المعارضة العراقية والتعامل مع صورتها الواحدة، العامة، ولو في حدودها الدنيا..
هذه هي قوى المعارضة العراقية في خطها العام، خلال التسعينات، كما بدت صورتها أمام الداخل.. صورة واحدة، بهدف مركزي واحد رغم كل الاختلافات.. وهي حقيقة جديرة بأن تأخذها المعارضة العراقية بنظر الاعتبار.. التغيير والديمقراطية ولاشيء قبلهما الآن..
لكن هذه الصورة العامة للمعارضة، كانت قد أتت معها بجوانب أخرى للصورة.. ناقصة.. أو غامضة.. أو ضبابية، كانت مثارا للإحباط والقلق معا لقوى كثيرة، من بينها الجماهير القومية الناصرية..
- كانت الصورة، مؤشرا واضحا على غياب فعلي للتيار القومي الناصري، على الرغم من انه تيار أساسي، يمتلك جماهيرية واسعة، ومصداقية فكرية، ومرجعية تاريخية عميقة الجذور.. وكان في طليعة القوى السياسية التي قادت الشارع العراقي خلال فترة الخمسينات والستينات، وفي طليعة القوى المعارضة للنظام الديكتاتوري منذ ليلة 17/تموز/1968 الدامية والى الآن..
- وفي مقابل هذا الغياب- وربما كنتيجة له في واحد من الأسباب-، كانت هناك قوى أخرى قد اقتحمت صورة المعارضة العراقية قسراً أو خلسة، لتحتل ألاماكن، إلى جانب قواها الأساسية المتعارف عليها تاريخيا، والتي قامت على أكتافها وتضحياتها وحدها، صورة المعارضة العراقية، وتقاليدها السياسية والنضالية.. كانت القوى التي اقتحمت متعددة، لكن الذي برز- فجأة- أربعة نماذج، كانت هامشية بالأصل..
كان البعض- الذي أقتحم - في السابق، جزءا من النظام الديكتاتوري، أو محسوبا عليه، أو مهادنا له.. والبعض الآخر، لا يمتلك جذورا تذكر في التربة العراقية، التي كانت عصية في كل المراحل، لكنه جرب أن يزرع جذورا انسياقا مع التصور العام الذي أخذ يستسهل-خطأ- كل شيء.. والبعض الثالث، حاول أن يستخرج من جثث ماضي تشكيل الدولة العراقية القريب، أشباحا، ليدفع بها عنوة في حاضر ومستقبل، لم يعد لهم فيهما وجود، من حيث إنهم امتداد لهذا الماضي.. والبعض الرابع، حاول أن يتخذ من العشيرة لافتة سياسية، يداري فيها افتقاده للعمق التنظيمي وربما فشله السياسي أيضا، في عصر دخل فيه العالم فعلا، آليات وعلاقات الإنتاج الكبير والدول العملاقة..
وكان كلا الجانبين- الغياب والاقتحام- مؤشرا سلبيا، كان وراء الكثير من جوانب القصور في حركة المعارضة العراقية، وكان-أيضا- وراء الكثير من الحملات- أو الحروب بالأصح- التي شنتها قوى كثيرة ضد المعارضة العراقية، لتشويه صورتها الحقيقية العامة أمام الرأي العام، خدمة للنظام الديكتاتوري الذي لم يعد سقوطه، ضرورة وطنية تخص العراقيين وحدهم، لكن سقوطه بات ضرورة عربية وإقليمية ودولية..
لهذا كان الغياب والاقتحام، كلاهما مصدر إحباط وقلق لدى قوى كثيرة..كان غياب التيار القومي الناصري من صورة المعارضة العراقية، مصدر إحباط لدى الجماهير القومية الناصرية في العراق، ومع الإحباط زيادة في حدة معاناتها وأزمتها.. فها هي-وقد حانت لحظة الفعل الحقيقي- غائبة أو مغيبة رغما عنها.. مع أنها- أي الجماهير القومية الناصرية- كانت تيارا معارضا رئيسيا للنظام منذ ليلة 17تموز والى الآن .. فكيف تبعد وتستبعد بهذه الطريقة..؟
وكان لهذا الغياب أسبابه.. بعضها يعود إلى النظام الديكتاتوري، وبعضها الآخر يعود إلى المعارضة العراقية أو أطراف منها تحديدا.. لكن أهم الأسباب هي ما يعود إلى قيادات وتنظيمات التيار القومي الناصري نفسه..
* ففيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى النظام، فيمكن إجمالها بنقطتين، كنا قد أشرنا إليهما في مقالتنا المنشورة في جريدة (الاتحاد) الغراء بعدديها المرقمين(344،345) وتحت عنوان(التيار القومي العربي في العراق.. والنظام الديكتاتوري).. وهما:
الأولى: القمع المنظم الذي مارسه النظام الديكتاتوري ضد التيار القومي الناصري منذ فجر ليلة 17تموز، الذي استهدف من خلاله تفكيك هذا التيار وتنظيماته السياسية، وبالتالي إخراجه من ساحة الفعل الحقيقي- أو تحييده بالأقل- حين تحين معارك المستقبل والمصير(وهي مرحلة نعيشها الآن)..
الثانية: الممارسات والأساليب الفاشية والعنصرية واللا إنسانية ضد القوى الوطنية الأخرى والأقليات والطوائف والدول العربية والإسلامية، التي شنها النظام الديكتاتوري، تحت إعلام وشعارات قومية، وهو أبعد ما يكون عنها.. أحدثت ردود فعل لدى الآخرين(ضحايا هذه الممارسات والأساليب) من العروبة والفكر القومي العربي، كان تأثيرها سلبيا على موقف التيار القومي الناصري وجماهيره في الداخل.. كان على التيار القومي الناصري، أن يحارب على عدة جبهات.. كان عليه أن يواجه قمع النظام - كجزء من الشعب وقواه الوطنية- وكان هو أول ضحاياه.. وكانت عليه مسؤولية إثبات براءة العروبة وفكرها القومي، من هذه الأساليب والنظام الذي يمارسها باسمها زورا وعدوانا.. وكان عليه من جهة ثالثة، أن يواجه ويتحمل سيل الأسئلة والإدانة، من شعب مطحون بحصار النظام وقمعه، لموقف بعض الإخوة الناصريين في الوطن العربي، ممن بدؤا يتوافدون-بشكل أثار الاستغراب والدهشة والصدمة- على النظام الديكتاتوري، ليشاركوا بعد ذلك في رسم صورة للنظام، مغايرة للواقع، سياسيا وأخلاقيا، تماما.. صورة النظام القومي العربي..
* وفيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى المعارضة العراقية، فإنه يمكن إجمالها أيضا بنقطتين..
الأولى: القراءة الناقصة للواقع من قبل المعارضة العراقية، قادت إلى عدم إدراك الكثير من أطرافها، لطبيعة المعارضة العراقية في صورتها الجديدة، كنتيجة مباشرة للانتفاضة المجيدة في آذار/1991.. لقد دخلت المعارضة العراقية ميدان المواجهة الفعلية ضد النظام، مع الانتفاضة وبعدها-كنتيجة محتمة لها-، وكان عليها في مواجهة ذلك، أن تعيد الحسابات والموازين، من جديد، وعلى أساس الدروس المستخلصة من الانتفاضة... كان الظاهر يؤشر على إن الانتفاضة قد سحقت على صعيد العمل الثوري الشعبـي المحسوس، لكن الانتفاضة في أعماق وأحاسيس ووجدان الشعب العراقي بكامله، لم يستطع النظام ولن يستطيع سحقها أبدا.. لقد تجاوز الشعب العراقي مع الانتفاضة، حاجز الخوف وحطم جدار القمع، وكان على قيادات المعارضة العراقية، في مواجهة ذلك أن تعيد تجميع طاقات انطلاقها من جديد.. كانت الانتفاضة المجيدة، كتابا مفتوحا لمن يريد أن يقرأ.. والدروس كثيرة..
كان الدرس الأول، إن الشعب هو القائد والمعلم، الذي تحدى كل أدوات وأقبية ووسائل قمع النظام، ولم يرهبه أي شيء، وكان في العطاء -عطاء الشهداء - كريما بلا حدود، حين يشهد عن قرب، وبين صفوفه، صدقا في العمل الثوري وإخلاصا له..
وكان الدرس الثاني، إن نجاح أي عمل ثوري أو تغيير ديموقراطي شامل، مرهون بتحقيق معادلة جوهرية في العمل السياسي، وهي أن يكون الخارج امتدادا للداخل وليس العكس، وهو ما يعني بالدرجة الأولى أن يكون الخارج كله مع الشعب وبينه، ليواجها معا مصيرا واحدا، مادام الخارج قد اختار أن يكون في صف الشعب..
وكان الدرس الثالث- وهو الأهم- إن نجاح الثورة الشعبية- أية ثورة شعبية-متوقف على أن تكون هناك نقطة انطلاقة واحدة (أي نقطة صفر واحدة) لكل القوى الأساسية التي تمسك بخيوط الموقف الشعبـي- وفقا للتحليل الموضوعي ألتأريخي وليس التحليل الذاتي ألقسري- استنادا إلى وحدة عمل وبرنامج هذه القوى، حتى تتمكن من إحداث التغيير المنشود.. لكن الذي حدث في انتفاضة آذار المجيدة، إن نقاط الانطلاق قد تعددت في الشمال والوسط والجنوب، لذلك كان من السهل على النظام ومن خلفه، سحق الانتفاضة..
وكان الدرس الرابع، أنه بعد الانتفاضة، لم يعد بامكان أية قوة، مهما كانت منظمة أو مسلحة، إن تسقط النظام الديكتاتوري لوحدها، لا لأن النظام الديكتاتوري قويا، كما يتخيل البعض، إن النظام أضعف مما هو ظاهر.. لكن حين تلتقي فجأة مصالح النظام العربي والنظام الإقليمي والنظام الدولي، فإن أي نظام- حتى لو كان مخفر شرطة على قارعة الطريق- أقوى من أي شعب مشتت القوى، حتى لو كان مسلحا.. والدروس كثيرة..
لكن الذي حدث إن المعارضة العراقية، لم تستوعب دروس الانتفاضة جيدا، لذلك فإنها لم تستطع أن تحقق ذلك الامتداد الكافي والمطلوب مع الشعب قائدها ومعملها، ولم تبذل جهدا عمليا في تأكيد ضرورة وحدة عملها وبرنامجها الوطني الديمقراطي المستند على قوى الشعب الأساسية، وتساهلت كثيرا في إعطاء دور وحجم للقوى الهامشية..
الثاني: يتعلق بموقف الأطراف التي أسميناها- قوى الاقتحام ألقسري- التي حددنا أربعة نماذج لها.. ومع أننا- من منطلق وطني ديمقراطي- مع توسيع إطار المعارضة بحيث تشمل كل قوى الشعب، مهما كان حجمها أو كانت جذورها، ولسنا مع مصادرة حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم ضد النظام، حتى لو جاء متأخرا لأي سبب من الأسباب التي تخص أصحابها.. إلا أن الذي حدث إن أكثر هذه القوى الهامشية، جاءت إلى المعارضة العراقية لتنقل معها سلبيتين، كانت وراء الكثير من القلق الذي راود قوى كثيرة، من بينها الجماهير القومية الناصرية:
السلبية الأولى: إن أكثر هذه القوى، قد جاءت من مواقع غير ديموقراطية، لتقتحم إطارا ديمقراطيا.. لذلك كانت المفارقة الأولى، وأول صفاتها أنها لا تجيد اللغة الديمقراطية، التي كان ألف بائها يؤكد على قبول الآخر، وعلى(أني قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد لأن ادفع حياتي ثمنا للدفاع عن رأيك..)، وعلى أن جوهر الديمقراطية، يعني دائما وجود الآخر.. وإذا انتفى الآخر، فلا نكون أمام ديمقراطية، وإنما نحن أمام ديكتاتورية.. وجوهر الديكتاتورية دائما- ومهما اختلقت الأساليب- هو إفناء الآخر، ولا فرق ما بين أن يكون الإفناء ماديا (بالسيانيد أو الجينوسايد أو غيرهما) أو معنويا(بكتم الأفواه والأنفس والحريات وغيرها).. لذلك فإن بعض هذه القوى حاولت- ومنذ البدء-أن تفتتح دورها بإفناء الآخر معنويا، ولوكان الآخر، تيارا سياسيا أساسيا، كالتيار القومي الناصري.. لأنها لم تتعلم بعد لغة الديمقراطية، التي تتطور مع النضج النفسي والعقلي والفكري للشعوب والأفراد..
السلبية الثانية: إن الأمر قد وصل ببعض هذه القوى- انطلاقا من مواقعها غير الديمقراطية-حدا، حاولت فيه إلغاء المرجعية القومية العربية التاريخية كلها- وليس التيار القومي الناصري وحده- من خريطة المستقبل السياسي للعراق، متجاوزة بذلك كل القوانين والحقائق الجغرافية والتاريخية والاستراتيجية، التي حددت انتماء العراق القومي إلى الأمة العربية (دون أن يعني ذلك طبعا سلب حق الأقليات القومية الأخرى في العراق في تأكيد وتثبيت حقوقها القومية المشروعة، وفي مقدمتها حق تقرير المصير).. لذلك فقد بدأ الداخل-ومن ضمنه الجماهير القومية الناصرية- يتلقى ولأول مرة، في تاريخ المعارضة العراقية بمرجعياتها الأساسية، آراء منشورة أو مذاعة، تركز على(العراقوية-بمفهومها السلبـي اللاوطني) وتشن حربا على الانتماء القومي العربي إلى حد التسفيه.. وكان أكثر ما يثير القلق إن هذه الآراء كانت تأتي منسوبة إلى المعارضة العراقية بصورتها العامة، وليس إلى أصحابها، مع أن الحقيقة ليست كذلك، استنادا إلى تراث وتقاليد المعارضة العراقية وبرامجها المعلنة.. تلك الجزئية، كانت من بين الأسباب الرئيسية التي كانت وراء غياب التيار القومي الناصري من صورة المعارضة العراقية، أو بالاحرى كانت السبب في تقاعس قيادات وتنظيمات هذا التيار، الموجودة في الخارج عن التعامل-ايجابيا- مع صورة المعارضة العراقية..

* وفيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى التيار القومي نفسه، فيمكن حصرها بالنقاط التالية:
أولا: حالة التشرذم والانقسام التي يعيشها التيار القومي نفسه، وتعدد تنظيماته السياسية، التي اختارت أن تكون بكامل قياداتها وكوادرها المتقدمة خارج العراق، بعد أن تركت القواعد الناصرية تواجه لوحدها قمع النظام وقسوته التي فاقت كل حدود التصور.. حيث كان المناضلون الناصريون يواجهون داخل أقبية النظام وسجونه المتعددة، أقرب الأجلين، الموت أو الأحكام الثقيلة، لتواجه بعد ذلك، عوائلهم خارج السجون، مصائر مجهولة، كان أهونها التشرد والجوع، من دون أن تبذل تنظيماتهم جهدا يذكر في الوفاء بالتزامها السياسي والإنساني والأخلاقي تجاه هؤلاء المناضلين وعوائلهم.. كانت هذه التنظيمات تبخل على مناضليها بالكلمات، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بإطعام جوعى وإيواء أيتام وأرامل..؟.. كانت الجماهير القومية الناصرية موحدة مع شعبها، في نضالها ضد القمع والديكتاتورية.. أما تنظيماتها السياسية في الخارج فكانت مشغولة بوحدة من نوع غريب.. كانت صورتها واحدة في كل الجوانب إلا في شيئين، اسم الأمين العام-وما أكثر الأمناء العامين في تاريخنا-، والتأخير والتقديم في أبواب وجمل برامجهم السياسية الواحدة.. لذلك كله، كانت العلاقة مقطوعة بالكامل تقريبا، بين الجماهير القومية الناصرية في الداخل، وتنظيماتها السياسية التي انتقلت بكامل وجودها إلى الخارج (هناك فرق طبعا، بين أن تكون موجودا بالكامل في الخارج، وبين أن تكون موجودا في الخارج لكنك في نفس الوقت تكون موجودا في الداخل.. إنها معادلة صعبة، لكن الجماهير وحدها القادرة على حلها..).. هذا الانقطاع، جعل من هذه القيادات القومية، مقطوعة الصلة بالداخل من ناحيتين.. ناحية جماهيرها القومية الناصرية، وناحية شعبها العراقي ونبضه العام.. لذلك لم تستطع أن تدرك أن الشعب العراقي كله- بما فيه الجماهير القومية الناصرية- موحد الشعور في اعتبار نفسه عمقا داخليا، للمعارضة العراقية كلها، وبغض النظر عن أي تحفظات تجاه هذه القوة أو تلك.. وانه مع وحدة المعارضة العراقية، لذلك فانه- بما فيه الجماهير القومية الناصرية- ليس على استعداد للتعامل أو التعاون مع أية قوى خارج إطار المعارضة العراقية، التي لم تستطع كل حملات وحروب النظام الديكتاتوري ومرتزقته والمصالح الدولية، أن تشوه صورتها في عيون وأحاسيس ووجدان الشعب العراقي، بما فيه الجماهير القومية الناصرية..
ثانيا: بعد أن اختارت قيادات وتنظيمات التيار القومي الناصري التواجد خارج الوطن، كان عليها أن تدفع ضريبة هذا الاختيار، فجاءت مواقفها السلبية من التعامل مع المعارضة العراقية، متأثرة والى حد كبير بضغط الأنظمة العربية، التي كانوا يتواجدون على ساحاتها، دون أن تدرك بأن خطاب الأنظمة العربية- وبغض النظر عن الشكل أو الشعار - أصبح واحدا في تعامله(الديمقراطي جدا) مع الجماهير العربية، ولا خلاف إلا في اسم الحاكم وعائلته المبجلة.. لذلك فإن مواقفها قد توزعت بين ثلاثة محاور، كانت صدى لمواقف تلك الأنظمة، أو نتيجة محتمة لضغطها..
- كان البعض من هذه القيادات، قد استنكف المشاركة في المشهد السياسي للمعارضة العراقية، تحت دعاوى كثيرة، كان من بينها تقسيم المعارضة العراقية إلى وطنية وغير وطنية.. دون أن يدرك هذا البعض، أن الوطنية في العراق الآن، وبعد ثلاثة عقود من الدم والدموع، تتمثل في أي عمل أول قول يتضمن معنى كلمة(لا..لا للديكتاتور)، حتى لو جاء هذا القول أو ذاك العمل من مجرم محترف مثل(حسين كامل).. وأن هذا التقسيم هو من بضائع النظام الديكتاتوري ومرتزقته، وبعض الأنظمة العربية التي اكتشفت فجأة بأن لها(مصلحة قومية جدا)في التعامل مع النظام الديكتاتوري بعد سنين طويلة من القطيعة.. وأن ما يسمى بـ(المعارضة الوطنية) لاتهم الشعب العراقي -بما فيه الجماهير القومية الناصرية-بأي شيء، لذلك فإنه(أي الشعب العراقي) لا يتعب نفسه حتى بسماع أخبارها..
- والبعض الثاني، فضل عدم التعامل مع المعارضة العراقية، لكي يداري ويستر افتقاده للعمق التنظيمي في الداخل- دون أن يدرك هذا البعض إن عمقه التنظيمي موجود أولا، في الجماهير القومية الناصرية الوفية وبأكثر مما يتوقع، وثانيا، في الشعب العراقي كله الذي يعتبر نفسه عمقا معطاء لكل من يريد أن يعمل بصدق على خلاصه من الديكتاتورية، من قوى المعارضة العراقية وبغض النظر عن انتمائها الفكري أو السياسي...
- والبعض الثالث، وحتى يغطي على فشله السياسي وإفلاسه الفكري، فضل التعامل مع الفكرة- الخطيئة- التي تصور الدكتاتور، بأنه "قائد" قومي عربي، وأنه يحارب الاستعمار على غرار حروب عبد الناصر، وكان في مقدمة هذا البعض الثالث، والأرجح هو الوحيد، (أياد سعيد ثابت)، الذي طعن الجماهير القومية الناصرية، بسلسلة مقالات بائسة في صحف النظام، وهي في ذروة نضالها مع شعبها ضد النظام الديكتاتوري، وكان أخطر ما في عمل هذا البعض الثالث، أنهم حاولوا مع الترويج للخطيئة، وقف عجلة التأريخ، حتى يجنبوا أنفسهم- عند حدوث التغيير الأكيد- مرارة اكتشاف أنهم أصبحوا بلا مستقبل..
ثالثا: وكان فشل القيادات القومية الناصرية الأكبر، هو إخفاقها التام في قراءة الواقع، لذلك كان أقصى ما خرجت به من مواقف وآراء، وعلى سبيل(إسقاط الفرض) إنها طرحت معادلة لا قيمة لها في الواقع على الإطلاق، هذه المعادلة تقول، أن هذه القيادات والتنظيمات(المتواجدة بكاملها في الخارج) مع رفع الحصار، وضد الضربة الأمريكية ومع إسقاط النظام في العراق.. قالت هذا الكلام وانكفأت إلى منافيها الإقليمية العربية(وهي كثيرة والحمد لله) مفعمة بارتياح بعد أن قامت بواجبها الكبير تجاه شعبها وجماهيرها.. ولكن فاتها أن تعلمنا كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة/ الثالوث المقدس على أرض الواقع..؟ وحتى نساهم معها في حل هذه المعادلة، ومن باب التفاعل بين القواعد(ونحن منها) وقياداتها، فإننا نود أن نلفت نظر هذه القيادات إلى الملاحظات التالية على قوة ومرارة بعضها (وهي ملاحظات تخص المعارضة العراقية أيضا):

الملاحظة الأولى: إن ما يسمونه بالحصار الدولي والذي يطالبون برفعه عن الشعب العراقي، هو مجرد أكذوبة لا وجود لها في الواقع على الإطلاق، من نواحي ثلاث:
الناحية الأولى: إن القرارات الدولية التي فرضت الحصار الدولي كنتيجة لغزو النظام الديكتاتوري لدولة الكويت الشقيقة، كانت قد استثنت المواد الغذائية والطبية والإنسانية من هذا الحصار..
الناحية الثانية: إن السوق العراقية كانت ولا تزال تنافس كل الأسواق العربية والإقليمية في المنطقة كلها، من حيث الكم والنوع في البضائع المطروحة، من إبرة الخياطة الصينية والى المواد الاحتياطية للطائرات الروسية والفرنسية والمواد الغذائية والطبية والإنشائية وتحت عين وسمع الأمم ‏المتحدة وعلى مرمى من نقاط تفتيش التحالف الدولي... فضلا عن أن مخازن النظام الحكومية، تغص والى حد الاختناق بالمواد الغذائية والطبية- خصوصا حليب وأدوية الأطفال - بما يكفي لسنين أطول من عمر النظام .. الناحية الثالثة: إن مؤشرات وارد الدخل العراقي لم تتأثر إلا بنسبة طفيفة، لا تزيد على 20%من معدلاتها قبل غزو الكويت الغاشم.. ومصدر هذا الدخل الحالي هو ضخ النفط، كالمعتاد، باستثناء الوسيلة، فالنفط بعد 1990 يُهَرّب إلى كل المنافذ وربما يقارب معدلاته السابقة، وتهريب المواد الغذائية والطبية - خصوصا حليب وأدوية الأطفال - إلى نفس مصادرها التي سبق وان صدرتها، تهريب الآثار والكنوز العراقية، عمولات النظام من الشركات الأجنبية، تصدير منتجات أساسية، التلاعب اليومي بأسعار العملة الصعبة وفي مقدمتها الدولار، والحصول على مبالغ خيالية من فرق السعر.. وغيرها الكثير من المصادر التي يصعب حصرها.. لكن الذي حدث ويحدث فعلا- صدقوا أو لا تصدقوا أيها السادة- إن النظام الديكتاتوري هو الذي يفرض حصارا داخليا مروعا على الشعب العراقي، وبوسائل عديدة.. كان من بينها، انه جرد المواطن العراقي من أية سيولة نقدية كافية لشراء حاجاته من هذا الفائض الغذائي والطبـي الموجود في السوق، بعد أن وضع للحصة التموينية حدودا تجعل من المواطن في حاجة دائمة لشراء ضروراته من السوق المحلية، فيجد المواطن نفسه أمام ثلاثة احتمالات..
الاحتمال الأول : شراء حاجاته المتبقية من السوق، ولكن كيف يحصل على السيولة المطلوبة..؟ فإذا كان موظفا فالراتب الشهري لا يزيد على (4) آلاف دينار، والحد الأدنى لحذاء الطفل (5) آلاف دينار.. والأطفال كثيرون، فماذا يفعل..؟ انه يلجأ حينذاك إلى الرشوة القسرية من مواطنين آخرين، أو الاختلاس من المال العام.. وإذا لم يكن موظفا، فإن عليه أن يعمل في السوق، لكن فرص العمل قليلة، والسوق العراقية- بعد أن سيطرت على منافذها ومفاصلها الأساسية مراكز القوى العليا في النظام- صارت غابة.. ولكل غابة قوانينها التي لا ترحم في اختراق الضمائر مهما كانت حية، إلا استثناءات نادرة.. وإذا لم تكن هناك فرصة عمل، فإنه أمام جوعه المحتم مع عائلته، يلجأ إلى السرقة.. في البداية لوحده، لكنه سينضم لاحقا- شاء أم أبى- إلى آخرين في السرقة المنظمة..
الاحتمال الثاني: أن يبيع جزءا من حصته التموينية ليشتري المتبقي من حاجاته الأساسية، التي تقلصت إلى أدنى مستوياتها الإنسانية في العالم.. ولكن كيف سيعوض النقص الحاصل في المباع من الحصة..؟ سيكون أمامه الاحتمال الأول بكل صوره ونتائجه، أو أن يخرِّج أطفاله من المدرسة، ليبيع عملهم -كسلعة رخيصة- في سوق الحقل الوطني الحيواني للنظام، الذي كان معلم الأطفال قد سبقهم إليه، ليبيع تحت غائلة الجوع حتى شرفه المهني.. أو.. أو..
الاحتمال الثالث: أن ينظم حياته مع عائلته، على العيش ضمن مستوى المتوفر من الحصة.. وهو ما يعني في النهاية تدهور في الحالة الصحية والعقلية والمناعة البايولوجية، وهو ما يتطلب حينذاك، مراجعة الأطباء والصيدليات والمستشفيات.. فمن أين له السيولة النقدية لإشباع جوع الأطباء، وعطش الصيدليات، وغول المستشفيات..؟
وكان من بين الأساليب أيضا، انه قنن الحصص الطبية- خصوصا أدوية وحليب الأطفال- وبما يخلق أزمة دائمة.. ضاغطة.. انه لا يخرج من مخازنه الخاصة إلا القليل.. القليل من المواد الغذائية والطبية- خصوصا أدوية وحليب الأطفال- التي تغص بها تلك المخازن إلى حد الاختناق والفيضان.. لكن ماذا يفعل النظام بالفائض- إلى حد الفيضان- من المواد الغذائية والطبية..؟ لديه ثلاثة خيارات..
الخيار الأول : يقوم بتهريبها عبر كل المنافذ، -خصوصا حليب وأدوية الأطفال- ليستورد، بعد إضافة عائدها إلى عائد النفط المهرب، المرمر، والويسكي الغربي مع الفودكا الروسية، وأسلحة وأدوات قمع الشعب، والسيارات الفارهة للنخبة المتحكمة في كل شيء..
الخيار الثاني : يقوم ببيعها مباشرة إلى سوق الشورجة -خاصة النظام وواجهاته المتعددة- ومن ثم إلى أسواق المحافظات، بالنسبة إلى المواد الغذائية والى الصيدليات والموظفين الصحيين- وما أكثرهم- بالنسبة للأدوية.. لذلك فإن أي دواء ومهما كانت قيمته المادية أو الصحية، متوفر، وأكثر مما هو موجود في أي بلد عربي أو أجنبي.. فإذا كانت هناك أزمة دواء فعلا، فمن أين يأتي الصيادلة والموظفون الصحيون، بكل هذا الزخم الكمي والنوعي من الأدوية، من الباراسيتول إلى دواء القلب والسرطان، وكل ما يحتاجه الطفل من صرخته الأولى بعد الولادة، والى أن يخلف هو أطفالا جدد..
الخيار الثالث : إذا لم يتمكن من التهريب أو البيع لأي سبب، فإنه يقوم بحرق الفائض الغذائي والطبـي، قاطرات بعد قاطرات- خصوصا حليب وأدوية الأطفال- نعم، إن النظام يقوم بحرق الفائض.. صدقوا أو لا تصدقوا..؟!!!.

والضحية بعد ذلك كله، الشعب العراقي الرهينة مع اطفاله، الأطفال الذين يقوم النظام بعد ذلك باستعراض مسرحي لتوابيتهم- التي ملئت اغلبها بالحجارة- في شوارع بغداد، بعد أن كان قد حشد الكثير من وسائل الإعلام المأجورة أو المخدوعة.. لتأتي بعد ذلك الفنانة القديرة "رغدة " لتذرف الدموع على أطفال العراق وشعب العراق، الذين يقتلهم الحصار، بعد أن ورطها عبد العظيم مناف، الذي أعطى هو وجريدته البائسة، المؤجرة، صورة سلبية لكل ما هو نبيل وإنساني في"الناصرية"، والناصرية منه براء .. ثم تقوم الأمم ‏المتحدة ومنظماتها الدولية، وخصوصا اليونيسيف والفاو، بنشر أرقام مذهلة عن عدد الأطفال الذين يموتون شهريا.. والشعب العراقي الذي يتعرض مع بيئته لكارثة إنسانية محتمة بسبب الحصار"الدولي"... والوسائل كثيرة في ذهان الدهاليز المغلقة للدكتاتور، وما ذكرناه من تلك الوسائل ليس إلا من قبيل المثال وليس الحصر... وهي كلها تفضي إلى نتائج منطقية واحدة، استنادا إلى أسبابها ، التي هيأها النظام.. هذه هي اللعبة.. لعبة الدكتاتور في توظيف قوانين المنطق الصارمة(وهي دائما ذات وجهين).. كل سبب يؤدي إلى نتيجة، أو نتائج.. لنكون أمام فساد إداري لم تشهد له المنطقة مثيلا، حتى في زمن الاستعمار العثماني .. انتشار الجريمة المنظمة .. موت الآلاف من الأطفال شهريا .. مظاهر حرمان وتسول وعوائل أرصفة، لم يعرف لها العراق سابقة.. تدهور في الحالة الصحية والعقلية والمناعة البايلوجية.. تدني في كافة مستويات التعليم..هجرة مخيفة للعقول العلمية والثقافية.. انتشار الرذيلة في مجتمع كانت الفضيلة والى وقت قريب أهم مرتكزاته.. وقائمة النتائج تطول... ليصور النظام بعد ذلك، ويتصور العالم معه، أن كل هذه النتائج هي بسبب الحصار" الدولي".. بينما الحقيقة، التي يعرفها كل عراقي في الداخل، أن الحصار" الدولي" مجرد أكذوبة لا سند لها من الواقع، وإنما هي مجرد حجة واهية، ليفرض النظام الديكتاتوري من خلالها أبشع حصار داخلي، طال كرامة الإنسان ومنظومته الإنسانية كلها.. إن أرقام الأمم‏ المتحدة هي صحيحة بنتائجها- أيها السادة-، لكن أسبابها ليس الحصار"الدولي" الذي بقي حبرا على ورق منذ /آب/ 1990، وإنما السبب الوحيد هو حصار النظام الديكتاتوري الداخلي.. فمن يستطيع أن يعلم ضحايا الداخل، مواطن آلامها وأوجاعها..؟ إنه الديكتاتور المتخلف ولا أحد غيره..
فعن أي حصار- أيها السادة- تتكلمون..؟
الملاحظة الثانية : إنكم تطالبون برفض الضربة الأمريكية.. حسنا، نحن معكم في هذا، ولكن ما هو البديل..؟ دعوني أخبركم بحقيقة، قاسية، مريرة.. أحسها غصة في الحلق بحجم الوطن المستباح من أبنائه أولا( أبنائه مجازا طبعا).. هذه الحقيقة تقول بأن الديكتاتور قد مزق الوعي الوطني، وخلخل الروح الوطنية، لدى المواطنين العاديين في الداخل، وهم الأغلبية الساحقة، لأول مرة في تأريخ الشعب العراقي المشهور بعناده وإخلاصه للقضايا الوطنية والقومية، بعد أكثر من ثلاثة عقود من القتل والإرهاب وسحق روح الإنسان وإذلال كرامته، وأخيرا سياسة التجويع، التي حولت المواطن إلى مجرد مخلوق يبحث عن لقمة العيش، وبأية وسيلة، بعد أن سدوا أمامه كل المنافذ وجردوه من كل الاختيارات.. وتلك الحقيقة-حقيقة تمزيق وخلخلة الوعي الوطني والروح الوطنية- تظهر، في حالة التشفي- الوطني-التي تسود الناس جميعا، مثقفيهم وأمييهم، كبيرهم وصغيرهم، نسائهم ورجالهم، عندما تقوم قوات التحالف بتوجيه ضربات جوية أو صاروخية لبغداد أو أي مكان من عراقهم-عراق المواطنين-.. ثم حالة الإحباط واليأس- الوطني- التي تسود الناس، والتي تصل إلى حد الهستيريا والانهيار العصبـي واللساني، حين تعلن وكالات الأنباء عن توقف القصف.. لن أزيد أكثر.. حتى لا تتحول الغصة، إلى رعاف مستمر من الأحاسيس والمشاعر والضمائر والحق والخير والعدل وكل القيم النبيلة الأخرى.. رعاف يعيشه الداخل الوطني، مشنوقا بين حصارين.. قمع النظام، وسياسة التجويع الداخلي.. لن أزيد؟!!!
الملاحظة الثالثة : إن أية قوة وطنية عراقية، لم يعد بامكانها أن تقوم بعملية إسقاط النظام لوحدها- وهي حقيقة اشرنا إليها سابقا في سياق هذا المقال-لأسباب كثيرة.. يأتي العامل الدولي في مقدمتها، فالنظام العربي والإقليمي والدولي، يبدو أنه مصر على أن يكون التغيير، عبر منطقة الحياد المشتركة بين هذه الأنظمة الثلاثة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إطار واسع من قوى المعارضة العراقية، التي تستطيع- بحكم اتجاهاتها وعلاقاتها التي تلتقي مع هذا النظام أو ذاك من الأنظمة الثلاثة ولو في الحد الأدنى- تستطيع إسقاط النظام وإحداث التغيير الوطني الديمقراطي المنشود، وحتى لو استطاعت أية قوة أن تسقط النظام لوحدها، فإننا سنكون-حتما- أمام ديكتاتورية جديدة ومسلسل دموي جديد، بعد أن تعقدت المشكلة الوطنية، غاية التعقيد… ثم أن إسقاط النظام الديكتاتوري، لم يعد هدفا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لإحداث التغيير الديمقراطي الشامل، لأرث كامل من السياسيات التي قادتنا، ومنذ تأسيس الدولة القطرية في العراق، إلى المحصلة التي نعيشها الآن في ظل ديكتاتورية مقيتة، وهو ما يعني إن التغيير يجب أن يكون مستندا إلى برنامج ديمقراطي شامل، فكيف يمكن تنفيذ البرنامج الديمقراطي، بدون إطار يجمع كل قوى المعارضة العراقية، صاحبة المصلحة في إسقاط النظام وبناء نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي... ثم إن المعارضة العراقية- وهذا هو الأهم- هي إطار صالح لأن نتعلم منه لغة الديمقراطية، وتقبل فكرة وجود الآخرين منذ الآن، في عصر، باتت فيه كل المؤشرات تؤكد على أن الإنسان ليس كائنا اجتماعيا وحسب، لكنه كائن ديمقراطي قبل كل شيء.. لأن الديمقراطية هي اللغة الوحيدة- من بين كل اللغات- التي تعلم الإنسان كيف يكون كائنا اجتماعيا، جديرا بالحياة والحرية... ومن هو أجدر ديمقراطيا، من المعارضة العراقية - أقوى وأهم قوى المعارضة في الوطن العربي على الإطلاق، رغم كل حملات وحروب التشهير- من هو أجدر منها، في القيام بالمهمة الوطنية الرئيسية، تعميم الديمقراطية وسيلة وغاية...
إننا كقوميين ناصريين، يجب أن نكون لا جزءا من المعارضة العراقية وحدها، ولكنا يجب أن نكون فصيلا أساسيا في كل معارضة عربية ديمقراطية...
لذلك كله.. وإزاء هذا الواقع بكل إحباطاته وآلامه وآماله وأحلامه، على التيار القومي أن يدرك مسؤوليته تجاه القضية الوطنية، وحاجته الماسة للمعارضة العراقية كإطار ديمقراطي عريض لتحقيق المشروع الوطني الديمقراطي الشامل..
وبقي على المعارضة العراقية، أن تدرك مسؤوليتها تجاه التيار القومي الناصري، وحاجتها إليه، من زاويتين: مسؤوليتها الوطنية، بأن تكون إطارا ديمقراطيا يتسع لكل القوى، خصوصا إذا كانت هذه القوى تيارا شعبيا عريضا، كالتيار القومي الناصري، الذي يصب في واحد من أهم مرجعياتها التاريخية.. وحاجتها إليه، كتيار سياسي، يمتلك أرضية مشتركة مع كل قوى المعارضة، منفردة أو مجتمعة، قد لا تتوفر في تيار غيره.. فهو- مثلا- يلتقي مع العرب الشيعة، على أرضية العروبة والإسلام، وموقفه الإسلامي، يكاد يخلو تماما إلا ما ندر، من أية حساسية طائفية(سنة وشيعة)، وقامت أكثر تنظيماته السياسية منذ الستينات على أكتاف العرب الشيعة .. كما انه يلتقي كذلك، مع الحركة القومية الكردية، على أرضية الفكرة القومية الإنسانية، التي تتسامى على كل أمراض العنصرية والتعصب القومي، لذلك فقد تبنى التيار القومي الناصري، ومنذ البدء، موقفا إنسانيا تقدميا، تجاه القضية القومية الكردية، تجسد في دعم وتأييد أية خطوة تساعد الشعب الكردي- كأمة- في إنجاز حقه المشروع في تقرير المصير، لذلك كان مع الحكم الذاتي، وهو الآن مع الفيدرالية الكردية.. وهو يلتقي- أيضا- مع التيار الماركسي، على أرضية الالتزام الطبقي بالعمل والذين يعملون، والاشتراكية كمضمون اجتماعي واقتصادي في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.. وان اختلفت الأسس الفلسفية والوسائل والغايات في حدودها وآفاقها.. كما يلتقي على أرضية النضال الوطني المشترك - إضافة إلى القوى الأساسية- مع كل قوى المعارضة الأخرى وبكافة اتجاهاتها وانتماءاتها السياسية والفكرية..
بعد هذا العرض كله، يتبين لنا بوضوح، أن شروط العلاقة الممكنة بين التيار القومي الناصري والمعارضة العراقية، وأسسها وآفاقها، قائمة... وضرورية...لكن كيف..؟
تلك مسألة تحتاج إلى إجابة مشتركة من الجانبين.. إجابة تكون في مستوى خطورة المرحلة والمسؤولية معا...


ناحية، وضرورة أن تكون هذه الوحدة ممثلة للمكونات والتيارات السياسية والفكرية والاجتماعية في العراق، بمرجعياتها التاريخية الأساسية، القومية والإسلامية والماركسية والكردية وباقي الأقليات، من ناحية أخرى..
وكان أن طرحت عدة إطارات لإمكانية تحقيق هذه الضرورات.. وقد تحقق الكثير على هذا الطريق.. بحيث صار من الممكن الحديث عن المعارضة العراقية والتعامل مع صورتها الواحدة، العامة، ولو في حدودها الدنيا..
هذه هي قوى المعارضة العراقية في خطها العام، خلال التسعينات، كما بدت صورتها أمام الداخل.. صورة واحدة، بهدف مركزي واحد رغم كل الاختلافات.. وهي حقيقة جديرة بأن تأخذها المعارضة العراقية بنظر الاعتبار.. التغيير والديمقراطية ولاشيء قبلهما الآن..
لكن هذه الصورة العامة للمعارضة، كانت قد أتت معها بجوانب أخرى للصورة.. ناقصة.. أو غامضة.. أو ضبابية، كانت مثارا للإحباط والقلق معا لقوى كثيرة، من بينها الجماهير القومية الناصرية..
- كانت الصورة، مؤشرا واضحا على غياب فعلي للتيار القومي الناصري، على الرغم من انه تيار أساسي، يمتلك جماهيرية واسعة، ومصداقية فكرية، ومرجعية تاريخية عميقة الجذور.. وكان في طليعة القوى السياسية التي قادت الشارع العراقي خلال فترة الخمسينات والستينات، وفي طليعة القوى المعارضة للنظام الديكتاتوري منذ ليلة 17/تموز/1968 الدامية والى الآن..
- وفي مقابل هذا الغياب- وربما كنتيجة له في واحد من الأسباب-، كانت هناك قوى أخرى قد اقتحمت صورة المعارضة العراقية قسراً أو خلسة، لتحتل ألاماكن، إلى جانب قواها الأساسية المتعارف عليها تاريخيا، والتي قامت على أكتافها وتضحياتها وحدها، صورة المعارضة العراقية، وتقاليدها السياسية والنضالية.. كانت القوى التي اقتحمت متعددة، لكن الذي برز- فجأة- أربعة نماذج، كانت هامشية بالأصل..
كان البعض- الذي أقتحم - في السابق، جزءا من النظام الديكتاتوري، أو محسوبا عليه، أو مهادنا له.. والبعض الآخر، لا يمتلك جذورا تذكر في التربة العراقية، التي كانت عصية في كل المراحل، لكنه جرب أن يزرع جذورا انسياقا مع التصور العام الذي أخذ يستسهل-خطأ- كل شيء.. والبعض الثالث، حاول أن يستخرج من جثث ماضي تشكيل الدولة العراقية القريب، أشباحا، ليدفع بها عنوة في حاضر ومستقبل، لم يعد لهم فيهما وجود، من حيث إنهم امتداد لهذا الماضي.. والبعض الرابع، حاول أن يتخذ من العشيرة لافتة سياسية، يداري فيها افتقاده للعمق التنظيمي وربما فشله السياسي أيضا، في عصر دخل فيه العالم فعلا، آليات وعلاقات الإنتاج الكبير والدول العملاقة..
وكان كلا الجانبين- الغياب والاقتحام- مؤشرا سلبيا، كان وراء الكثير من جوانب القصور في حركة المعارضة العراقية، وكان-أيضا- وراء الكثير من الحملات- أو الحروب بالأصح- التي شنتها قوى كثيرة ضد المعارضة العراقية، لتشويه صورتها الحقيقية العامة أمام الرأي العام، خدمة للنظام الديكتاتوري الذي لم يعد سقوطه، ضرورة وطنية تخص العراقيين وحدهم، لكن سقوطه بات ضرورة عربية وإقليمية ودولية..
لهذا كان الغياب والاقتحام، كلاهما مصدر إحباط وقلق لدى قوى كثيرة..كان غياب التيار القومي الناصري من صورة المعارضة العراقية، مصدر إحباط لدى الجماهير القومية الناصرية في العراق، ومع الإحباط زيادة في حدة معاناتها وأزمتها.. فها هي-وقد حانت لحظة الفعل الحقيقي- غائبة أو مغيبة رغما عنها.. مع أنها- أي الجماهير القومية الناصرية- كانت تيارا معارضا رئيسيا للنظام منذ ليلة 17تموز والى الآن .. فكيف تبعد وتستبعد بهذه الطريقة..؟
وكان لهذا الغياب أسبابه.. بعضها يعود إلى النظام الديكتاتوري، وبعضها الآخر يعود إلى المعارضة العراقية أو أطراف منها تحديدا.. لكن أهم الأسباب هي ما يعود إلى قيادات وتنظيمات التيار القومي الناصري نفسه..
* ففيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى النظام، فيمكن إجمالها بنقطتين، كنا قد أشرنا إليهما في مقالتنا المنشورة في جريدة (الاتحاد) الغراء بعدديها المرقمين(344،345) وتحت عنوان(التيار القومي العربي في العراق.. والنظام الديكتاتوري).. وهما:
الأولى: القمع المنظم الذي مارسه النظام الديكتاتوري ضد التيار القومي الناصري منذ فجر ليلة 17تموز، الذي استهدف من خلاله تفكيك هذا التيار وتنظيماته السياسية، وبالتالي إخراجه من ساحة الفعل الحقيقي- أو تحييده بالأقل- حين تحين معارك المستقبل والمصير(وهي مرحلة نعيشها الآن)..
الثانية: الممارسات والأساليب الفاشية والعنصرية واللا إنسانية ضد القوى الوطنية الأخرى والأقليات والطوائف والدول العربية والإسلامية، التي شنها النظام الديكتاتوري، تحت إعلام وشعارات قومية، وهو أبعد ما يكون عنها.. أحدثت ردود فعل لدى الآخرين(ضحايا هذه الممارسات والأساليب) من العروبة والفكر القومي العربي، كان تأثيرها سلبيا على موقف التيار القومي الناصري وجماهيره في الداخل.. كان على التيار القومي الناصري، أن يحارب على عدة جبهات.. كان عليه أن يواجه قمع النظام - كجزء من الشعب وقواه الوطنية- وكان هو أول ضحاياه.. وكانت عليه مسؤولية إثبات براءة العروبة وفكرها القومي، من هذه الأساليب والنظام الذي يمارسها باسمها زورا وعدوانا.. وكان عليه من جهة ثالثة، أن يواجه ويتحمل سيل الأسئلة والإدانة، من شعب مطحون بحصار النظام وقمعه، لموقف بعض الإخوة الناصريين في الوطن العربي، ممن بدؤا يتوافدون-بشكل أثار الاستغراب والدهشة والصدمة- على النظام الديكتاتوري، ليشاركوا بعد ذلك في رسم صورة للنظام، مغايرة للواقع، سياسيا وأخلاقيا، تماما.. صورة النظام القومي العربي..
* وفيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى المعارضة العراقية، فإنه يمكن إجمالها أيضا بنقطتين..
الأولى: القراءة الناقصة للواقع من قبل المعارضة العراقية، قادت إلى عدم إدراك الكثير من أطرافها، لطبيعة المعارضة العراقية في صورتها الجديدة، كنتيجة مباشرة للانتفاضة المجيدة في آذار/1991.. لقد دخلت المعارضة العراقية ميدان المواجهة الفعلية ضد النظام، مع الانتفاضة وبعدها-كنتيجة محتمة لها-، وكان عليها في مواجهة ذلك، أن تعيد الحسابات والموازين، من جديد، وعلى أساس الدروس المستخلصة من الانتفاضة... كان الظاهر يؤشر على إن الانتفاضة قد سحقت على صعيد العمل الثوري الشعبـي المحسوس، لكن الانتفاضة في أعماق وأحاسيس ووجدان الشعب العراقي بكامله، لم يستطع النظام ولن يستطيع سحقها أبدا.. لقد تجاوز الشعب العراقي مع الانتفاضة، حاجز الخوف وحطم جدار القمع، وكان على قيادات المعارضة العراقية، في مواجهة ذلك أن تعيد تجميع طاقات انطلاقها من جديد.. كانت الانتفاضة المجيدة، كتابا مفتوحا لمن يريد أن يقرأ.. والدروس كثيرة..
كان الدرس الأول، إن الشعب هو القائد والمعلم، الذي تحدى كل أدوات وأقبية ووسائل قمع النظام، ولم يرهبه أي شيء، وكان في العطاء -عطاء الشهداء - كريما بلا حدود، حين يشهد عن قرب، وبين صفوفه، صدقا في العمل الثوري وإخلاصا له..
وكان الدرس الثاني، إن نجاح أي عمل ثوري أو تغيير ديموقراطي شامل، مرهون بتحقيق معادلة جوهرية في العمل السياسي، وهي أن يكون الخارج امتدادا للداخل وليس العكس، وهو ما يعني بالدرجة الأولى أن يكون الخارج كله مع الشعب وبينه، ليواجها معا مصيرا واحدا، مادام الخارج قد اختار أن يكون في صف الشعب..
وكان الدرس الثالث- وهو الأهم- إن نجاح الثورة الشعبية- أية ثورة شعبية-متوقف على أن تكون هناك نقطة انطلاقة واحدة (أي نقطة صفر واحدة) لكل القوى الأساسية التي تمسك بخيوط الموقف الشعبـي- وفقا للتحليل الموضوعي ألتأريخي وليس التحليل الذاتي ألقسري- استنادا إلى وحدة عمل وبرنامج هذه القوى، حتى تتمكن من إحداث التغيير المنشود.. لكن الذي حدث في انتفاضة آذار المجيدة، إن نقاط الانطلاق قد تعددت في الشمال والوسط والجنوب، لذلك كان من السهل على النظام ومن خلفه، سحق الانتفاضة..
وكان الدرس الرابع، أنه بعد الانتفاضة، لم يعد بامكان أية قوة، مهما كانت منظمة أو مسلحة، إن تسقط النظام الديكتاتوري لوحدها، لا لأن النظام الديكتاتوري قويا، كما يتخيل البعض، إن النظام أضعف مما هو ظاهر.. لكن حين تلتقي فجأة مصالح النظام العربي والنظام الإقليمي والنظام الدولي، فإن أي نظام- حتى لو كان مخفر شرطة على قارعة الطريق- أقوى من أي شعب مشتت القوى، حتى لو كان مسلحا.. والدروس كثيرة..
لكن الذي حدث إن المعارضة العراقية، لم تستوعب دروس الانتفاضة جيدا، لذلك فإنها لم تستطع أن تحقق ذلك الامتداد الكافي والمطلوب مع الشعب قائدها ومعملها، ولم تبذل جهدا عمليا في تأكيد ضرورة وحدة عملها وبرنامجها الوطني الديمقراطي المستند على قوى الشعب الأساسية، وتساهلت كثيرا في إعطاء دور وحجم للقوى الهامشية..
الثاني: يتعلق بموقف الأطراف التي أسميناها- قوى الاقتحام ألقسري- التي حددنا أربعة نماذج لها.. ومع أننا- من منطلق وطني ديمقراطي- مع توسيع إطار المعارضة بحيث تشمل كل قوى الشعب، مهما كان حجمها أو كانت جذورها، ولسنا مع مصادرة حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم ضد النظام، حتى لو جاء متأخرا لأي سبب من الأسباب التي تخص أصحابها.. إلا أن الذي حدث إن أكثر هذه القوى الهامشية، جاءت إلى المعارضة العراقية لتنقل معها سلبيتين، كانت وراء الكثير من القلق الذي راود قوى كثيرة، من بينها الجماهير القومية الناصرية:
السلبية الأولى: إن أكثر هذه القوى، قد جاءت من مواقع غير ديموقراطية، لتقتحم إطارا ديمقراطيا.. لذلك كانت المفارقة الأولى، وأول صفاتها أنها لا تجيد اللغة الديمقراطية، التي كان ألف بائها يؤكد على قبول الآخر، وعلى(أني قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد لأن ادفع حياتي ثمنا للدفاع عن رأيك..)، وعلى أن جوهر الديمقراطية، يعني دائما وجود الآخر.. وإذا انتفى الآخر، فلا نكون أمام ديمقراطية، وإنما نحن أمام ديكتاتورية.. وجوهر الديكتاتورية دائما- ومهما اختلقت الأساليب- هو إفناء الآخر، ولا فرق ما بين أن يكون الإفناء ماديا (بالسيانيد أو الجينوسايد أو غيرهما) أو معنويا(بكتم الأفواه والأنفس والحريات وغيرها).. لذلك فإن بعض هذه القوى حاولت- ومنذ البدء-أن تفتتح دورها بإفناء الآخر معنويا، ولوكان الآخر، تيارا سياسيا أساسيا، كالتيار القومي الناصري.. لأنها لم تتعلم بعد لغة الديمقراطية، التي تتطور مع النضج النفسي والعقلي والفكري للشعوب والأفراد..
السلبية الثانية: إن الأمر قد وصل ببعض هذه القوى- انطلاقا من مواقعها غير الديمقراطية-حدا، حاولت فيه إلغاء المرجعية القومية العربية التاريخية كلها- وليس التيار القومي الناصري وحده- من خريطة المستقبل السياسي للعراق، متجاوزة بذلك كل القوانين والحقائق الجغرافية والتاريخية والاستراتيجية، التي حددت انتماء العراق القومي إلى الأمة العربية (دون أن يعني ذلك طبعا سلب حق الأقليات القومية الأخرى في العراق في تأكيد وتثبيت حقوقها القومية المشروعة، وفي مقدمتها حق تقرير المصير).. لذلك فقد بدأ الداخل-ومن ضمنه الجماهير القومية الناصرية- يتلقى ولأول مرة، في تاريخ المعارضة العراقية بمرجعياتها الأساسية، آراء منشورة أو مذاعة، تركز على(العراقوية-بمفهومها السلبـي اللاوطني) وتشن حربا على الانتماء القومي العربي إلى حد التسفيه.. وكان أكثر ما يثير القلق إن هذه الآراء كانت تأتي منسوبة إلى المعارضة العراقية بصورتها العامة، وليس إلى أصحابها، مع أن الحقيقة ليست كذلك، استنادا إلى تراث وتقاليد المعارضة العراقية وبرامجها المعلنة.. تلك الجزئية، كانت من بين الأسباب الرئيسية التي كانت وراء غياب التيار القومي الناصري من صورة المعارضة العراقية، أو بالاحرى كانت السبب في تقاعس قيادات وتنظيمات هذا التيار، الموجودة في الخارج عن التعامل-ايجابيا- مع صورة المعارضة العراقية..

* وفيما يتعلق بالأسباب التي تعود إلى التيار القومي نفسه، فيمكن حصرها بالنقاط التالية:
أولا: حالة التشرذم والانقسام التي يعيشها التيار القومي نفسه، وتعدد تنظيماته السياسية، التي اختارت أن تكون بكامل قياداتها وكوادرها المتقدمة خارج العراق، بعد أن تركت القواعد الناصرية تواجه لوحدها قمع النظام وقسوته التي فاقت كل حدود التصور.. حيث كان المناضلون الناصريون يواجهون داخل أقبية النظام وسجونه المتعددة، أقرب الأجلين، الموت أو الأحكام الثقيلة، لتواجه بعد ذلك، عوائلهم خارج السجون، مصائر مجهولة، كان أهونها التشرد والجوع، من دون أن تبذل تنظيماتهم جهدا يذكر في الوفاء بالتزامها السياسي والإنساني والأخلاقي تجاه هؤلاء المناضلين وعوائلهم.. كانت هذه التنظيمات تبخل على مناضليها بالكلمات، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بإطعام جوعى وإيواء أيتام وأرامل..؟.. كانت الجماهير القومية الناصرية موحدة مع شعبها، في نضالها ضد القمع والديكتاتورية.. أما تنظيماتها السياسية في الخارج فكانت مشغولة بوحدة من نوع غريب.. كانت صورتها واحدة في كل الجوانب إلا في شيئين، اسم الأمين العام-وما أكثر الأمناء العامين في تاريخنا-، والتأخير والتقديم في أبواب وجمل برامجهم السياسية الواحدة.. لذلك كله، كانت العلاقة مقطوعة بالكامل تقريبا، بين الجماهير القومية الناصرية في الداخل، وتنظيماتها السياسية التي انتقلت بكامل وجودها إلى الخارج (هناك فرق طبعا، بين أن تكون موجودا بالكامل في الخارج، وبين أن تكون موجودا في الخارج لكنك في نفس الوقت تكون موجودا في الداخل.. إنها معادلة صعبة، لكن الجماهير وحدها القادرة على حلها..).. هذا الانقطاع، جعل من هذه القيادات القومية، مقطوعة الصلة بالداخل من ناحيتين.. ناحية جماهيرها القومية الناصرية، وناحية شعبها العراقي ونبضه العام.. لذلك لم تستطع أن تدرك أن الشعب العراقي كله- بما فيه الجماهير القومية الناصرية- موحد الشعور في اعتبار نفسه عمقا داخليا، للمعارضة العراقية كلها، وبغض النظر عن أي تحفظات تجاه هذه القوة أو تلك.. وانه مع وحدة المعارضة العراقية، لذلك فانه- بما فيه الجماهير القومية الناصرية- ليس على استعداد للتعامل أو التعاون مع أية قوى خارج إطار المعارضة العراقية، التي لم تستطع كل حملات وحروب النظام الديكتاتوري ومرتزقته والمصالح الدولية، أن تشوه صورتها في عيون وأحاسيس ووجدان الشعب العراقي، بما فيه الجماهير القومية الناصرية..
ثانيا: بعد أن اختارت قيادات وتنظيمات التيار القومي الناصري التواجد خارج الوطن، كان عليها أن تدفع ضريبة هذا الاختيار، فجاءت مواقفها السلبية من التعامل مع المعارضة العراقية، متأثرة والى حد كبير بضغط الأنظمة العربية، التي كانوا يتواجدون على ساحاتها، دون أن تدرك بأن خطاب الأنظمة العربية- وبغض النظر عن الشكل أو الشعار - أصبح واحدا في تعامله(الديمقراطي جدا) مع الجماهير العربية، ولا خلاف إلا في اسم الحاكم وعائلته المبجلة.. لذلك فإن مواقفها قد توزعت بين ثلاثة محاور، كانت صدى لمواقف تلك الأنظمة، أو نتيجة محتمة لضغطها..
- كان البعض من هذه القيادات، قد استنكف المشاركة في المشهد السياسي للمعارضة العراقية، تحت دعاوى كثيرة، كان من بينها تقسيم المعارضة العراقية إلى وطنية وغير وطنية.. دون أن يدرك هذا البعض، أن الوطنية في العراق الآن، وبعد ثلاثة عقود من الدم والدموع، تتمثل في أي عمل أول قول يتضمن معنى كلمة(لا..لا للديكتاتور)، حتى لو جاء هذا القول أو ذاك العمل من مجرم محترف مثل(حسين كامل).. وأن هذا التقسيم هو من بضائع النظام الديكتاتوري ومرتزقته، وبعض الأنظمة العربية التي اكتشفت فجأة بأن لها(مصلحة قومية جدا)في التعامل مع النظام الديكتاتوري بعد سنين طويلة من القطيعة.. وأن ما يسمى بـ(المعارضة الوطنية) لاتهم الشعب العراقي -بما فيه الجماهير القومية الناصرية-بأي شيء، لذلك فإنه(أي الشعب العراقي) لا يتعب نفسه حتى بسماع أخبارها..
- والبعض الثاني، فضل عدم التعامل مع المعارضة العراقية، لكي يداري ويستر افتقاده للعمق التنظيمي في الداخل- دون أن يدرك هذا البعض إن عمقه التنظيمي موجود أولا، في الجماهير القومية الناصرية الوفية وبأكثر مما يتوقع، وثانيا، في الشعب العراقي كله الذي يعتبر نفسه عمقا معطاء لكل من يريد أن يعمل بصدق على خلاصه من الديكتاتورية، من قوى المعارضة العراقية وبغض النظر عن انتمائها الفكري أو السياسي...
- والبعض الثالث، وحتى يغطي على فشله السياسي وإفلاسه الفكري، فضل التعامل مع الفكرة- الخطيئة- التي تصور الدكتاتور، بأنه "قائد" قومي عربي، وأنه يحارب الاستعمار على غرار حروب عبد الناصر، وكان في مقدمة هذا البعض الثالث، والأرجح هو الوحيد، (أياد سعيد ثابت)، الذي طعن الجماهير القومية الناصرية، بسلسلة مقالات بائسة في صحف النظام، وهي في ذروة نضالها مع شعبها ضد النظام الديكتاتوري، وكان أخطر ما في عمل هذا البعض الثالث، أنهم حاولوا مع الترويج للخطيئة، وقف عجلة التأريخ، حتى يجنبوا أنفسهم- عند حدوث التغيير الأكيد- مرارة اكتشاف أنهم أصبحوا بلا مستقبل..
ثالثا: وكان فشل القيادات القومية الناصرية الأكبر، هو إخفاقها التام في قراءة الواقع، لذلك كان أقصى ما خرجت به من مواقف وآراء، وعلى سبيل(إسقاط الفرض) إنها طرحت معادلة لا قيمة لها في الواقع على الإطلاق، هذه المعادلة تقول، أن هذه القيادات والتنظيمات(المتواجدة بكاملها في الخارج) مع رفع الحصار، وضد الضربة الأمريكية ومع إسقاط النظام في العراق.. قالت هذا الكلام وانكفأت إلى منافيها الإقليمية العربية(وهي كثيرة والحمد لله) مفعمة بارتياح بعد أن قامت بواجبها الكبير تجاه شعبها وجماهيرها.. ولكن فاتها أن تعلمنا كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة/ الثالوث المقدس على أرض الواقع..؟ وحتى نساهم معها في حل هذه المعادلة، ومن باب التفاعل بين القواعد(ونحن منها) وقياداتها، فإننا نود أن نلفت نظر هذه القيادات إلى الملاحظات التالية على قوة ومرارة بعضها (وهي ملاحظات تخص المعارضة العراقية أيضا):

الملاحظة الأولى: إن ما يسمونه بالحصار الدولي والذي يطالبون برفعه عن الشعب العراقي، هو مجرد أكذوبة لا وجود لها في الواقع على الإطلاق، من نواحي ثلاث:
الناحية الأولى: إن القرارات الدولية التي فرضت الحصار الدولي كنتيجة لغزو النظام الديكتاتوري لدولة الكويت الشقيقة، كانت قد استثنت المواد الغذائية والطبية والإنسانية من هذا الحصار..
الناحية الثانية: إن السوق العراقية كانت ولا تزال تنافس كل الأسواق العربية والإقليمية في المنطقة كلها، من حيث الكم والنوع في البضائع المطروحة، من إبرة الخياطة الصينية والى المواد الاحتياطية للطائرات الروسية والفرنسية والمواد الغذائية والطبية والإنشائية وتحت عين وسمع الأمم ‏المتحدة وعلى مرمى من نقاط تفتيش التحالف الدولي... فضلا عن أن مخازن النظام الحكومية، تغص والى حد الاختناق بالمواد الغذائية والطبية- خصوصا حليب وأدوية الأطفال - بما يكفي لسنين أطول من عمر النظام .. الناحية الثالثة: إن مؤشرات وارد الدخل العراقي لم تتأثر إلا بنسبة طفيفة، لا تزيد على 20%من معدلاتها قبل غزو الكويت الغاشم.. ومصدر هذا الدخل الحالي هو ضخ النفط، كالمعتاد، باستثناء الوسيلة، فالنفط بعد 1990 يُهَرّب إلى كل المنافذ وربما يقارب معدلاته السابقة، وتهريب المواد الغذائية والطبية - خصوصا حليب وأدوية الأطفال - إلى نفس مصادرها التي سبق وان صدرتها، تهريب الآثار والكنوز العراقية، عمولات النظام من الشركات الأجنبية، تصدير منتجات أساسية، التلاعب اليومي بأسعار العملة الصعبة وفي مقدمتها الدولار، والحصول على مبالغ خيالية من فرق السعر.. وغيرها الكثير من المصادر التي يصعب حصرها.. لكن الذي حدث ويحدث فعلا- صدقوا أو لا تصدقوا أيها السادة- إن النظام الديكتاتوري هو الذي يفرض حصارا داخليا مروعا على الشعب العراقي، وبوسائل عديدة.. كان من بينها، انه جرد المواطن العراقي من أية سيولة نقدية كافية لشراء حاجاته من هذا الفائض الغذائي والطبـي الموجود في السوق، بعد أن وضع للحصة التموينية حدودا تجعل من المواطن في حاجة دائمة لشراء ضروراته من السوق المحلية، فيجد المواطن نفسه أمام ثلاثة احتمالات..
الاحتمال الأول : شراء حاجاته المتبقية من السوق، ولكن كيف يحصل على السيولة المطلوبة..؟ فإذا كان موظفا فالراتب الشهري لا يزيد على (4) آلاف دينار، والحد الأدنى لحذاء الطفل (5) آلاف دينار.. والأطفال كثيرون، فماذا يفعل..؟ انه يلجأ حينذاك إلى الرشوة القسرية من مواطنين آخرين، أو الاختلاس من المال العام.. وإذا لم يكن موظفا، فإن عليه أن يعمل في السوق، لكن فرص العمل قليلة، والسوق العراقية- بعد أن سيطرت على منافذها ومفاصلها الأساسية مراكز القوى العليا في النظام- صارت غابة.. ولكل غابة قوانينها التي لا ترحم في اختراق الضمائر مهما كانت حية، إلا استثناءات نادرة.. وإذا لم تكن هناك فرصة عمل، فإنه أمام جوعه المحتم مع عائلته، يلجأ إلى السرقة.. في البداية لوحده، لكنه سينضم لاحقا- شاء أم أبى- إلى آخرين في السرقة المنظمة..
الاحتمال الثاني: أن يبيع جزءا من حصته التموينية ليشتري المتبقي من حاجاته الأساسية، التي تقلصت إلى أدنى مستوياتها الإنسانية في العالم.. ولكن كيف سيعوض النقص الحاصل في المباع من الحصة..؟ سيكون أمامه الاحتمال الأول بكل صوره ونتائجه، أو أن يخرِّج أطفاله من المدرسة، ليبيع عملهم -كسلعة رخيصة- في سوق الحقل الوطني الحيواني للنظام، الذي كان معلم الأطفال قد سبقهم إليه، ليبيع تحت غائلة الجوع حتى شرفه المهني.. أو.. أو..
الاحتمال الثالث: أن ينظم حياته مع عائلته، على العيش ضمن مستوى المتوفر من الحصة.. وهو ما يعني في النهاية تدهور في الحالة الصحية والعقلية والمناعة البايولوجية، وهو ما يتطلب حينذاك، مراجعة الأطباء والصيدليات والمستشفيات.. فمن أين له السيولة النقدية لإشباع جوع الأطباء، وعطش الصيدليات، وغول المستشفيات..؟
وكان من بين الأساليب أيضا، انه قنن الحصص الطبية- خصوصا أدوية وحليب الأطفال- وبما يخلق أزمة دائمة.. ضاغطة.. انه لا يخرج من مخازنه الخاصة إلا القليل.. القليل من المواد الغذائية والطبية- خصوصا أدوية وحليب الأطفال- التي تغص بها تلك المخازن إلى حد الاختناق والفيضان.. لكن ماذا يفعل النظام بالفائض- إلى حد الفيضان- من المواد الغذائية والطبية..؟ لديه ثلاثة خيارات..
الخيار الأول : يقوم بتهريبها عبر كل المنافذ، -خصوصا حليب وأدوية الأطفال- ليستورد، بعد إضافة عائدها إلى عائد النفط المهرب، المرمر، والويسكي الغربي مع الفودكا الروسية، وأسلحة وأدوات قمع الشعب، والسيارات الفارهة للنخبة المتحكمة في كل شيء..
الخيار الثاني : يقوم ببيعها مباشرة إلى سوق الشورجة -خاصة النظام وواجهاته المتعددة- ومن ثم إلى أسواق المحافظات، بالنسبة إلى المواد الغذائية والى الصيدليات والموظفين الصحيين- وما أكثرهم- بالنسبة للأدوية.. لذلك فإن أي دواء ومهما كانت قيمته المادية أو الصحية، متوفر، وأكثر مما هو موجود في أي بلد عربي أو أجنبي.. فإذا كانت هناك أزمة دواء فعلا، فمن أين يأتي الصيادلة والموظفون الصحيون، بكل هذا الزخم الكمي والنوعي من الأدوية، من الباراسيتول إلى دواء القلب والسرطان، وكل ما يحتاجه الطفل من صرخته الأولى بعد الولادة، والى أن يخلف هو أطفالا جدد..
الخيار الثالث : إذا لم يتمكن من التهريب أو البيع لأي سبب، فإنه يقوم بحرق الفائض الغذائي والطبـي، قاطرات بعد قاطرات- خصوصا حليب وأدوية الأطفال- نعم، إن النظام يقوم بحرق الفائض.. صدقوا أو لا تصدقوا..؟!!!.

والضحية بعد ذلك كله، الشعب العراقي الرهينة مع اطفاله، الأطفال الذين يقوم النظام بعد ذلك باستعراض مسرحي لتوابيتهم- التي ملئت اغلبها بالحجارة- في شوارع بغداد، بعد أن كان قد حشد الكثير من وسائل الإعلام المأجورة أو المخدوعة.. لتأتي بعد ذلك الفنانة القديرة "رغدة " لتذرف الدموع على أطفال العراق وشعب العراق، الذين يقتلهم الحصار، بعد أن ورطها عبد العظيم مناف، الذي أعطى هو وجريدته البائسة، المؤجرة، صورة سلبية لكل ما هو نبيل وإنساني في"الناصرية"، والناصرية منه براء .. ثم تقوم الأمم ‏المتحدة ومنظماتها الدولية، وخصوصا اليونيسيف والفاو، بنشر أرقام مذهلة عن عدد الأطفال الذين يموتون شهريا.. والشعب العراقي الذي يتعرض مع بيئته لكارثة إنسانية محتمة بسبب الحصار"الدولي"... والوسائل كثيرة في ذهان الدهاليز المغلقة للدكتاتور، وما ذكرناه من تلك الوسائل ليس إلا من قبيل المثال وليس الحصر... وهي كلها تفضي إلى نتائج منطقية واحدة، استنادا إلى أسبابها ، التي هيأها النظام.. هذه هي اللعبة.. لعبة الدكتاتور في توظيف قوانين المنطق الصارمة(وهي دائما ذات وجهين).. كل سبب يؤدي إلى نتيجة، أو نتائج.. لنكون أمام فساد إداري لم تشهد له المنطقة مثيلا، حتى في زمن الاستعمار العثماني .. انتشار الجريمة المنظمة .. موت الآلاف من الأطفال شهريا .. مظاهر حرمان وتسول وعوائل أرصفة، لم يعرف لها العراق سابقة.. تدهور في الحالة الصحية والعقلية والمناعة البايلوجية.. تدني في كافة مستويات التعليم..هجرة مخيفة للعقول العلمية والثقافية.. انتشار الرذيلة في مجتمع كانت الفضيلة والى وقت قريب أهم مرتكزاته.. وقائمة النتائج تطول... ليصور النظام بعد ذلك، ويتصور العالم معه، أن كل هذه النتائج هي بسبب الحصار" الدولي".. بينما الحقيقة، التي يعرفها كل عراقي في الداخل، أن الحصار" الدولي" مجرد أكذوبة لا سند لها من الواقع، وإنما هي مجرد حجة واهية، ليفرض النظام الديكتاتوري من خلالها أبشع حصار داخلي، طال كرامة الإنسان ومنظومته الإنسانية كلها.. إن أرقام الأمم‏ المتحدة هي صحيحة بنتائجها- أيها السادة-، لكن أسبابها ليس الحصار"الدولي" الذي بقي حبرا على ورق منذ /آب/ 1990، وإنما السبب الوحيد هو حصار النظام الديكتاتوري الداخلي.. فمن يستطيع أن يعلم ضحايا الداخل، مواطن آلامها وأوجاعها..؟ إنه الديكتاتور المتخلف ولا أحد غيره..
فعن أي حصار- أيها السادة- تتكلمون..؟
الملاحظة الثانية : إنكم تطالبون برفض الضربة الأمريكية.. حسنا، نحن معكم في هذا، ولكن ما هو البديل..؟ دعوني أخبركم بحقيقة، قاسية، مريرة.. أحسها غصة في الحلق بحجم الوطن المستباح من أبنائه أولا( أبنائه مجازا طبعا).. هذه الحقيقة تقول بأن الديكتاتور قد مزق الوعي الوطني، وخلخل الروح الوطنية، لدى المواطنين العاديين في الداخل، وهم الأغلبية الساحقة، لأول مرة في تأريخ الشعب العراقي المشهور بعناده وإخلاصه للقضايا الوطنية والقومية، بعد أكثر من ثلاثة عقود من القتل والإرهاب وسحق روح الإنسان وإذلال كرامته، وأخيرا سياسة التجويع، التي حولت المواطن إلى مجرد مخلوق يبحث عن لقمة العيش، وبأية وسيلة، بعد أن سدوا أمامه كل المنافذ وجردوه من كل الاختيارات.. وتلك الحقيقة-حقيقة تمزيق وخلخلة الوعي الوطني والروح الوطنية- تظهر، في حالة التشفي- الوطني-التي تسود الناس جميعا، مثقفيهم وأمييهم، كبيرهم وصغيرهم، نسائهم ورجالهم، عندما تقوم قوات التحالف بتوجيه ضربات جوية أو صاروخية لبغداد أو أي مكان من عراقهم-عراق المواطنين-.. ثم حالة الإحباط واليأس- الوطني- التي تسود الناس، والتي تصل إلى حد الهستيريا والانهيار العصبـي واللساني، حين تعلن وكالات الأنباء عن توقف القصف.. لن أزيد أكثر.. حتى لا تتحول الغصة، إلى رعاف مستمر من الأحاسيس والمشاعر والضمائر والحق والخير والعدل وكل القيم النبيلة الأخرى.. رعاف يعيشه الداخل الوطني، مشنوقا بين حصارين.. قمع النظام، وسياسة التجويع الداخلي.. لن أزيد؟!!!
الملاحظة الثالثة : إن أية قوة وطنية عراقية، لم يعد بامكانها أن تقوم بعملية إسقاط النظام لوحدها- وهي حقيقة اشرنا إليها سابقا في سياق هذا المقال-لأسباب كثيرة.. يأتي العامل الدولي في مقدمتها، فالنظام العربي والإقليمي والدولي، يبدو أنه مصر على أن يكون التغيير، عبر منطقة الحياد المشتركة بين هذه الأنظمة الثلاثة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إطار واسع من قوى المعارضة العراقية، التي تستطيع- بحكم اتجاهاتها وعلاقاتها التي تلتقي مع هذا النظام أو ذاك من الأنظمة الثلاثة ولو في الحد الأدنى- تستطيع إسقاط النظام وإحداث التغيير الوطني الديمقراطي المنشود، وحتى لو استطاعت أية قوة أن تسقط النظام لوحدها، فإننا سنكون-حتما- أمام ديكتاتورية جديدة ومسلسل دموي جديد، بعد أن تعقدت المشكلة الوطنية، غاية التعقيد… ثم أن إسقاط النظام الديكتاتوري، لم يعد هدفا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لإحداث التغيير الديمقراطي الشامل، لأرث كامل من السياسيات التي قادتنا، ومنذ تأسيس الدولة القطرية في العراق، إلى المحصلة التي نعيشها الآن في ظل ديكتاتورية مقيتة، وهو ما يعني إن التغيير يجب أن يكون مستندا إلى برنامج ديمقراطي شامل، فكيف يمكن تنفيذ البرنامج الديمقراطي، بدون إطار يجمع كل قوى المعارضة العراقية، صاحبة المصلحة في إسقاط النظام وبناء نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي... ثم إن المعارضة العراقية- وهذا هو الأهم- هي إطار صالح لأن نتعلم منه لغة الديمقراطية، وتقبل فكرة وجود الآخرين منذ الآن، في عصر، باتت فيه كل المؤشرات تؤكد على أن الإنسان ليس كائنا اجتماعيا وحسب، لكنه كائن ديمقراطي قبل كل شيء.. لأن الديمقراطية هي اللغة الوحيدة- من بين كل اللغات- التي تعلم الإنسان كيف يكون كائنا اجتماعيا، جديرا بالحياة والحرية... ومن هو أجدر ديمقراطيا، من المعارضة العراقية - أقوى وأهم قوى المعارضة في الوطن العربي على الإطلاق، رغم كل حملات وحروب التشهير- من هو أجدر منها، في القيام بالمهمة الوطنية الرئيسية، تعميم الديمقراطية وسيلة وغاية...
إننا كقوميين ناصريين، يجب أن نكون لا جزءا من المعارضة العراقية وحدها، ولكنا يجب أن نكون فصيلا أساسيا في كل معارضة عربية ديمقراطية...
لذلك كله.. وإزاء هذا الواقع بكل إحباطاته وآلامه وآماله وأحلامه، على التيار القومي أن يدرك مسؤوليته تجاه القضية الوطنية، وحاجته الماسة للمعارضة العراقية كإطار ديمقراطي عريض لتحقيق المشروع الوطني الديمقراطي الشامل..
وبقي على المعارضة العراقية، أن تدرك مسؤوليتها تجاه التيار القومي الناصري، وحاجتها إليه، من زاويتين: مسؤوليتها الوطنية، بأن تكون إطارا ديمقراطيا يتسع لكل القوى، خصوصا إذا كانت هذه القوى تيارا شعبيا عريضا، كالتيار القومي الناصري، الذي يصب في واحد من أهم مرجعياتها التاريخية.. وحاجتها إليه، كتيار سياسي، يمتلك أرضية مشتركة مع كل قوى المعارضة، منفردة أو مجتمعة، قد لا تتوفر في تيار غيره.. فهو- مثلا- يلتقي مع العرب الشيعة، على أرضية العروبة والإسلام، وموقفه الإسلامي، يكاد يخلو تماما إلا ما ندر، من أية حساسية طائفية(سنة وشيعة)، وقامت أكثر تنظيماته السياسية منذ الستينات على أكتاف العرب الشيعة .. كما انه يلتقي كذلك، مع الحركة القومية الكردية، على أرضية الفكرة القومية الإنسانية، التي تتسامى على كل أمراض العنصرية والتعصب القومي، لذلك فقد تبنى التيار القومي الناصري، ومنذ البدء، موقفا إنسانيا تقدميا، تجاه القضية القومية الكردية، تجسد في دعم وتأييد أية خطوة تساعد الشعب الكردي- كأمة- في إنجاز حقه المشروع في تقرير المصير، لذلك كان مع الحكم الذاتي، وهو الآن مع الفيدرالية الكردية.. وهو يلتقي- أيضا- مع التيار الماركسي، على أرضية الالتزام الطبقي بالعمل والذين يعملون، والاشتراكية كمضمون اجتماعي واقتصادي في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.. وان اختلفت الأسس الفلسفية والوسائل والغايات في حدودها وآفاقها.. كما يلتقي على أرضية النضال الوطني المشترك - إضافة إلى القوى الأساسية- مع كل قوى المعارضة الأخرى وبكافة اتجاهاتها وانتماءاتها السياسية والفكرية..
بعد هذا العرض كله، يتبين لنا بوضوح، أن شروط العلاقة الممكنة بين التيار القومي الناصري والمعارضة العراقية، وأسسها وآفاقها، قائمة... وضرورية...لكن كيف..؟
تلك مسألة تحتاج إلى إجابة مشتركة من الجانبين.. إجابة تكون في مستوى خطورة المرحلة والمسؤولية معا...












رؤية ناصرية للقضية العراقية 3 - عبد الستار الجميلي



الديمقراطية .. على الطريقة الديكتاتورية..!
من اغتصاب الإنسان.. إلى اغتصاب اللغة

بين الديمقراطية.. والديكتاتورية، مسافة لا يمكن إخفاؤها وتجاوزها "بالكلمات" السهلة كما يتصور البعض.
فالديمقراطية والديكتاتورية، كظاهرتين اجتماعيتين، هما على طرفي نقيض على طول مسار التاريخ الإنساني، وهما من الوضوح والشدة بحيث لا تخفى مظاهرهما على الأفراد والشعوب التي كانت "موضوعا" لهما على مستوى العلاقة بذلك الشغل الشاغل للعقل الإنساني منذ أول تشكيلة سياسية- اجتماعية، اهتدت إليها البشرية.. الحرية والعدل، حلم البشرية الأزلي في صراعها الطويل والمرير مع الطبيعة والكون ومع نفسها أولا. ويكاد الصراع بينهما أن يستقطب التاريخ بفصوله المتعاقبة، وهو صراع مليء بالمؤشرات والدلالات.
لكن أبرزها -فيما له علاقة بموضوعنا- إن الديكتاتورية كانت أسرع في ابتكار أدواتها وتحقيق أهدافها من الديمقراطية، لأن الهدم دائما أسهل من البناء..
إن الديكتاتورية في جوهرها، كانت وستبقى هدما يتوجه مباشرة إلى الإنسان. فهي من جهة تقوم بخلق "موضوعها" عن طريق حقن "فيروسها" في "كروموسومات" مختارة من البشرية، لديها استعداد بحكم معاناتها وعقدها الخاصة- لأن تتغذى ذاتيا، لتقوم بعد ذلك، بين لحظة زمنية وأخرى، بلفظ مقاطع تشوهاتها الخاصة، التي اكتوت البشرية طويلا بنار نماذجها المشهورة. ومن جهة أخرى تفرض على الإنسان مجموعة من الرموز والطقوس، التي تكبل "عقله" وتشل "يديه" لتحوله في النهاية إلى "شيء داجن" في عالم الديكتاتور وأملاكه الخاصة..
أما الديمقراطية، فعلى النقيض من ذلك تماما، بناء يتوجه إلى داخل الإنسان نفسه أولا: الإنسان -بشخصه الطبيعي- أسمى كائن خلقه الله. والناس يولدون جميعا ويموتون بنفس الطريقة. تلدهم أمهاتهم أحرارا، ولا يمكن-في المطلق- استعبادهم، ماديا أو معنويا، من قبل أي إنسان آخر مهما كان. يولدون متساوين في الحقوق والواجبات والحريات والفرص، بغض النظر عن الجنس واللون واللغة والدين والحزب والطبقة.
الإنسان الحر أساس المجتمع الحر، فنكون أمام شعب من الأحرار.
لكن الشعب الحر بحاجة إلى سلطة تنظم هذه الحقوق والواجبات. فيأتي الحل الديمقراطي الإنساني الفريد، على شكل نظام تعاقدي يستند إلى "الشعب وحده" كمرجعية أساسية للسلطة فتتحرر السلطة من "قدسية" الحاكم - الاله البشري، وتتحول إلى "آلية" شعبية، يتحول فيها "الحاكم إلى موظف مدني منتخب، مقيد بدستور من وضع الشعب نفسه. وللشعب أن يختار غيره إذا وجد الأفضل، أو أن يقيله إذا ما انحرف عن وظيفته الدستورية وبالطرق التي يحددها القانون، بما فيها "الشرعية الثورية" التي تكون "دستوريتها" مقيدة بالقانون الأعلى "الحرية والعدل" وبظرف زمني محدد، وليست شرعية مطلقة كما تحاول الديكتاتورية أن تجد فيها غطاء لتقنين الجريمة وارتكاب الخطايا.

لذلك كله، فإن الديكتاتورية تغتصب إنسانية الإنسان، وتلغي الشعب، ليبقى الديكتاتور وحده..
أما الديمقراطية، فتبني الإنسان، وتلغي الحاكم، ليبقى الشعب وحده. ولذلك-أيضا- فإن التناقض بينهما عميق، ولإلقاء حتى على مستوى اللغة. فلا يمكننا الحديث عن الديكتاتورية إلا بصيغة الفرد والمفرد، وإذا تحدثنا عن الديمقراطية فلا نتحدث عنها إلا بصيغة المجموع والجمع.
لكن الديكتاتورية، بحكم طبيعتها المتمسكة بالمؤبد حتى الموت، وطبيعة الديكتاتور المصابة بدونية متضخمة بجنون الوهم، لا تستطيع التكيف مع الحياة، لأنها لا تمتلك القدرة على مغادرة منطقة وهمها الخاص (مجال وجودها الحيوي). لذلك فإنها لا تملك إلا التحايل. فبدلا من الاعتراف بالواقع، تقوم بتزييفه. فأمام النجاحات المحسوسة، الساحقة للديمقراطية على صعيد الوعي والواقع، كان لابد للديكتاتورية أن تتحايل على الديمقراطية والواقع معا، من خلال استعارة مفردات الديمقراطية ذاتها..
ولهذه الاستعارة حكاية..
في معرض تحليله الثقافي لأزمة الخليج، يشير "السيد ياسين"* إلى مسألة هامة في تفكيك بنية "الخطاب السياسي" للنظام الديكتاتوري في العراق، وهي ما أسماها "باغتصاب" عنيف للغة العربية، يحل "الكلمة" بذاتها محل "الفعل" بل هي "العقل" ذاته، بما يكشف عن بؤس وتهافت في هذا الخطاب (البدائي، العاجز، المتخلف، الركيك) وبياناته العسكرية حيث تبتذل الشعارات (الإسلامية والقومية) و يمارس في ظلها أبشع ألوان القمع السياسي ونهب ثروات الشعوب، وبما يصور ألازمة (أزمة الكويت) وكأنها صراع بين الوطن العربي والاستعمار الغربي الذي فرض هيمنته على ثروات العرب. التي أصبحت هناك ضرورة لإعادة توزيع هذه الثروة، مع إن سبب الأزمة الحقيقي هو غزو الديكتاتور للكويت وتشريده لشعب عربي مسلم. سبق له أن أسهم في مسيرة التنمية والأمن العربي. وكان الدكتاتور الذي يتحدث عن "إعادة توزيع الثروة"، قبل الغزو، قد سرق المال العام العراقي بعد تحويله إلى "مال خاص جدا" له و لخاصته التي تحكم لتسرق وحاشيته التي تحرس لتنعم.
وحتى بعد أن انتهت الحرب إلى نهايتها المأساوية المعروفة، أعلن الإعلام الديكتاتوري إن النظام قد انتصر. والانتصار في لغة الديكتاتورية "المغتصبة" هو الحفاظ على عرش الديكتاتور (المتر المربع الساحر)، حتى لو احتلت ارض الوطن بكاملها.
تلك كانت مقدمة ضرورية، وان كانت مطولة، لنلفت الانتباه- أولا- إلى "عنصر بنائي" في حقل الديكتاتورية في العراق، وهو ما عبر عنه بدقة متناهية السيد ياسين، وأطلق عليه (اغتصاب اللغة) فالديكتاتور في العراق، بعد أن اغتصب إنسانية الإنسان ومقومات الوطن، قام باغتصاب "اللغة".
والاغتصاب هنا يعني سلب "مضمون" كلمة ما، وإحلاله في كلمة أخرى، عبر استخدام شبكة معقدة من الصياغات اللفظية والصور البيانية الخالية من أي معنى، بهدف نشر الوعي الزائف بالحقيقة الغائبة، المغيبة. فالهزيمة التي لا يختلف عليها اثنان هي النصر. والديكتاتورية الصريحة المعلنة هي الديمقراطية. وسرقة الثروة وطنيا، هي إعادة توزيعها قوميا. وتشريد شعب عربي من أرضه بالكامل هو الوحدة العربية. والماضي هو المستقبل، لا في سياق علاقتهما الزمنية كتواصل تاريخي، ولكن في إحلال احدهما (الماضي أو غيره من الكلمات) مكان الآخر بإلغائه (المستقبل أو أي كلمة مغتصبة أخرى). لأن الزمن الديكتاتوري دائما متوقف يخاف المجهول، والمجهول بالنسبة إليه هو المستقبل الذي يحمل دائما جديدة المجهول.. ثم لنقوم -ثانيا- بتحليل ما تناقلته وكالات الأنباء العربية والعالمية (على استحياء أو مضض أو سخرية) عن استعدادات يقوم بها الديكتاتور لإطلاق التعددية السياسية والحزبية في العراق.
ومن زاوية "القراءة التأسيسية" التي تعيد تركيب النصوص بنائيا، بعد اختراق قشرة النص وتفكيكه من الداخل، للامساك بمؤشراته ودلالاته الحقيقية، فإننا نكتشف في هذا التصريح "ألتعددي" ثلاثة وجوه:
الوجه الأول : اغتصاب عنيف للغة، من خلال ابتذال الكلمات العزيزة (على حد تعبير السيد ياسين). والكلمة العزيزة "المغتصبة" هذه المرة هي الديمقراطية". والديمقراطية بدأت تفرض نفسها على الديكتاتور في العراق، من عدة اتجاهات. فهي تمثل وعيا متناميا في إطار التوجه العام لعالم بكامله. ومطلبا شعبيا عراقيا عبرت عنه المقابر المليئة بالألوف من الشهداء والضحايا، والسجون التي تكتظ بآلاف المعتقلين. ثم هذه الملايين التي تعيش شتاتها المعلن في كل أنحاء المعمورة.. وهي أيضا- أي الديمقراطية- مطلبا دوليا مثبتا في قرارات صادرة من الأمم المتحدة (من بينها القرار المرقم 688).. ثم إن "الديمقراطية" قد تصلح في إطار "الضرورات الديكتاتورية" لأن تكون رسالة لطلب "التأهيل" من جديد.. لذلك تتوهم الديكتاتورية في العراق، وتحت ضغط هذه الاتجاهات بأنها تستطيع أن تغتصب" اللغة الديمقراطية، من خلال التصريح عن التعددية السياسية في هذه المرحلة الحافلة بالدلالات والتوقعات وان توظف هذا "الاغتصاب" في رسم صورة "ديمقراطية" لنفسها.. لكنها تنسى أن سجلها الديكتاتوري في "المجال الديمقراطي" أكبر من أن يلغيه "الحك والشطب" الذين تعود الدكتاتور أن يقوم بهما في كل مرة تصل فيها الضغوط عند الأبواب..
الوجه الثاني : العودة إلى ألذات: بعد عملية "اغتصاب" سريعة للديمقراطية في مقدمة التصريح "ألتعددي"، تتصالح الديكتاتورية مع ذاتها مباشرة. تمزق "ثوب الديمقراطية" فورا ليظهر جلدها الحقيقي. فمن خلال قراءة بسيطة للغة "المغتصبة" التي أطلق من خلالها الديكتاتور تصريح "ديمقراطيته" نكتشف مباشرة، إن في داخل لغة التصريح تلك لا يكتفي الدكتاتور (باغتصاب) اللغة، ولكنه يلغي الديمقراطية، لا من حيث هي آلية للحكم ونظام للحياة فقط، ولكنه يلغيها حتى على مستوى المصطلح. فهو يطلق على تلك "الأحزاب" التي وعد بإطلاق تعدديتها، بأنها أحزاب "رديفة- وشقيقة". وهي تعبيرات تشي عن حساسية ديكتاتورية مزمنة. تطور فيها "جنون الدم" إلى حدود لا تطيق فيها حتى على مجرد سماع الرأي الآخر، يتجرأ على التفوه به (مجرد التفوه به) أولئك الذين حكم عليهم منذ أكثر من ثلاثين عاما. على أن يعيشوا داخل سور سجن الديكتاتورية الكبير، والذي اعتدنا على أن نطلق عليه مجازا اسم "الوطن".
هكذا تعود الديكتاتورية إلى ذاتها وتتصالح مع نفسها (الموهومة بعقدها الخاصة)، لتتجاوز "الاغتصاب"، إلى "إلغاء" الآخر. هكذا تصرح الديكتاتورية علنا، إنها لا تريد معارضة، لا تطيق الرأي الآخر. إنها تريد "أحزابا" يديرها وكلاء للأجهزة الأمنية، وتصدر صحفا كطبعة ثانية لصحف الديكتاتورية، التي تسبّح وتمّجد "بحمد" الديكتاتور صباحا و مساء، وتتطوع في تجميع "القطيع" الذي لا حول له ولا قوة، إلا المشاركة المؤبدة في احتفاليات الرقص والتصفيق "للأنا الأعلى". هذا هو بالضبط المعنى الحقيقي لكلمات مثل "رديفة، شقيقة" بعد "اغتصابها".. مجاميع من العبيد في حقل الديكتاتور ومقامه العالي.
الوجه الثالث : الوجه الجامع المانع:
بعد توحيد الوجهين، الأول والثاني، فإننا نجد أنفسنا أمام وجه واحد، جامع مانع، للديكتاتورية.. جامع لمظاهرها القبيحة في حياتنا وأحلامنا. ومانع من أن تختلط بالآخر أو يختلط بها، تحت أي ستار، ولو كان عبر الاستعارة الكاملة للمفردات العزيزة، من خلال "اغتصاب" اللغة، الموجه إلى شعوب يتوهم الديكتاتور إنها ساذجة لا تفرق بين الحقيقة والحلم ولا بين الاسطورة والواقع ولا بين الألم والأمل..
إن الديكتاتورية- في وجهها الحقيقي الذي أمامنا- هي ظاهرة مرضية تعويضية، لا تستطيع أن تجد لها موطئ قدم، إلا في ذُهان وهمها الخاص الذي عليها أن تخلقه وتغذيه ذاتيا، لتنميه بعد ذلك في سلسلة لا تنقطع من الرموز والطقوس المغرقة بالشكليات والتصورات، المتمرسة عليها كوسائل دفاع ذاتية في مواجهة الآخر.. والآخر دائما هو المجتمع، عدوها الأول الذي يتربص لها بكل الطرق- بما فيها النوايا-. لذلك فإنها (أي الديكتاتورية) يجب أن تكون في حالة استنفار دائم.. حرب دائمة (لا راحة للقوات المسلحة).. والقوات المسلحة، كلمة "مغتصبة" تعني المجتمع/ الآخر..
ولأن طبيعة الديكتاتور غير منسجمة -في أي مستوى- مع الآخر، بحكم عقدها الخاصة التي تنتمي في غالبها إلى الطفولة، الأرض البكر، المستعدة- مع كل البراءة- لتلقي كل أنواع الفيروسات.. ومادام الآخر، شر لابد منه، وإلا لحكمت وتحكمت في أشباح.. فهي في حالة شك، وعذاب نفسي دائم من الآخر. يترجم نفسه بين كل لحظة وأخرى، في تطور مرضي مسرع الخطى، باتجاه "سراب" اشباع، يراه أمامه دائما أبدا.. لذلك فإن العقاب الفردي -في مرحلة من المراحل- لا يمنح "اورجازم" النشوة المطلوبة في الحالات القليلة التي تستطيع فيها الديكتاتورية، أن تمسك بلحظة "أمن" من الآخر: المجتمع فتندفع أكثر في تحقيق "أمانها" الخاص، إلى العقاب الجماعي، كوسيلة أكثر تقدما في تطور مشروع عطشها المزمن "لأورجازم" النشوة الديكتاتورية (التلذذ الغريب في التعذيب والقتل الجماعي لآلاف المعتقلين في قصور النهايات- إلغاء مراكز تجمع سكانية بكاملها من التاريخ -احتفاليات التصفيق والرقص ألقسري الجماعي- الابادة الجماعية في الأنفال وحلبجة- القتل الجماعي على الهوية في انتفاضة آذار 1991- الحصار الاقتصادي الجماعي- قطع الكهرباء لنشر الظلام الجماعي على الشعب العراقي..الخ) ولا تكتفي.. فيتعمم العقاب الجماعي (أورجازم النشوة الديكتاتورية) إلى الآخر المجاور(ملايين الضحايا الجماعية مع اغتصاب هستيري لكل المثل العزيزة في حروب لا معنى لها ولا مبرر، مع إيران المسلمة أولا ثم مع الشعب العربي الكويتي بعد ذلك- شتائم جماعية للعالم كله.. الخ) ولا تكتفي .. وكيف تكتفي، والديكتاتورية بطبيعتها تريد المزيد، لأن التوقف يعني أن "الآخر" أصبح على الأبواب. لذلك فإنها محكومة بأن تستخرج -دائما- من أحشاء وهمها الخاص، آليات الدفاع الذاتي في مواجهة الآخر.. ويكون "اغتصاب" اللغة، واحدة من تلك الآليات..
والديكتاتورية إذ تغتصب "الديمقراطية" باستعارة مفرداتها، فإننا نكون أمام عقاب جماعي من نوع آخر، عنوانه، إذلال متعمد للإنسان وامتهان كرامته "جماعيا" من خلال الأحزاب الديكتاتورية "الرديفة- والشقيقة"..
ذلك هو الوجه الحقيقي للديكتاتورية في العراق، وتلك هي دلالات تصريحها "ألتعددي" الذي يحاول- متعمدا "اغتصاب" بصيص الأمل المتبقي لنا في عالم "الألم والقهر الجماعي" الذي جرعته لمراحل وأجيال بكاملها..


رؤية نطر ناصرية من القضية العراقية 4 - عبد الستار الجميلي


الحصار الاقتصادي في العراق.. مسؤولية من..

في 6/ آب/ 1990 أصدر مجلس الأمن قراره المرقم (661)، فرض بموجبه الحصار الاقتصادي على العراق، واستثنى من ذلك التجهيزات المخصصة للاستخدامات الطبية والمواد الغذائية، وهو إجراء قانوني لجأت إليه الأمم المتحدة كوسيلة ضغط مؤقتة لإجبار النظام الدكتاتوري على الانسحاب من دولة الكويت التي احتلها بعدوان وحشي غادر ليلة الثاني من آب/1990.. وفي ليلة 17 كانون الثاني 1991، بدأت حرب تحرير الكويت التي أطلق عليها حرب الخليج الثانية، وانتهت بهزيمة ساحقة للنظام على كافة الصعد والمستويات، وفضيحة مدوية لجميع ادعاءاته وشعاراته الورقية.. وكانت النتيجة المتوقعة للحصار الاقتصادي المعلن، والهزيمة الساحقة التي اقتلعت معظم البنى والهياكل التحتية والفوقية للدولة والمجتمع معاً، أن يدخل العراق مرحلة قاسية وصعبة في كافة المجالات، خصوصا المجال الاقتصادي، ذلك إن ما حدث كان "كارثة وطنية" بكل المقاييس والأبعاد.. وكان السياق المنطقي "للكارثة العراقية"- وللكوارث التي من جنسها- يؤكد بأن الشعب العراقي وحده- دون حكامه- من سيدفع "فاتورة" حساب الهزيمة. وكان الثمن الأقسى، إن "الكارثة الوطنية" التي سببها الدكتاتور، قد أمسكت بالشعب العراقي من "أمعائه" وشدتها شدا نازفا إلى المجهول.. وفي مواجهة ذلك، كان الواجب الأول للنظام- أي نظام- تجاه هذا الشعب، إذا كان يمتلك الحد الأدنى من الوطنية والحساسية الأخلاقية، أن يعمل وبكل ما يملك من قوة، على خلق أوضاع جديدة، بما فيه الانسحاب من الحكم، تجنب الشعب العراقي مصيرا مأساويا كانت كل الأسباب والدلالات والمؤشرات تقود إليه..

لكن الذي حدث كان شيئا آخر..
كان الحصار الاقتصادي، فرصة الديكتاتور "الذهبية" لتحقيق أهداف كثيرة، ما كان له أن يحلم بتحقيقها إلا من خلال "بضاعة" الحصار، وما يحيط بها عادة من ظروف إنسانية وسياسية، حرص النظام على استغلالها بكل ما يملك من طاقات وقوى، في عالم تحولت فيه حساسية "حقوق الإنسان" إلى ما يشبه "الارتكاريا"(1).. ومن بين هذه الأهداف، كانت هناك خمسة أهداف، كان التشديد عليها "تكراريا" "مركزيا" "يوميا" بما يحولها إلى "حالة ضغط نفسية" على مراكز أعصاب "الدماغ" و"الوجدان" لدى الآخرين.. وهي:
أولا: كان الحصار الاقتصادي فرصة النظام لتوجيه أنظار الرأي العام- عراقيا وعربيا وعالميا- عن الأسباب الحقيقية التي قادت إلى "ألازمة" وبالتالي إلى فرض الحصار الاقتصادي، وهي جريمة احتلال دولة الكويت وتشريد شعبها العربي.. إلى الحصار الاقتصادي وما تحيط به من ظروف إنسانية تطال الشعب العراقي وحده.
ثانياً: كان الحصار فرصة ذهبية، ليقوم النظام بتغطية"عورة" هزيمته الكاملة، في حرب كان الجنود العراقيون، الذين اعدهم النظام لمحرقتها، أول من حدد الموقف منها- وقبل كل الأطراف-، واختار القتال ضد الدكتاتور الذي كان يتحصن داخل أقبيته في بغداد.
ثالثا: كان الحصار فرصة الفرص لتحميل الحصار الاقتصادي كل الفشل والخراب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي أحدثه النظام الدكتاتوري في العراق- دولة ومجتمعاً- منذ انقلابه الأسود في 17/تموز/1968 والى يوم 2/آب/1990.
رابعاً: كان الحصار وسيلة الدكتاتورية "للانتقام الجماعي" من الشعب العراقي، الذي رفض أبناؤه الجنود حربه المجنونة ضد شقيقه الشعب العربي في دولة الكويت، ثم تجاوز هذا الشعب كله، مجرد رفض الحرب إلى رفض الدكتاتورية نفسها، ودخوله ميدان العمل الفعلي لإسقاطها في انتفاضة آذار/1991 الثورية المجيدة.
خامسا: وان كان هذا الهدف جزءاً من الهدف الرابع، إلا انه يستحق أن نبرزه كهدف بحد ذاته، وهو المتعلق بالبنية "الذهنية والنفسية" للدكتاتورية التي تجد "متعتها" و"لذتها" الخاصة في تعذيب الآخرين.. وهي ظاهرة نفسية أطلق عليها في علم النفس اسم "السادية"، لكننا فضلنا أن نسميها في مقال سابق(2) "اورجازم النشوة الدكتاتورية"، على اعتبار إن "السادية" ظاهرة فردية، لكن "الاورجازم" الدكتاتوري "ظاهرة جماعية" مسلطة على الآخر "الجماعي".. وليس هناك من وسيلة كالحصار الاقتصادي، الذي يوزع الجوع والمرض والجهل بالبطاقة التموينية، في تحقيق "الألم الجماعي" لشعب بأكمله.. إنها "متعة ولذة" ما بعدها متعة ولذة.
وكانت هذه الأهداف قد تحركت مسرعة، في إطار مجموعة عناصر ومفردات وأرقام أفرزتها سياسات النظام وممارساته داخليا وخارجيا قبل وبعد 2/آب/1990، كانت كلها تؤشر وتنطق "بلسان مبين" بأن دور الدكتاتور قد استنفذ وانتهى..
قبل 2/آب/1990
كانت السلطة الدكتاتورية قد وصلت إلى طريق مسدود، بعد أن خرجت من حرب "لا معنى لها ولا مبرر"، خسرت فيها كل شيء، بعد أن أعطت إيران كل ما كانت تريده، كما أعلن الدكتاتور في رسالته المشهورة إلى الرئيس الإيراني بعد احتلاله الكويت، وقبل ذلك كله وخلاله، كان القمع والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي والاقتصادي والتخريب ألقيمي والأخلاقي، والتطهير العرقي والابادة الجماعية، وهدر الموارد الوطنية والإنفاق العسكري الضخم، والحساسيات العربية والإقليمية والدولية.. قد وصلت كلها، حدودا لا تطاق..
وكانت النتائج مذهلة، على مستوى الأرقام والمؤشرات.. منها مثلاً:
*بلغت الخسائر البشرية في الحرب، أكثر من مليون بين قتيل وأسير ومعوق، أما الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، فقد بلغت مليارات تصعب على الحصر.
*ارتفعت المديونية إلى (100) مليار دولار حتى 2/آب/1990.
*بلغت عائدات النفط منذ اكتشافه (196) بليون دولار، كانت حصة النظام منها (192) بليون دولار للفترة من 1968-1990. انفق منها على الآلة العسكرية نسبة 90% من هذا العائد، يضاف إليها نسبة استقطاع 5% من الفوائد النفطية من قبل الدكتاتور شخصياً.
*بلغ عدد المهجرين والمهاجرين حتى عام 1988، مليوني مواطن عراقي.
*أكثر من (190) ألف مواطن كردي راحوا ضحية للنظام وغازاته السامة في الأنفال وحلبجة مع تدمير 90% من ريف كردستان.
*متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي والإجمالي عام 1990 وصل إلى أدنى من مستواه عام 1960.
*تدمير 90%من غابات العراق وتراجع الثروة الحيوانية إلى الاستيراد، وتراجع في الصناعة دفع النظام إلى بيع مؤسسات القطاع العام. ومن مجموعة (50) خمسين مليون دونم من الأراضي الصالحة للزراعة في عام 1950، انخفضت إلى (5) خمسة ملايين دونم فقط عام 1990.
*تمزق خطير في الأنسجة الوطنية والاجتماعية، وآلاف الشهداء والضحايا والسجناء السياسيون.
نكتفي بهذا القدر.. لأن القائمة تطول.. والدلالة واضحة.
بعد 2/آب/1990
كان الدكتاتور قد احتل دولة الكويت، وفق "مسرحية" دموية، ابتدأت فصولها "بديكور انقلاب"، استخدم فيها تكتيك "صدى"عال في "القومية" و"توزيع الثروة" و "تبادل الانسحابات مع إسرائيل"، أمام جمهور، نصف مهزوم. نصف مذهول.. نصف حالم.. لكن الخوف كان عنده كاملا.. باختصار..كانت "النبرة الاستعراضية" عالية جدا، لذلك كان "دوي السقوط" أكثر علوا، و"الصدمة" أشد وقعا، وكانت "الكارثة الوطنية" اكبر من كل تلك الخيوط التي تعود الدكتاتور على الإمساك بها بقسوته المعهودة..
وكانت الأرقام والنتائج هذه المرة، قد تجاوزت الذهول، إلى الصراخ والعنف، دفعت أكثر الأصوات "علوا" في تأييد "عدوان النظام"، وهو ياسر عرفات، إلى التصريح: "بأنه لو كان هو المتواجد في الكويت، وعلى قوته المحدودة، لصمد شهرا على الأقل في الكويت".
*هزيمة ساحقة للنظام خلال لحظات، بعد أن رفض الجنود قتال أشقائهم، واختاروا القتال ضد الدكتاتورية. وكانت الخسائر البشرية قد اقتربت من المليون بين قتيل وأسير ومعوق.
*التوقيع على بياض، في خيمة صفوان، لجميع شروط الاستسلام، بما فيه قبول قرارات الأمم المتحدة، وتدمير الأسلحة غير التقليدية، وتحديد نوعية الأسلحة التقليدية.
*ولاية كاملة للمجتمع الدولي، على العراق، بعد أن اثبت "نظامه" بأنه قاصر "غير مميز" وبالتالي لا يعتد بتصرفاته شرعا وقانونا. لتنفتح أبواب العراق لتدويل كل شيء فيه، بما فيه "قصر الدكتاتور الجمهوري" (الجمهوري مجازا لا حقيقة).
*تحطيم كامل للبنى التحتية والفوقية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
*استحقاقات مطلوبة، داخلية وخارجية، نصت عليها قرارات دولية موقع عليها من قبل النظام، في مقدمتها التعويضات وحقوق الإنسان.
*انتفاضة شعبية مدوية في آذار/1991، عبرت عن رفض لشعب بأكمله للدكتاتورية وعبوره لكل حواجز القمع والخوف. نتج عنها واحدة من أوسع حركات اللاجئين وأسرعها في التاريخ الحديث.

والقائمة تطول أيضا.. والدلالة اكبر.
أمام هذه العناصر، قبل وبعد 2/آب/1990، التي شكلت بمجموعها نهاية محتمة للنظام، وفق منطق الحوادث التي تسارعت أسبابا ونتائج، كان على النظام، بحكم طبيعته الدكتاتورية المتمسكة بالمؤبد حتى الموت، وبالخلود ما بعده، أن يفتش عن "طريقة ما" تجنبه المصير المحتوم، الذي أصبح على الأبواب، ماديا برحيله كنظام، ومعنويا بعدوانه وهزيمته معا.. ولم تكن "الطريقة" إلا الحصار الاقتصادي الذي نزل على النظام "كنعمة من السماء" وفي ظروف هو أحوج ما يكون فيها إليه..

ولكن كيف..؟ و" للكيف" هذه حكاية، تستحق أن تروى..

ما أن وضع الدكتاتور توقيعه "على بياض" في وثيقة الاستسلام في خيمة صفوان المذلة، حتى بدأ العراق يدخل مرحلة جديدة تتعلق بمصير النظام.. وكانت الضرورات- عراقيا وعربيا وعالميا- قد أجمعت على "ضرورة" البحث عن بديل "مؤهل" للنظام، يعيد بناء العراق –دولة ومجتمعا- من جديد، وفق معايير مقبولة من العالم وتتلاءم مع العصر ومعطياته.
وكانت تلك "الضرورة" قد انطلقت من مجموعة حقائق تجمعت أمام العالم قبل وبعد آب/ 1990 (اشرنا إلى جزء منها في سياق المقال). وكان في مقدمة تلك الحقائق، إن "المجموعة" التي تحكم في بغداد، لا تملك حتى الحد الأدنى من مواصفات "النظام" أو "الحكومة" يمكن التعامل معها وفق القوانين والأعراف السائدة، بعد أن ثبت -أمام أطنان الوثائق والمعلومات- إنها لم تكن مشغولة، طيلة عقدين، وخلف سور استبدادها الكبير، إلا في القمع السياسي والقهر الاجتماعي والتخبط الاقتصادي، والتطهير العرقي وشن الحروب الوهمية، وفق "ذهنية مرضية" أصبحت وباءً مدمرا لا للشعب العراقي وحده، ولكن للعالم اجمع ... وهو ما عبر عن ذلك كله، قرار مجلس الأمن 688 للعام 1991، الذي تركز مضمونه في فقرتين: أولاهما/ تردي الأوضاع الإنسانية في العراق من حيث حقوق الإنسان والأوضاع الإنسانية المتعلقة بالغذاء والدواء. وثانيتهما/ تهديد النظام في العراق للسلام والأمن الدولي نتيجة لممارساته السابقة واللاحقة لاحتلال الكويت.. وكان صدور قرار بهذه المضامين المباشرة والواضحة ومن أعلى سلطة دولية(مجلس الأمن), لا يعني إلا تفسيرا موضوعيا وحيدا لروح النص وجوهره, هو إن النظام قد فقد الشرعية( إذا افترضنا انه يمتلك شرعية وفقا للمعايير الشكلية المعتمدة في الأمم المتحدة) من جهة, ومن جهة الأخرى, فإن القرار يمثل دعوة ضمنية للمعارضة العراقية والمجتمع الدولي معا, للعمل على إيجاد بديل وطني للنظام.
وكان الدكتاتور, هو الأسرع في فهم"خطورة" مضامين هذا القرار على"مصيره", لذلك كان عليه أن يتحرك, أسرع من باقي الأطراف- أيضا-, ليبادر هو في إعادة" بناء" العراق من جديد, وفق"مستقبل وهمه الخاص".. وكان الحصار الاقتصادي هو"الورقة الوحيدة" الباقية, والتي عليه أن يحاول اللعب بها بكل ما كانت تمتلئ به جعبته من"أموال" و "أخلاقيات" لا تعرف العيب أبدا.
ولكن الحصار الاقتصادي-كأي لعبة- له صعوباته, التي لابد من تذليلها أولا, حتى يمكن لورقته تلك أن"تربح".. وكان من بين تلك الصعوبات, إن معطيات الواقع التي كانت أمام النظام, كلها تؤشر بأن الحصار الاقتصادي المعلن عنه في قرار مجلس الأمن, سيكون في اغلب الأحوال حبرا على ورق, إذا ما تركت الأمور تجري على ماهي عليه..

وكانت أهم تلك المعطيات:
1-ان "الحصار الاقتصادي الدولي"كان قد استثنى المواد الغذائية والطبية من حصاره, وبالتالي فإن آثارة ستكون محدودة.
2-ان العراق يرتبط مع دول الجوار بعلاقات اقتصادية يصعب الاستغتناء عنها, خصوصا (الاردن وتركيا) وحاجتهما المتزايدة للنفط العراقي, لذلك فإن الحدود ستظل مفتوحة.
3-ان الديون الروسية والفرنسية ستدفع بهما حتما الى اتباع سياسة تجارية لا علاقة لها بقرار مجلس الامن.
4-حاجة السوق العالمية الى النفط العراقي, ستدفع الكثير من الدول الى المطالبة برفع الحصار, بل وحتى خرقه.
5-التوجه الانساني المتزايد في العالم, ستدفع الكثير من الدول والمنظمات ان لم تكن كلها الى ارسال سيل من المساعدات الانسانية تغطي الكثير من احتياجات الشعب العراقي.

امام هذه المعطيات الواقعية وغيرها, وحتى يكون الحصار "ورقة رابحة". فكر الدكتاتور"كثيرا", في تحويل" الحصار الاقتصادي الدولي", من مجرد"آلية" محدودة ومؤقتة... الى "كارثة انسانية" تعم الشعب العراقي كله, تحت ستار "الحصار الاقتصادي الدولي", ليتمكن بعد ذلك من تحقيق ما يريد من الاهداف, ومن بينها الاهداف الخمسة التي اشرنا اليها سابقا.. وكانت الطريقة المثلى التي تفتق عنها" جنون الدم", ان يقوم هو بنفسه, في فرض" حصار اقتصادي داخلي", اشد قسوة.. واكثر احكاما.. واسرع انهاكا, من الحصار الاقتصادي الدولي "الهش", بحيث يربط المواطنين العراقيين جميعا من "امعائهم", وبما يؤدي في النهاية الى"كوارث انسانية" حقيقية وليست مجرد توقعات, فينشغل العالم بها دهورا, وينسى في خضم"نتائجها" البائسة, حكاية الدكتاتور وجرائمه المتعددة.
وكانت هناك طرق كثيرة امام الدكتاتور, يفرض من خلالها"حصاره الاقتصادي الدولي".. من بينها:

اولا: التدخل المباشر في تسريع "فعل" القوانين الاقتصادية، في مثل تلك الظروف التي مر بها العراق، وبالتالي خلق" أزمة" اقتصادية مطلوبة تكون الاساس لما سيحدث مستقبلا. وكانت البداية مع "النقود"، حيث قام النظام بطبع المليارات منها بدون غطاء، وصل الامر في العام 1996، الى ان هناك خمس جهات تقوم باصدار النقد في العراق (البنك المركزي، القصر الجمهوري، اللجنة الاولمبية، الامن الخاص، ووزارة الصناعة).. وكانت النتيجة: تضخم سريع بلغ اكثر من 1000% ارتفاع جنوني في الاسعار بلغ اكثر من 1000% ايضا... تقلبات حادة في سعر صرف الدينار لصالح الدولار بالدقائق واللحظات، بناءً على "اتصال هاتفي" من احد"مراكز" قوى النظام التي تمسك بالجهاز التنفسي للسوق العراقية.
ثانياً: اغراق السوق العراقية، بأنواع البضائع، الى درجة ان السوق العراقية، اصبحت بعد الحصار الاقتصادي، تنافس كل اسواق المنطقة، في نوعية وكمية المواد المطروحة بما فيها المواد الطبية والغذائية والانسانية.. والاستراتيجية ايضا.. ففضلا عن ان مخازن النظام الحكومية تغص الى حد الاختناق، بالمواد الغذائية والطبية، بما فيها حليب وادوية الاطفال.. بما يكفي لعشرات السنين.. وكان المصدر الاول لهذا الاغراق هو المواد التي يستوردها "تجار" النظام، لحساب "النظام" باموال "نفط الشعب العراقي" المهرب، لبيعها في " السوق العراقية"، وبالعملة الصعبة.. اما المصدر الآخر فكانت المساعدات الغذائية والطبية والانسانية- بما فيها حليب ودواء الاطفال- التي كانت ترسلها الدول والمنظمات الانسانية الى الشعب العراقي، فيصادرها النظام ويبيعها الى "الشعب العراقي"بدلا من توزيعها عليه..

مثال/ جمعية الهلال الاحمر العراقية التي تمتلئ مخازنها في بغداد بالمواد الغذائية والطبية- بما فيها حليب وادوية الاطفال والبسكويت- بما يكفي الشعب العراقي لعشرات السنين، حيث يقوم الاتحاد الدولي للصليب الاحمر والهلال الاحمر، بتخصيص شاحنات من المواد الغذائية والطبية لكل محافظة عراقية وبالاسم، لكن الذي يحدث ان ثلاث شاحنات فقط هي التي تصل، الى محافظات كردستان (السليمانية- اربيل- دهوك) بعد ان تحررت من سيطرة الدكتاتور. اما باقي الشاحنات- ومنها مثلا شاحنات مبردة بلقاح للاطفال يستوجب استعماله خلال 24 ساعة- فتصادر في بغداد، ليقوم النظام بعد ذلك، ببيع محتوياتها "لحسابه الخاص"، وتوزيع قسم ضئيل منها- على سبيل التغطية- من خلال المنافذ الموجودة في المحافظات، على "السيد" المحافظ، و"الرفيق" مسؤول الحزب، و"رفاقه الميامين"، وموظفي الهلال الاحمر، الذين كانوا قد قاموا ببيع "قسم" من "القسم الضئيل" لحسابهم، قبل التوزيع..
ثالثا: بعد ذلك كله، قام النظام بتجريد المواطن من اية سيولة نقدية كافية لشراء حاجاته من هذا الفائض الغذائي والطبـي الموجود في السوق، بعد ان وضع للحصة التموينية حدودا، تجعل المواطن في حاجة دائمة لشراء ضروراته من السوق المحلية.. فيجد المواطن نفسه امام ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الاول: شراء حاجاته المتبقية من السوق. ولكن كيف يحصل على السيولة..؟ ان كان موظفاً، فالراتب الشهري لا يكفي لشراء حذاء طفل واحد وصل الحد الادنى لسعره (5) آلاف دينار. والاطفال كثيرون فماذا يفعل..؟ لا يجد امامه الا الرشوة او الاختلاس من المال العام.. واذا لم يكن موظفا، فعليه ان يعمل في السوق. لكن فرص العمل قليلة. والسوق العراقية تحولت الى غابة بعد ان سيطر عليها ممثلو المراكز العليا في النظام. واذا لم تكن هناك فرصة عمل. فلا يجد امام جوع عائلته الا السرقة، لوحده او مع الآخرين. فتنتظم الجريمة..
الاحتمال الثاني: ان يبيع جزءاً من حصته التموينية، ليشتري المتبقي من حاجياته الاساسية، لكن كيف سيعوض النقص الحاصل من المباع من الحصة..؟ حلقة دائرية.. امامه الاحتمال الاول بكل صوره ونتائجه.. او ان يخرج اطفاله من المدرسة، ليبيع عملهم- كسلعة رخيصة- في سوق الحقل الحيواني "الوطني" للدكتاتورية، الذي كان "معلم الاطفال" قد سبقهم اليه، ليبيع تحت غائلة "التجويع" الدكتاتوري حتى "شرفه" المهني.. او.. او.. وكل "أو" بحد ذاتها "كارثة"..
الاحتمال الثالث: ان ينظم حياته مع عائلته، على العيش ضمن المستوى المتوفر من الحصة التموينية.. وهذا يعني، تدهورا في الحالة الصحية والعقلية والبايولوجية. فعليه اذاً، مراجعة الاطباء والصيدليات والمستشفيات، فمن اين له السيولة النقدية لاشباع جوع الاطباء، وعطش الصيدليات، وغول المستشفيات..؟

رابعاً: تقنين الحصص الطبية- خصوصا ادوية وحليب الاطفال- بما يخلق ازمة دائمة.. ضاغطة. فترى المستشفيات والصيدليات والمخازن "الخاصة"، مليئة بكل انواع الادوية. لكنه لا يصل "المواطن" الا "بالتقطير" فلا يخرج النظام من مخازنه الخاصة، الغاصة بالمواد الطبية الا القليل.. خصوصا حليب وادوية الاطفال. ولكن ماذا يفعل النظام بالفائض- الى حد الفيضان- من الغذاء والدواء..؟


هناك ثلاثة خيارات:
الخيار الاول: يقوم بتهريبها عبر كل المنافذ، والمهربون في الدائرة العليا الاولى من هرم النظام. والمنافذ مفتوحة الى كل دول الجوار (عربية واقليمية) وبلا استثناء، وتحت مرأى ومسمع الامم المتحدة، وعلى مرمى من نقاط تفتيش التحالف الدولي. فتضاف عائدات التهريب الى عائد النفط المهرب. ليستورد النظام "المؤمن" المرمر، والويسكي الغربي والظودكا الروسية، واسلحة وادوات قمع الشعب، والسيارات الفارهة للنخبة المتحكمة في كل شيء..
الخيار الثاني: يقوم ببيعها الى "سوقه الخاصة" في الشورجة، ومن ثم الى المحافظات، بالنسبة الى المواد الغذائية.. والى الصيدليات والموظفين الصحيين بالنسبة للادوية..
الخيار الثالث: اذا لم يتمكن النظام من التهريب او البيع لأي سبب، فإنه يقوم، بحرق الفائض الغذائي والطبـي.. قاطرات بعد قاطرات.. خصوصا حليب وادوية الاطفال..!!؟؟
خامسا: وحتى يضمن عدم رفع "الحصار الاقتصادي الدولي" الشكلي، الذي يغطي حصاره الاقتصادي الداخلي الحقيقي، فإن النظام يقوم، بافتعال "ازمات" متتالية مع الامم المتحدة والمجتمع الدولي، يعرف هو قبل غيره بأن لاقدرة له في مواجهتها.. ليشن الحملات الاعلامية المكثفة، ويستكتب المأجورين والمخدوعين يُسيِّر "المظاهرات" ويرسل المبعوثين ويختلق المواقف والاسماء والحوادث. ويقيم الدنيا ويقعدها، على "الورق" و"شاشات التلفزيون".. ثم في النهاية يقبل كل شيء وتنتهي الازمة.. لتبدأ الاخرى.. والنتيجة دائما، ضمان "بقاء" اطول "للحصار الاقتصادي" ولعمره معا..
سادسا: واذا حدث وان "اضطر" النظام الى قبول قرارات دولية لصالح الشعب العراقي مباشرة، وبما يؤثر-من الناحية الشكلية-على جدية الحصار، فإنه يكون قد افرغ القرار من كل مضامينه اولا، قبل قبوله.

مثال/ قرار النفط مقابل الغذاء: ظل النظام يماطل في قبوله منذ سنة 1991 حتى اعلن قبوله بموجب القرار 986 في 14نيسان 1995، لكنه كان قبل ذلك قد افرغه من مضمونه وخطّط لتعطيله.. وذلك بطريقتين:
اولهما: بدأ النظام ومنذ بداية عام 1992 بتخفيض مستمر في مقادير الحصص التموينية، بحيث اوصل المواطن الى ماقبل اعلان القبول بيوم واحد في عام 1996، الى حالة مجاعة حقيقية محسوسة، وكل الذي فعله "بموجب" القرار، انه اعاد الحصة الى ماكانت عليه في البداية وبعد ان استقطع منها بعض المواد نهائيا (شفرة الحلاقة ومعجون الاسنان مثلا) ليدفع المواطن بعد ذلك الى التساؤل عن جدوى القرار..
ثانيهما: لما كان القرار هو "النفط مقابل الغذاء"، فإن النظام قد "تعمد" تضمين العقود، الكثير من المواد التي لاتصنف ضمن المواد الغذائية والطبية، وذات استخدام مزدوج. فتقوم لجنة العقوبات مضطرة، برفضها او تعطيلها، وحين تصل المواد الغذائية والطبية، يكون مصيرها مخازن النظام وجيوبه، وما سيوزع منها، يكون قد تم استبداله بنوعية رديئة (الطحين الفرنسي من الدرجة الاولى مثلا، يقوم النظام باستبداله بنوعية رديئة، مستغلا غياب مراقبـي الامم المتحدة بحكم ان اشرافهم غير مباشر). وبعد ذلك كله، يصرخ النظام "باكيا" ليحمل الامم المتحدة والمجتمع الدولي "مسؤولية" معاناة "شعبه".

النتائج
وفقا "للـلعبة" التي هيأ الدكتاتور اسبابها. كل النتائج تبدو بعد ذلك(منطقية كل سبب يؤدي الى نتيجة او نتائج)
فنكون امام.. موت الآلاف من الاطفال شهريا، وبمعدل طفل واحد كل (8) دقائق.. مظاهر حرمان وتسول وعوائل ارصفة، لم يعرف لها العراق سابقة.. تدهور في الحالة الصحية والعقلية.. تدني في جميع مستويات التعليم وهجرة مخيفة للعقول العلمية والثقافية..
انتشار الجريمة المنظمة (المافيا).. فساد اداري لم تشهد له المنطقة مثيلا حتى في زمن الاستعمار العثماني.. انتشار الرذيلة في مجتمع كانت الفضيلة والى وقت قريب اهم مرتكزاته.. تدهور في مستويات الدخل الفردي الى دون مستوى العامل غير الماهر في الهند.. اكثر من "3" مليون عراقي يعيشون في الشتات.. والنتائج كثيرة.. لكن، نتيجة النتائج لهذا كله ، (وهي التي يسعى اليها الدكتاتور). ان العالم صار شغله الشاغل تلك "الكوارث الانسانية" التي حلت على الشعب العراقي نتيجة "للحصار الظالم". وسائل الاعلام وفضائيات وشخصيات بدأت تكثر الحديث عن معاناة الشعب العراقي، وتنوح على اطفاله المحرومين من "الغذاء والدواء". وشاركت المنظمات الانسانية "باغراقنا" بالارقام والتوقعات لحجم "الكوارث" الانسانية والبيئية. وموظفون من الامم المتحدة، يغطون نوما في غرف مكيفة صيفا وشتاءً، ويستقون معلوماتهم من موظفين "عراقيين" يشرف عليهم جهاز المخابرات، يستقيلون.. وقناة "الجزيرة" القطرية تخصص "برامج باكية" خاصة لمعاناة العراقيين.. والكثير.. الكثير من الضجيج.. الذي يأخذه الدكتاتور بعد ذلك، ليعيد "برمجته"، تكراريا، يوميا، ومركزيا.. حتى "الغثيان".. وكانت الوقائع والارقام كلها صادقة وصحيحة. لكن في النتائج فقط.. اما الاسباب فلا علاقة لها، الا من حيث الشكل، بالحصار الاقتصادي المعلن عنه في القرار 661 في 1990.. لكن العالم في خضم الحديث عن "الموت" و"الكوارث" و"توابيت الاطفال المملوءة بالحجارة"، نسي جرائم الدكتاتور وحصاره الاقتصادي الداخلي، الذي كان وحده (السبب الحقيقي) لكل ما حدث ويحدث في العراق.. ونسي العالم- ايضا- الجانب الآخر من الصورة، والتي تكمن فيها كل"الحقيقة".. حقيقة "الحصار الاقتصادي" ومن الذي يفرضه..

الجانب الآخر من الصورة
كان الجانب الآخر من الصورة، ينقل الينا مظاهر بذخ وترف وتبذير للدكتاتور واقاربه وحواشيه.. وغلمانه وجواريه.. لا يمكن قطعا ان توجد في بلد يعاني من أي نوع من انواع الحصار:

* الصرف والبذخ الواسعين، وبالعملة الصعبة، على احتفاليات الميلاد والمناسبات والجداريات والصور، ووسائل الاعلام والفضائيات العربية والعالمية.. وبناء القصور و"المعابد" الجديدة، والمطاعم الفاخرة (التي شغل تلفزيون الشباب بها عن سواها).. والمهرجانات الادبية والفنية الراقصة.. والمكارم "النقدية" على الضباط والشيوخ والوجهاء.. الخ.. والسؤال، اذا كان هناك حصار دولي كما يدعون، فمن اين يأتي النظام بكل هذه "العملة" الصعبة/ السهلة..؟
* بلغت المخصصات الشهرية- على سبيل المثال- لعضو الفرقة الحزبية (50) ألف دينار، ولعضو الشعبة (80) ألف دينار، ولعضو الفرع (150) ألف دينار.. اما صعودا والعسكريين من ذوي الرتب الخاصة، فحدِّث ولاحرج.. والجهاز الحكومي على سبيل المثال- ايضا- (100) مليون دينار لكل من عزت الدوري وطه محيي الدين معروف، و(60) مليون دينار لطارق عزيز ومحمد حمزة الزبيدي وغيرهم، هدية من لدن "المقام العالي" حتى يستطيعوا مواجهة الحصار (ياللمساكين). فاذا كان هناك حصار، كما يزعمون. فمن اين جاءوا بكل تلك المليارات والملايين..؟
* يتحدثون عن ازمة دواء في العراق.. لكن السؤال، اذا كانت هناك ازمة دواء فعلا كما تقولون، فمن أين يأتي الصيادلة والموظفون الصحيون، بكل هذا الزخم الكمي والنوعي من الادوية..؟ من الباراسيتول الى دواء القلب والسرطان، وكل ما يحتاجه الطفل من صرخته الاولى، والى ان يخلِّف هو اولادا جدد..
تلك كانت عينات من الواقع، على سبيل المثال لا الحصر، للجانب "المغيب" من الحقيقة.. لكنهم مع ذلك، يتحدثون عن "حصار اقتصادي دولي" مفروض على العراق.. وينسون، بل يتناسون، الاسباب الحقيقية لكل ماحدث.. وهي اسباب تتجمع كلها حول.. الدكتاتور و الدكتاتورية.

الخلاصة
ذلك كان عرضا عاما لكل جوانب الصورة.. ومع انه جاء مختصراً، الا انه يعطينا- كما نأمل- نتائج مباشرة لوعي "حقيقة" الحصار الاقتصادي الداخلي، الذي يفرضه الدكتاتور شخصياً- ولا احد غيره- على الشعب العراقي.. ومن بين هذه النتائج:

1-ان الدكتاتور قبل 2 آب1990، وقبل ان نسمع او نرى الحصار الاقتصادي، كان قد دمر العراق- دولة ومجتمعا- لمصلحة سلطته، التي لا مصلحة لها سوى خدمة نفسها، وامتيازاتها، وترفها الخاص وتحقيق "لذتها" الخاصة بشتى الوسائل والاساليب.
2-ان "الحصار الاقتصادي الدولي" هو مجرد اكذوبة في الواقع، اما الحصار الاقتصادي الحقيقي المفروض على الشعب العراقي بنتائجه "البائسة"و"الكارثية" فهو حصار الدكتاتور الاقتصادي وقبله السياسي والاجتماعي على الشعب العراقي.
3-ان "الحصار الاقتصادي الدولي" كان "غطاءً" مطلوبا، ليقوم الدكتاتور من خلاله بفرض "حصار اقتصادي داخلي" اشد قسوة واكثر احكاما، في تحقيق "كوارث انسانية" حقيقية، ينشغل العالم بها، عن جريمته الكبرى في احتلال الكويت والتي كانت سببا وحيدا لفرض "الحصار الاقتصادي".. وتنسى الجماهير العربية والاسلامية، هزيمته النكراء وشعاراته الزائفة.. ويقوم خلال ذلك كله، بالانتقام "الجماعي" من الشعب الذي رفض هو وابناؤه الجنود، حربه المجنونة ودكتاتوريته المقيته، ويحقق من خلال "التعذيب والالم الجماعي" الذي يحدثه فيهم،"اورجازم نشوته الدكتاتورية المريضة".. ولتتحول المعركة في النهاية، من قضية شعب تطحنه الدكتاتورية بقمعها السياسي والاجتماعي وحصارها الاقتصادي، الى "قضية انسانية" لشعب يطحنه "الحصار الاقتصادي الدولي"..
4-ان "الحصار الاقتصادي الدولي" سيظل حديث الدكتاتور، و"ورقته الوحيدة"، حتى لو تم رفعه لأي سبب من الاسباب، لأنه بات "عريانا" من كل شيء، بعد الذي حدث.
....لكنه حينذاك سيتحدث- اذا ما رفع الحصار- عن "انتصار ذهني مريض" لايوجد الا في خياله.. وسيظل يتحدث –ايضا- عن آثار "الحصار الاقتصادي"، لعشر سنين اخرى .. وأخرى.. لنكتشف، ان ما سمي "بالحصار الاقتصادي الدولي"، كان في الحقيقة "مظلوما" لا ظالما، لأنه حمل حتى سوءات وخطايا وجرائم الدكتاتور قبل 2 آب1990.

كلمة اخيرة
ترى، هل اننا بذلك "نبرئ" الحصار الاقتصادي الدولي، مما يحدث في العراق..؟
الجواب سيكون "بالنفي" بالتأكيد.. يكفي ان "الحصار الدولي"، قد استخدمه الدكتاتور غطاءً، لينفذ من خلاله، جريمته الكبرى في حصار الشعب العراقي وامتهان كرامته واذلاله.. وهذا يشكل بحد ذاته، عنصرا من عناصر تحقق"الجريمة" كما ارادها وخطط لها ونفذها الديكتاتور "بالفطرة" التي ولد عليها..
تلك هي الحقيقة.. حقيقة الحصار الاقتصادي الداخلي، الذي فرضه ويفرضه الدكتاتور على الشعب العراقي.. وهي"حقيقة"، فيها قدر كبير من "الخديعة" للعالم.. ومقدار اكبر من "الألم الجماعي" للشعب العراقي.. لكن "ذروة المأساة" في هذا وذاك، ان "المعارضة العراقية" قد انطلت عليها "الخديعة" هي الاخرى، وانجرت اليها جراً.. فبدأت تتحدث بصوت عال- صار عند البعض مزايدة- وتطالب برفع "الحصار الاقتصادي الظالم" المفروض على "شعبنا" العراقي..
حسنا، اننا معكم- ايها السادة- ونضم صوتنا الى صوتكم في المطالبة – وبصوت اعلى- برفع "الحصار الاقتصادي الجائر" عن شعبنا.. ولكن علينا اولا، ان نحدد، أي "حصار اقتصادي" نعني ونقصد.. واذا استطعنا- وهو مستطاع- التحديد.. حينذاك- فقط يصبح الحديث عن "حصار اقتصادي داخلي في العراق"، كل الوقائع والادلة تشير اليه.. اكثر شرعية وواقعية من الحديث عن "حصار اقتصادي دولي على العراق"، كان وسيبقى حبرا على ورق..













1- الارتكاريا: نوع من امراض الحساسية الجلدية.
2- مقالتنا السابقة المعنونة "الديمقراطية على الطريقة الديكتاتورية"- جريدة الاتحاد الغراء العدد (362)
3- د. عبد الوهاب حميد رشيد- مستقبل العراق- دار المدى- دمشق- ط 1-1997- ص31 وما بعدها، والجداول المثبتة في الكتاب.. وانظر ايضا، "المنتخب" مجلة يصدرها بنك المعلومات العراقي في طهران- اعداد متنوعة.. وقرارات الامم المتحدة.



رؤية ناصرية من القضية العراقية 5 - عبد الستار الجميلي


وجهة نظر عربية

توطين الفلسطينيين في العراق.. لمصلحة من..؟

تناقلت وكالات الانباء قبل ايام اخبارا عن وجود اتفاق على وشك ان تبدأ فصول تنفيذه، بين النظام العراقي من جهة واسرائيل (والسلطة الفلسطينية معه) من جهة اخرى، حول اسكان نصف مليون فلسطيني في مدينتي كركوك وخانقين ومنحهم الجنسية العراقية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن الشعب العراقي.. ولنا على هذا الخبر ملاحظات اساسية، تستند الى ما وراء هذا الخبر وطريقة صياغته والظروف المحيطة به وتوقيته، وهي ملاحظات تحتم علينا دائما الغوص في اعماق المشكلات وعدم الاكتفاء بما هو ظاهر ومنقول على ذمة الوكالات.

قلنا في مقالة سابقة لنا في جريدة الاتحاد الغراء في عددها(358) عن انعكاسات السلام على القضية العراقية (ان التغيير في العراق سيصبح مطلوبا بعد توقيع معاهدة السلام( الاسرائيلية- السورية)، بل ان التغيير في العراق سيكون اول نتائج هذا التوقيع.. وان "التغيير الامريكي" القادم- وفقا لمنطق المرحلة- سيتلاءم حتما مع مرحلة السلام وعلاقاته وثقافاته وديمقراطياته الجديدة في كل شيء.) قلنا هذا، ولكننا لم نحدد.. اي تغيير..؟ ونضيف هنا ان "التغيير الامريكي" قد لايتضمن اسقاط النظام الديكتاتوري ذاته ولا حتى اي وجه من وجوهه.. ولكنه قد يتضمن اعادة "برمجة" النظام وفق مرحلة السلام واشتراطاتها. وفي هذا الاتجاه بدأنا نتلقى اشارات ودلالات يمكن تفسيرها في هذا الاطار، منها التوطين الفلسطيني الذي تناقلته وكالات الانباء بذكاء يتوافق مع مرحلة السلام، ومنها- ايضا- ما سمي بديمقراطية الاحزاب الرديفة والشقيقة الذي بدأ النظام في بغداد يتحدث عنها منذ زمن.

وفيما يخص التوطين، الذي نعتقد بأنه جزء جوهري واساسي من مرحلة السلام تلك، فلنا عليه الملاحظات التالية:

*الملاحظة الاولى
إن مسألة توطين الفلسطينيين في دول اخرى، ليست مسألة جديدة، وان اعيد طرحها في هذه المرحلة. فاندماج الفلسطينيين في مجتمعات اخرى ومنحهم جنسيتها، هو واحد من الحلول التي قدمتها "اسرائيل" لمشكلة ما سمي "باللاجئين الفلسطينيين" منذ سنة 1948، بداية النزوح الفلسطيني بكثافة ضاغطة على الدول والمجتمعات التي هاجروا اليها، وبالتالي اصبحت مشكلة عالمية اخذت موقعا هاما في قرارات وسياسات "منظمة الامم المتحدة". وقد عملت "اسرائيل" المستحيل من اجل هذا التوطين، لأن وجود"مخيمات فلسطينية"، غير مندمجة ولاتحمل جنسية او هوية"غير فلسطينية" وبهذا الحجم السكاني المسيَّس، يحمل لها هما امنيا ينغص عليها "وجودها"، ويذكر العالم في كل لحظة بوجود شعب بلا ارض.. اي ان التوطين، كان جزءا من رؤية "اسرائيلية" ترى في قضية فلسطين، قضية لاجئين وليست قضية شعب طرد من ارضه، وهي رؤية حاولت "اسرائيل" ان تثبتها في الوعي العالمي.

*الملاحظة الثانية
كان العراق من بين الدول التي طرح توطين الفلسطينيين فيها واندماجهم في مجتمعاتها ومنحهم جنسيتها.. وقد درس هذا المشروع فعلا ايام العهد الملكي المباد، الذي كانت دولته"البريطانية" تشكو مما تسميه بالخلل الديموغرافي للسكان، حيث الاغلبية الشيعية المحكومة (وفق منظار النظام الملكي طبعا) والاقلية السنية الحاكمة( الواقع ان ما يسمى بالاقلية السنية لاوجود له في هرم السلطة الملكية، التي كانت سلطة لتحالف من انصار فيلبـي ولورنس وكوكس، والطبقة الاقطا- رأسمالية، التي لم تعرف من هوية"وطنية" او مذهب "ديني" إلا الامتيازات المادية والمعنوية).. لكن هذا المشروع تعطل بثورة 14 تموز 1958، وماتلاه من احداث، وكان من بينها صدور قانون الجنسية العراقية الجديد رقم 42 لسنة 1963، وعلى الرغم من ان هذا المشروع تضمن فقرات جوهرية، تكرس الرؤية "الطائفية" للقانون الملكي الملغى، لكنه عطل والى حد كبير، مشروع التوطين، حين نص بوضوح على عدم جواز منح الجنسية العراقية للفلسطينيين، مع انه اعطى حق اكتساب الجنسية العراقية للعرب والمغتربين والاجانب في فقرات اخرى منه.. ومع ان المشروع قد تعطل، إلا انه ظل كامنا، حتى طرح من جديد مع انقلاب 17 تموز/1968، الذي لم تكن الاصابع التي نفذته، الخفية منها او المعلنة، بعيدة عن هذا المشروع، وان لم يكن من الاولويات. وقد شهدت عقود السبعينيات والثمانينيات طرح هذا المشروع اكثر من مرة على المستوى الاعلامي، لجس النبض من جهة، والتمهيد النفسي والفكري من جهة اخرى، وقد ترافق مع هذا، موقف مضاد من القضية الفلسطينية تبناه النظام على كافة المستويات وتحت ستار كثيف من الشعارات المتطرفة التي لم تصل الى مرحلة الفعل حتى ولو من باب التمويه.
وقد جاءت اللحظة التاريخية المناسبة لاطلاق هذا المشروع فعلا، بعد الحروب التي شنها الدكتاتور بالنيابة، ضد ايران المسلمة والكويت العربي، والشعب العراقي بكل فئاته وقومياته وطوائفه واقلياته، وما افرزته من متغيرات عراقية وفلسطينية وعربية واقليمية ودولية، حيث صبت كلها في النهاية لصالح السلام ومراحله القادمة.

*الملاحظة الثالثة
ما قدمناه يبين لنا ان ما تناقلته وكالات الانباء ليس جديدا، من حيث انه مشروع مطروح اصلا لحل "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" الذين ينغصون على اسرائيل "وجودها"، ويذكرون العالم كل لحظة بشتاتهم المعلن.. لكن الجديد في هذا الخبر- المشروع، هو ثلاث نقاط جديرة بالانتباه والتأمل، لا مجال لمناقشتها بالتفاصيل الدقيقة في هذا المقال لكننا نطرحها هنا للنقاش ممن يعنيهم الامر:
1- التوقيت الذي طرح فيه هذا المشروع بالنسبة للقضية العراقية، حيث وصلت هذه القضية بعد ثلاثين سنة من القمع المتواصل لنظام جعل من العنف قانونا اعلى ومن القتل المنظم هدفا لذاته، وبعد عشر سنوات من الحصار الاقتصادي الدولي- الداخلي المروع وحشد من وعود ومشاريع التغيير.. وصلت الى مرحلة من الشكوك وفقدان الثقة وعدم المصداقية المتبادلة بين الاطراف، خصوصا ما يتعلق منها بقضية التغيير نفسها ومدى جدية المجتمع الدولي- وامريكا في مقدمته- في طلبه.
في ظل هذه المرحلة اثير المشروع وبعد حالة"استرخاء" واضحة جدا، نلمسها جميعا، ما بين المجتمع الدولي(امريكا ومجلس الامن) والنظام الدكتاتوري، وهي حالة طرحت العديد من الاسئلة والاحتمالات، كان من بينها اعادة تأهيل الدكتاتور، عن طريق "برمجته" تمهيدا لتطبيع العلاقة معه.. أليس التطبيع هو "استعلامات" الدخول الى السلام وعنوان استراتيجيته المعلن..؟
2- ربط التوطين برفع الحصار الدولي عن الشعب العراقي.. وهنا تكمن الجدة والخطورة. ربط التوطين (الذي يحل جانبا اساسيا من مشكلة "اسرائيل" ووجودها) برفع المعاناة عن الشعب العراقي عن طريق رفع الحصار الدولي(وهو حصار شكل قضية انسانية تؤرق العالم).. تماما كما ربطوا لنا انسحاب النظام من الكويت (الدولة العربية المعتدى على ارضها وشعبها ظلما وعدوانا في عدوان 2/آب/1990) بانسحاب اسرائيل من الاراضي العربية المحتلة (وهي الاراضي التي احتلتها "اسرائيل" عدوانا واغتصابا في عدوان 5 حزيران /1967)..
وبهذا الربط يريدون تحقيق نتائج كثيرة..
لكن اهمها، تصوير الديكتاتور على غير حقيقته، وتجميل الجريمة والقبح بألوان زائفة من الحق الذي دنسته اقدام الطغاة.
لكنهم في عملية الربط هذه المرة- كجزء من عملية التأهيل الجديدة- يحاولون ان يصوروا لنا كما لو ان الدكتاتور هو مع رفع الحصار "الدولي"، مع ان الحقيقة التي يعرفها الشعب العراقي، ان الحصار الدولي مجرد اكذوبة لاوجود لها إلا على الورق، اما الحصار الذي نشهده في العراق بنتائجه الانسانية البائسة وعلى كافة المستويات، فهو حصار داخلي بحت فرضه الدكتاتور على الشعب العراقي بهدف تجويعه واذلاله للوصول به الى حالة يقبل فيها كل شيء بما فيه" التوطين" و"التطبيع". (المهم اعطونا اي شيء لكي نأكل..)، وهو موضوع ناقشناه بمداخلة اقتصادية، في سياق مقالتنا المنشورة في جريدة الاتحاد الغراء باعدادها المرقمة(349-350-351) تحت عنوان (التيار القومي العربي والمعارضة العراقية).
3- والجديد الاكثر خطورة وجدية في تطور المشروع التوطيني، هو في اختيار اماكن معينة داخل العراق لها دلالتها التاريخية والرمزية في اطار المكونات الاثنية العراقية.. كركوك وخانقين، (( اللتان تشكلان جزءا من خريطة كردستان المعلنة في برنامج الحركة القومية الكردية التفاوضي مع السلطة المركزية في كل العهود، وما زالت الى الآن موضع خلاف- خصوصا ما يتعلق، بمدينة كركوك تحديدا- بين الاطراف)) مما يضيف تعقيدا جديدا للمشكلة وعوامل استفزاز مضافة.
لذلك، واستنادا الى الملاحظات والنقاط التي اوردناها سابقا، فإن الدكتاتور يريد من هذا التوطين، وفي هذه الاماكن بالذات المختارة من العراق اضافة الى الاهداف العامة الخاصة بتصفية قضية فلسطين وشعبها، يريد تحقيق عدة اهداف:

1- تغيير الوضع الديموغرافي للعراق، باتجاه حل عقدة سلطة الاقلية، التي لم يستطع كوكس ان يحلها إلا بتأسيس "دولة عرجاء معاقة".. وهي عقدة ظلت كامنة في بنية الدولة (عقدة المكونات المذهبية- الاثنية).. عطلتها ثورة 14 تموز/1958 ولو الى حين، لكنها سرعان ما استيقظت عنيفة دامية مع انقلاب 17 تموز 1968.
2- ان اختيار خانقين وكركوك لتوطين الفلسطينيين، يريد الدكتاتور منه تحقيق هدف له جانبان، فمن جهة يحقق اغلبية "عربية" في تلك المناطق مما يضيف عقدة جديدة لأصل المشكلة، ومن جهة اخرى يقيم "حزاما امنيا" لصد المعارضة العراقية، اذا ما توحدت وقررت ان تحسم الموقف لصالحها، وكردستان هي المرشحة دون غيرها من الحدود العراقية لان تكون منطلقا محتملا لأي عمل وطني ناجح.. اي انه يريد ان يستخدم الفلسطينيين لضرب الشعب العراقي بعربه وكرده، كما استخدم "قوات مسعود رجوي" في قمع انتفاضة الشعب العراقي في آذار/1991، وحراسة وجوده المنهار كجزء من سياسته الامنية الانكشارية الجديدة (جرب الدكتاتور مثلا سياسة تعريب كركوك في الثمانينات بجلب كثير من الوافدين العرب اليها، لكن عرب كركوك الوافدين والقدماء خيبوا آمال الدكتاتور واصابوه بالصدمة حين انحازوا الى جانب الاكراد والمعارضة العراقية في انتفاضة آذار/1991 الى حد حمل السلاح ضده).
3- تجميل صورة الدكتاتور بعد سنوات طويلة من القمع والتجويع للشعب العراقي واظهاره بمظهر الحريص على شعبه وانهاء معاناته من خلال ربط التوطين برفع الحصار، كجزء من عملية اوسع تتضمن اعادة تأهيل النظام وبرمجته ليتلاءم مع مرحلة السلام واشتراطاته.
4- المساهمة في حل معضلة سلطة ياسر عرفات المحصورة بين غزة واريحا، العاجزة عن استيعاب كل اعداد الفلسطينيين في الشتات.. ولما كانت السلطة الفلسطينية بشريطها الضيق هي كل ما يمكن ان تتحمل مرحلة السلام منحه وتوفيره، فإن اعداد الفلسطينيين ستشكل حتما عامل ضغط سلبـيا على السلام وممكناته الاسرائيلية، مما يستدعي تحركا سريعا لحل هذه المشكلة، والتوطين سيكون واحدا من اكثر الحلول عملية وواقعية في مشروع السلام ومستقبله.
5- ولتحقيق هذه الاهداف، فإن التوطين لابد ان يتجاوز- منطقيا- الرقم المعلن لاعداد الفلسطينيين، من حيث الحجم والنوع.. فمن حيث الحجم فإن الارقام ستتجاوز العدد المتواضع الذي اعلن عنه، فرقم(500.000) لايحل مشكلة لا للنظام ولا لياسر عرفات ولا لاسرائيل، لذلك نعتقد ان الارقام ستتضاعف.. ومن حيث النوع فحزام النظام الامني يحتاج الى عناصر مقاتلة ومدربة، لذلك فإن هذا النوع سيكون هو الغالب على التشكيلة المراد توطينها..
تلك هي بعض الملاحظات التي اثارها خبر توطين عدد من الفلسطينيين في العراق، وهي في جانب اساسي منها تحمل "مخاوف" مشروعة وحقيقية لاننا مقبلون على مراحل مصيرية صعبة.. فماذا نحن فاعلون..؟






رؤية ناصرية من القضية العراقية 6 - عبد الستار الجميلي

العلاقات العراقية - الكويتية وصناعة المشكلات

لا يمكن فهم "مشكلة الكويت" في الذهن السياسي لقطاع من "العراقيين" التقليديين والاقليميين، الا في اطار "الظرف" الذي اختمرت فيه فكرة تشكيل "الدولة العراقية" في العام 1921، بكل عناصرها واصحابها ومواصفاتها، التي افرزت او صنعت تلك "المشكلات" المرة، التي مازلنا نعاني منها الى الآن، ومن بينها "المشكلة العراقية-الكويتية"، التي لم تدخل حياتنا الا بعد تشكيل تلك الدولة "المفتوحة" لكل الاحتمالات.. لذلك فإننا سنحاول من خلال هذا المقال، ان نضع مقاربة اولية لفهم تلك "المشكلة"، بهدف تجاوز مجرد ادانة غزو النظام الديكتاتوري لدولة الكويت العربية واحتلالها ارضا وشعبا، الى العمل من اجل الغاء هذه الجريمة الغادرة من ذاكرة الشعبين الشقيقين، ومنع احتمالات تكررها في المستقبل، وبناء علاقات سليمة في اطار الاخوة القومية والمصير القومي الواحد واحترام ارادة الشعبين..
*عودة الى الماضي:
مع قيام ثورة العشرين، كان قد تبلور مشروع دولة حديثة ذات افق قومي في العراق، وقد ظهر ذلك واضحا في مضمون المطاليب المعلنة التي تقدمت بها قوى الثورة وهي تقاتل قوات الانكليز على امتداد الارض العراقية، بعد ان تفجرت شرارتها الاولى في الرميثة والفرات الاوسط.. وازاء خطورة مشروع الدولة القومية التي تقدمت بها ثورة العشرين وقاتلت من اجلها، احس الانكليز بضرورة التحرك السريع لاجهاض هذا المشروع بعد ان تمكنت قواتهم من اخماد قوى الثورة الاساسية بالقوة والخداع معا، فقرر الانكليز التقدم بمشروع "دولة" اخرى، يلغي مشروع دولة ثورة العشرين، بأن يأخذ منها بعض ملامحها الاساسية بعد ان يفرغها من مضمونها الحقيقي.. فتحدد شكل ومضمون "دولة الانكليز" بنظام ملكي "دستوري" يديره ثلاثي مترابط المصالح والاهداف.. الانكليز في المقدمة وعلى القمة، وتحتهم "ملك" يتنقل "تحت الطلب" بين الجزيرة العربية وسوريا والعراق، ومجموعة من الضباط العراقيين "العثمانيين" الذين كان البعض منهم اسرى في الهند، وقبلوا جميعا التعاون مع الانكليز، وموظفين ومتنفذين عراقيين من مواقع مختلفة، اجادوا منذ زمن ليس بقليل فن تغيير الولاءات في اطار لعبة المصالح.. ولما كان الانكليز-بحكم تاريخهم الاستعماري الطويل-قد تعلموا امام ثورات الشعوب وضغطها المستمر، تعلموا واتقنوا "طقوس" الخروج من الباب والدخول من الشباك بعد ذلك، وحتى يضمنوا مصالحهم في العراق، فإنهم شكلوا "دولتهم" في العراق بمواصفات "سايكس بيكو" المتفجرة عند الضرورة وفق العناصر التالية:
1-البناء القسري لجغرافيا الدولة العراقية-بشرا وارضا-بحيث تضم المنطقة الكردية-وبغض النظر عن رغبة الكرد انفسهم-، بعد ان كانت المنطقة الكردية قد قسمت-كالمنطقة العربية تماما- بين عدة دول ومن بينها العراق، كجزء من لعبة الموازين الدولية التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، بما يؤجج الصراع القومي ويخلق مشكلة "متفجرة" عند الضرورة.
2-البناء الطائفي لهرم السلطة ومفاصلها الاساسية، بحيث تقتصر على طائفة اسلامية دون الاخرى، بما يكرس التقسيم الطائفي، ويحوله الى طائفية سياسية لا علاقة لجماهير وممثلي الطوائف الاسلامية بها.
3-خلق حدود جغرافية متحركة، بحيث تكون مثار مشاكل دائمة على المستويين العربي والاقليمي، وتستعصي على الحل، الى الحد الذي لا توجد فيه دولة محيطة بالعراق الا ولها خلاف حدودي مع العراق، ومن بينها دولة الكويت.

وهذا يعني-وفق العناصر الثلاثة اعلاه- ان الدولة التي اقامها الانكليز في العراق من خلال دمج ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة، كانت-وكما خطط لها الانكليز-"عنصرية" في مواجهة الاكراد، و"طائفية" في مواجهة الشيعة، وحدود "متحركة" مثار خلافات دائمة مع كل الدول المحيطة-بما فيها دولة الكويت-.. والنتيجة "المنطقية" لهذه العناصر، هي "ضرورة" قيام حكم ديكتاتوري مركزي-وبغض النظر عن شكل الدولة-لمواجهة هذه "الموازنة" الصعبة "اثنيا وطائفيا" والاستعداد الدائم "لحروب الحدود" المشتعلة جمرتها-وكما خطط لها الانكليز تماما- على الدوام..

مشكلة الكويت:
من داخل هذا الاطار التاريخي-السياسي لتشكيل الدولة العراقية، يمكن فهم موضوع "الكويت" في سياسة "التقليديين" و"الاقليميين" العراقيين بدءا بفيصل ونوري السعيد وانتهاءً بوريث "الدولة الانكليزية" الشرعي، النظام الديكتاتوري الحالي في العراق..
فالكويت، الذي تشكل ككيان دولة قبل تشكيل الدولة العراقية بأكثر من قرن، لم يكن في يوم من الايام جزءا مما سموه "العراق"-وفقا لتصورهم الخاص-، لأن التاريخ لم يسجل وجود "دولة" عراقية بحدود "ثابتة" و"خالدة" كالذي تحدث عنها "الانكليز" وفقا لمصالحهم، وتبعهم بعد ذلك تلامذتهم المخلصون.. لكن الحقيقة التي تمتلك اكثر من سند من الطبيعة والتاريخ، ان الكويت والعراق، بحدودهما "الطبيعية" المثبتة في المواثيق والمعاهدات الدولية كانا ومازالا، جزءا من الارض العربية الواحدة.. ولم يدخل موضوع "الكويت" السياسة العراقية، الا في اطار التخطيط الانكليزي-والغربي بشكل عام- لمواصفات الدولة العراقية "المتفجرة" على الدوام..
وتأسيسا على ذلك، فإن كلا من الملك غازي، حين أسس اذاعة موجهة من قصر الزهور للمطالبة بالكويت العام 1938، والدكتاتور المتخلف حين غزا دولة الكويت في 2 آب 1990-ومثلهما الباقين-لم يعبرا ابدا عن تطلع او وعي "شعبـي" عراقي لضم دولة الكويت، بقدر ماكانا يعبران عن سياسة انكليزية، رسمت خطوطها العامة والمستقبلية مع تشكيل الدولة العراقية في العام 1921.
لذلك فإن البحث عن "مبررات" مطالبة قطاع من العراقيين بالكويت، ثم غزوها بعد ذلك، خارج الاطار التاريخي لمخطط "سايكس بيكو" في تشكيل الدولة العراقية وغيرها من الدول القطرية الاخرى، ظل يدور في حلقات "ذاتية" لا تمتلك حدا ادنى من القدرة على الاقناع، لذلك فإن صورة الغزو ظلت تدور بين "آراء" متناقضة حتى في اطار "الموقف" الواحد، سواء كان معارضا للغزو او مؤيدا له..
وكلا الموقفين (المعارض والمؤيد) لم ينطلقا من موقف واع لجذور وابعاد الغزو، بقدر ما عبرا عن رد فعل آني للغزو سرعان ما تفتت وانهار بعد تحرير الكويت..
فمن جانب الآراء المعارضة-مثلا- فإنها ظلت تدور في اطار من مفاهيم الجامعة العربية والامم المتحدة السلبية، ولكنها لم ترق الى مستوى وعي الجذور التاريخية للغزو باعتباره جزءا من مخطط غربي اكبر يستهدف تجزئة "التجزئة العربية" ذاتها الى ذرات اصغر وتحت ستار من "الوحدة العربية" المغدورة من قبل الديكتاتور نفسه قبل أي طرف آخر، وبالتالي فشلت في ادراك الترابط المصيري بين النظام الديكتاتوري ومخطط "سايكس بيكو" والثلاثي الذي تشكلت منه الدولة العراقية، وكان فشلها الاكبر هو في التعامل مع "المعارضة العراقية" تحت دعاوى مزيفة كثيرة، ولتقع في الخطأ نفسه مرة اخرى.
فكما تركت شعب الكويت وحيدا في مواجهة الغزو الديكتاتوري، واكتفت بوجود رمزي، مما اضطره (أي شعب الكويت) الى طلب. "المعونة الخارجية" لتحرير ارضه، وهو ما كان قد استهدفه الغزو تماما (تثبيت الوجود الاجنبـي في الخليج العربي كان في مقدمة اهداف غزو الديكتاتورية لدولة الكويت)، فإن الموقف العربي، يقوم الآن بترك الشعب العراقي وحيدا في الميدان، ليواجه اكثر الانظمة دموية ووحشية منذ العصر الحجري والى الآن، وليواجه-وحيدا- ايضا، ضغط المجتمع الدولي وقبول شروطه من خلال المعونة الخارجية للخلاص من كابوس الديكتاتورية، التي كانت القوى الخارجية نفسها-وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية-وراء فرض هذه الديكتاتورية وديمومة تسلطها على الشعب العراقي..
وفيما يخص الآراء "المؤيدة" للغزو، فإن التناقض في مواقفها اكثر وضوحاً ومأساوية، حيث تجاوزت "الخطأ" في الموقف الى "الخطيئة"، حين تعاملت مع الجريمة والمجرم بمنطق قومي وتحت ستار "الوحدة العربية"، ولكنها لم تجشم نفسها عناء التساؤل "القومي" البسيط في مواجهة "الجريمة" الواضحة، عن المعنى المتبقي "للوحدة العربية" حين تقوم دولة عربية تدعي "القومية" باحتلال دولة عربية اخرى وتشريد شعبها بالكامل، تماما كما طردت "اسرائيل" الشعب العربي من ارض فلسطين العام 1948 بل واكثر.

*موقف عبدالناصر من مشكلة "الكويت":
ولا بأس ونحن ننهي المقال من تذكير القوميين، وفي مقدمتهم التيار الناصري-خصوصا في مصر- بموقف عبدالناصر، من مطالبة بعض العراقيين بضم "الكويت" في بداية الستينات، وقد انطلق عبدالناصر وهو الرمز القومي الكبير-من موقف قومي محدد وواعي للمشكلات "العربية" يحيلها الى جذورها التاريخية ويتعامل معها بروح الاخوة العربية والتسامح القومي..
حدد عبدالناصر موقفه من المشكلة وفق النقاط التالية:
1-ان ج ع م تؤمن بأن العلاقات بين الشعوب العربية لا تحكمها معاهدات او اتفاقيات قديمة او حديثه..
2-ان حركة الشعوب العربية في الوحدة، يجب ان لا تكون على النموذج التقليدي الذي ساد اوربا قبل الحرب العالمية الثانية وقاد اليها بسبب التمسك بالمطالب الاقليمية القائمة على نصوص معاهدات قديمة، ولذلك فإنه لا يمكن قبول الضم وان كان من الممكن تأييد منطق الوحدة الشاملة..
3-ان العراق والكويت يملكان الكثير من اسباب الدعوة الى الوحدة بينهما، بما هو اعمق وابقى من وثائق الامبراطورية العثمانية..
4-ان ج ع م تفرق بين الضم الذي يريده عبدالكريم قاسم(والدكتاتور حالياً) وهو ما ينبغي رفضه وبين الاجماع الشعبـي المقام على اساس الوحدة والاختيار الحر وهو ما ينبغي احترامه.. (الكويت وجودا وحدودا- ط1-1991- مصر ص102-103) والموقف الناصري هذا، مازال صالحا لأن يكون قاعدة متينة لعلاقات مستقبلية سليمة بين الشعبين الشقيقين، قائمة على الاخوة القومية واحترام ارادة الشعوب.. واذا كان ثمة مشكلات بين الدولتين-بما فيها المنفذ البحري للعراق والحدود-فإن الحوار على اساس هذه الاخوة واحترام الارادات، وبعيدا عن معطف "سايكس بيكو" ومشاريع كوكس، كفيل بحل اية مشكلة، ومهما كانت مستعصية..


رؤية ناصرية للقضية العراقية 7 - عبد الستار الجميلي



حزب ( حليحل )..

بين عامي 1971 و 1972، كنا مجموعات سياسية كثيرة.. ناصريين وبعثيين، شيوعيين واسلاميين، واكراد.. الخ، جاءت بنا أقبية الدكتاتورية الى موقف "الفضيلية" في بغداد.. وموقف "الفضيلية" هذا، كان "استراحة" يقضي فيها المعتقلون السياسيون "عطلة قصيرة" او طويلة (حسب الموقف)، بعد أشهر او سنوات، يتنقلون فيها بين "قصر النهاية" او "مديرية الأمن العامة" او "قصور ومديريات الأمن" في المحافظات والاقضية والنواحي والقرى والارياف، حيث التعذيب الذي كان يتلذذ به "متوحشون" الى حدّ المتعة، ويشتهونه الى حدّ "الموت".. وكانت "عطلة" الفضيلية، هي الاخرى، "طقسا" تمارسه الدكتاتورية -بتشويق وتشفي- قبل ان يُساق المعتقلون الى اقرب الأجلين، الموت او سجن "أبي غريب" لذلك كان موقف "الفضيلية" فرصتنا المتاحة بقدر، لكي نتعامل ونتحاور "انسانيا" بعد العناء "الخاص" لكل واحد منّا. وكانت عوامل الاقتراب بيننا كثيرة.. من المعاناة المشتركة في مواجهة قمع السلطة، الى الالعاب والنكات السرية التي كنا "نخترعها" قتلا للفراغ وخلاصا من أرق نهاية "العطلة" الى البحث عن أي منفذ يصل بنا الى العالم الآخر خلف القضبان.. لكن "لغة" التقرب والاقتراب تلك، سرعان ما تتعطل دون سابق إنذار، حين نتحاور "سياسيا" فجأة، يستيقظ في دواخلنا ذلك "الوحش" المعمِّر منذ آلاف السنين.. يشحذ كل قوى "الخوف الجماعي"، لينقضَّ على "الآخر" ويلغيه.. "أنا" ولا "آخر".. تلك كانت "ابجديتنا" السياسية الأحادية، التي عطلت فينا ومن حولنا "جدل الحياة" الذي كنا "نتزاود" في رفعه "طوطماً" مقدسا على ابواب "تنظيماتنا/ خاصتنا السياسية". ليتسلل من خلالها وبعد سنوات، كل ذلك "الحصاد" الذي نجمع حاصله اليوم.
لكن، من داخل ذلك "الاقتراب" المعطل في موقف "الفضيلية" واجهتنا حالة "غريبة".. وكان مصدر غرابتها، انها جاءت من خارج "لزوميات" ابجديتنا تلك.. لذلك كان "موقفنا" منها "موحدا" لأول مرة.
كان هناك من بين المعتقلين مواطن عراقي، لم اتمكن الا من معرفة وحفظ اسمه الأول.. "حليحل".. جاء ومعه مجموعته الصغيرة.. وبعد ساعات او يوم من مجيئه، تحول الرجل الى "موضوع" للتندر والسخرية والضحك منه وعليه، في السرّ او العلن.. لماذا..؟ لأن الرجل –ببساطة- قام بتشكيل حزب عراقي جديد.. طيب.. وما المضحك في هذا..؟ وأحزابنا "العراقية" كثيرة، خصوصا داخل التيار الواحد.. ان المضحك من وجهة نظر "ابجديتنا" هو في اسم الحزب.. ولكن، كيف يكون الاسم مصدرا للضحك..؟.. ان المضحك في الامر، هو في مضمون الاسم.. لقد أطلق الرجل على حزبه اسم "الحزب القومي الماركسي الاسلامي".. تصوروا!!؟.. وما ان تلفظ الرجل ذلك الاسم -وربما قبل ان يكمل- حتى انطلقت بين ارجاء "استراحة" الفضيلية، صيحات مكتومة اول الامر، من السخرية والاستهجان والاحتجاج.. تحولت الصيحات الى ابتسامات على حياء، وبعدها الى ضحكات وقهقهات، لقتل ارق نهاية "العطلة".. وفي النهاية، صار "حزب حليحل" مثلا من التراث، نطلقه في وجه "الآخر" حين نريد ان نسخر منه ونستهين بجهده ورأيه.
لكن "حليحل" لم يسكت امام السخرية التي واجهناه بها جميعا. صبر علينا قليلا او كثيرا.. وحاورنا بمنطق بسيط.

* قال حليحل: .. من خلال قراءاتي البسيطة وتجربتي المتواضعة، ومعايشتي للاحداث السياسية في العراق والوطن العربي، وجدت ان هناك ثلاث تيارات سياسية اساسية، هي وراء ما نشهده من "مشكلات" و"مصائب" و"تخلف" و"دم" مهدور مسفوح على الدوام.. وهذه التيارات، هي التيار القومي والتيار الماركسي والتيار الاسلامي، المشغولة منذ ما يزيد على خمسين عاما بقتل "بعضها الآخر" واهدار دم "بعضها المتبقي"، اكثر من أي شغل آخر.. فلو اجرينا مقارنة بسيطة -في العراق مثلا- بين عدد الذين قتلوا بيد "الاستعمار"، وبين عدد الذين قتلوا في حرب "الاخوة الاعداء" بين ابناء الوطن الواحد، لأُصبنا بالصدمة وبعدها بالسكتة.. فقتلى وشهداء حرب "الاخوة الاعداء" أضعاف مضاعفة، حتى بين "رفاق" التيار الواحد.. لذلك-والكلام لحليحل- قررت جمع هذه التيارات الثلاثة في حزب واحد.. لعلي اساهم في خروجنا جميعا كمواطنين من مسلسل "الدم" الذي لا ينتهي.. منطق بسيط، فيه من الواقعية الشيء الكثير، ومؤشر لبداية "وعي" جديد.. لكنه كان وفق "الجدل التاريخي" لسياق "المنطق الثوري" لأبجديتنا "الواحدة والوحيدة"، منطقا "ساخرا"، لأنه يجمع بين "متناقضات" و يتجاوز "الملكية الخاصة لكل تيار" ويكفر "بالمرجعية الطوطمية المقدسة لكل تنظيم سياسي" ويتجرأ على "المستقرات المستقبلية"..
دفع الرجل حياته ثمنا مع المجموعة الصغيرة، التي استطاع ان يقنعها "بمنطقه البسيط"، حيث اعدم "حليحل" مع مجموعته، لأنه كان -في نفس الوقت- منتميا "لحزب" السلطة بدرجة رفيق، وتعليمات الدكتاتورية كانت قد قررت اعدام أي شخص يعمل في "حزبها" اذا ما تبين انتمائه لحزب آخر.. او كما يسمونه "خط مائل"..
ولم يذكره ويتذكره أحد.. الا حينما نسخر من "الآخر".. "حزب حليحل"، صار مثلا للاستهانة "بالآخر" والغاء دوره.. "لكن حليحل" بدأ يطرق "وعيي" منذ سنوات طويلة.. صار "الوعي" به اكثر الحاحا مع التطورات المتسارعة بعد جريمة 2/آب/1990، فحاولتُ ان اطور "وعيي" بحليحل وحزبه، باتجاه قراءة جديدة لهما من زاويتين..

*الأولى/ وعي ذلك "المواطن البسيط"، الذي حول معاناته وانفعالاته بما حوله -وطنيا وقوميا- الى"وعي" جديد باتجاه "الافق الديمقراطي" وان لم يسمه.. لكنه كان "كامناً" في وعي الحاجة الى عالم جديد، لا يكون فيه "للدم" كل ذلك الحيز الواسع الذي احتله في تاريخنا وحياتنا، الى الحد الذي صار فيه مرأى "الدم" منظرا عاديا لا يحرك فينا اية حساسية انسانية.

*الثانية/ وعينا "نحن"، المعتقلون السياسيون، الذين كنا نواجه "هول" الدكتاتورية، فمع انها (أي الدكتاتورية) كانت تقمعنا وفقا "لمخطط منظم واحد"، الا اننا كنا -جميعا- مشغولين بـ"الأنا" الخاصة، التي وصلت "نرجسيتها" في رفض "الآخر" الى السخرية حتى من مجرد "فكرة" قبوله، ولو على مستوى الاسماء.. كان كل واحد منا يحمل في داخله "دكتاتورية" اخرى، وقد نُظم كل شيء في حياتنا لخدمة "مشروعها" الكامن.. من "الايديولوجيا" الى "الوعي" الى "التنظيم"، والى.. حتى علاقات الحياة اليومية.. وكانت "مشاعرنا" مستنفرة لتحيّن "فرصة" تحققها على الواقع، عند اول "ضربة حظ" تتاح لنا بانقلاب عسكري مفاجئ نحتل به "القصر الجمهوري" و"كرسيه الساحر"، ليعلن "احدنا" نفسه "قائداً ورمزاً" للمراحل السابقة واللاحقة والى يوم الدين، او بالتحالف "التكتيكي" المؤقت –اذا لم نكن نملك القوة- مع "الآخر" عدونا اللدود، لنضربه بعد اسبوع من "القاء القبض" على السلطة وفق "خطة تاريخية حكيمة".. هكذا تتكلم ابجديتنا "الواحدة والوحيدة".. حلقات متواصلة من "الدكتاتورية" و"الدكتاتورية الاخرى"، ودوائر "دم" تلد اخرى، وافكار جميلة تتحول مع الممارسة "الاحادية" الى كوابيس.. من ديمقراطية "تحالف قوى الشعب العامل" ودكتاتورية "البروليتاريا"، الى دكتاتورية ووحدانية (الأمين العام).. ومن "سيادة الشعب" و"مصالح الكافة وضرورات الحياة الخمس"، الى دكتاتورية ووحشية وعصمة وتأليه الحاكم و حاشيته المبجلة.. لكننا -ابدا- لم نستطع يوما تطوير افقنا العقلي واطارنا الثقافي، لتجاوز "المشروع الدكتاتوري الكامن"، الى "مشروع وطني عام" نقبل ونؤمن من خلاله "بضرورة" الآخر، ونلتقي على ارضيته "جميعا" لتأسيس آلية ديمقراطية نخضع من خلالها لحكم "الشعب" الذي ملأنا "بسيادته" دساتيرنا الحاضرة و"المؤمّلة"..
لذلك كله، كان من السهل على السلطة -أية سلطة- وقد قبضت على مركز القوة والثروة، ان "تقمعنا" فرادى او جماعات، مادامت السلطة صارت "هدفا" لذاته، نسعى اليه "جميعا" وبأية وسيلة.. والدكتاتورية تحولت الى "فلسفة ومشروع حياة" نعمل جاهدين لتنظيم حياتنا وفقا لها، داخل السلطة اوخارجها..
وكان "حصادنا" مريراً، داميا، ومرعبا.. بدأنا -ومنذ وقت مبكر- ندفع الكثير ثمنا له، من حياتنا ومستقبلنا..
ولكننا مع ذلك كله، لم نتعظ.. لا زال "الاطار الثقافي الايديولوجي" الضيق، و "الافق العقلي الملغي" الاضيق.. هما معا العنصر الغالب في حياتنا.. وكلما حاولنا تجاوزه في جانب، برز الينا من جانب آخر.. ظهر ذلك ويظهر في محاولاتنا المتكررة -في اطار المعارضة العراقية- لتجاوز ذلك التراث "الدكتاتوري" في بنية وعينا السياسي الذي "تمرّس" على فنون إلغاء الآخر، والوصول الى "مشروع وطني عام" يعيد "الاعتبار" و"المشروعية" لمفاهيم مثل الانسان والمجتمع، والوطن، والدولة، والسلطة والحزب، يكون فيها الانسان، هو "الصانع" لهذه المفردات، وغايتها تحقيق حاجاتها المادية والمعنوية، اليومية منها والمستقبلية.. لا أن يكون "وقودها" و "ضحيتها"، كما كانت في كل المراحل والأزمنة، وكما هي الآن.
ان "حزب حليحل" ذلك الذي حولناه الى موضوع للسخرية وفق منطق "ابجدية" جهلنا المطبق يدق علينا ابواب الخطر من جديد".. ويطرح نفسه بالحاح اكثر من أي وقت مضى، لا كإسمٍ لحزب جديد، يضاف الى قائمة الاسماء الموجودة، لكنه يطرح نفسه، كفكرة واقعية عملية لإطار وطني جامع، تلتقي في رحابه كل التيارات والمكونات القومية والسياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية والثقافية، على مشروع وطني عام يؤسس دولة حديثة على اساس قيم المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الانسان، ولكن ذلك يحتاج قبل كل شيء الى اسقاط الدكتاتورية داخل "انفسنا" اولا.. حين ذلك فقط تنفتح الطرق -موضوعيا- امام ازالة الدكتاتورية الجاثمة على صدر شعبنا.
رحم الله "حليحل" واخوانه الشجعان، الذين استشهدوا وهم يقاتلون الدكتاتورية، "بوعي" متقدم على كل الذين سخروا منهم.. وآن الاوان ، لان نعيد الاعتبار "لحليحل" واخوانه، بأن نسخر"نحن" مما كنا فيه.. ونفتح ابواب "عقولنا" لانسانية الانسان وكرامته وحقوقه، وحاجاته المادية والمعنوية.. وهذا هو المقياس الموضوعي الوحيد "لجدية" أي فكر، و"مشروعية" أي نظام..



رؤية ناصرية للقضية العراقية 8 - عبد الستار الجميلي


عبدالناصر_ الطالباني..
ما احوجنا اليوم لتلك العلاقة

مع اقتراب الذكرى الثالثة والثمانين لميلاد جمال عبد الناصر، في السادس عشر من شهر كانون الثاني الماضي، كانت قد تجمعت في ذاكرتي ملامح مقالة عن دلالة الذكرى والرجل.. دلالتهما في مسيرة الامة العربية خلال القرن العشرين، ثم دلالتهما بالنسبة للمستقبل..
لكن الاخ مام جلال الطالباني، كما عهدناه دائما، كان سباقا في الوفاء، لرموز الوفاء، في عصر بات فيه الوفاء قيمة نادرة.. فقدم لنا من خلال مقالته المنشورة على حلقتين في جريدة الاتحاد الغراء بعدديها (354،355) احياءً لهذه الذكرى العطرة (ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر)، قدم لنا وثيقة هامة لها دلالتها الكبيرة بالنسبة للمستقبل، خصوصا مايتعلق منها بواحد من اهم اسباب التأزم في القضية العراقية.. القضية الكردية.
وكان مام جلال في كلتا الحالتين.. الوفاء والوثيقة.. يقدم لنا نموذجا متأصلا للمبادئ التي ينعى وينظر الكثيرون لموتها هذه الايام، وفي وقت شهدت فيه الساحة العربية ردة كاملة عن كل ماكان يمثله جمال عبدالناصر من قيم ومبادئ ومُثل سياسية واخلاقية، حتى ممن كانوا محسوبين على عبدالناصر والناصرية، في الطليعة من حملة الشعارات، يوم كانت الناصرية تدر الشهرة والموارد بأنواعها في حياة عبدالناصر، والى فترة من الزمن كانت الناصرية فيه فاعلة، في مصر وغيرها من الاقطار العربية، بعد رحيل عبدالناصر..
اما الآن وقد انتقلت الناصرية الى موقف المعارضة في كل الساحات العربية، بما فيها مصر والاقطار التي طرحت نفسها في يوم ما استمرارا لمبادئ عبدالناصر، فإن اعدادا ليست قليلة من ناصريي الأمس، قد اعطت ظهرها للناصرية بعد ان انتفت فيها المصالح الخاصة ولم يتبق الا النضال السري وحده.. وما اصعبه..!
وكان على هذه القوى ان تبرر.. وكانت المبررات كثير:
منها، إن الناصرية كانت جزءا من مرحلة قد انتهت، وتناست ان التاريخ حركة تراكمات مستمرة، لذلك فإن مراحل التاريخ لا تنقطع ولاتنتهي..
ومنها، ان الناصرية بحاجة الى المراجعة وفق المتغيرات، وتناست هذه القوى ان المراجعة شيء والتراجع شيء آخر. المراجعة تقدم الى الامام، والتراجع تقدم الى الخلف.. ومنها، ان القومية فات اوانها وان نموذج عبدالناصر القومي لم يعد له وجود في عالم "العولمة وقيمها الليبرالية"، وتناست تلك القوى، ان عالم المتقدمين الذي يحاججوننا بعولمته وقيمه الليبرالية، لم يصل الى ما وصل اليه من تقدم وحضارة الا بعد ان حقق دولته القومية، لتصبح القومية سمة حضارية تجاوز فيها المتقدمون، نمط وقيم العلاقات الاسرية والقبلية، التي مازالت هي السائدة في عالم المتخلفين (وهم منه)..
ومنها، ان عبد الناصر لا يتلاءم مع عصر الديمقراطية، ويتناسون ان الظرف التاريخي الذي جاء فيه عبد الناصر كانت الاولوية فيه تعطى لمشكلات التحرر الوطني في بلدان محتلة بالكامل من استعمار تقليدي مباشر، وسيطرة مطلقة للاقطاعيين والرأسماليين على مقدرات الشعوب، وبالتالي على لعبة الديمقراطية، التي لم ترتبط بحضارة العصر وقيمه الليبرالية الا بالاسم فقط. لذلك فإن المقياس الموضوعي في عصر عبد الناصر، للترجيح في شأن الديمقراطية هو الوقوف مع الشعب (اغلبية الشعب) والنظر الى مشكلة الديمقراطية على ضوء معاناته والبحث عن حلها في ضوء احتياجاته، بدون انكار او تنكر للجوانب الاخرى من مشكلة الديمقراطية كما تعانيها القلة الممتازة، لأن الديمقراطية نظام لحكم الشعوب وليست نظاما لطموح القلة في الحكم.
لكن مام جلال، الذي اخذ موقعه-وعن جدارة- كقيادة قومية كردية ومرجعية وطنية عراقية للعرب والاكراد معا، وعلى الضد من تلك التبريرات كلها، قدم لنا من خلال هذه المقالة، نموذجا للوفاء افتقرت اليه ساحتنا العربية المشغولة منذ السبعينات والى الآن بجلد الذات والتنظير للآخر، كما قدم لنا دروسا مستخلصة من التجربة، ما احوجنا اليها اليوم، في مرحلة يتداعى فيها كل شيء وينهار في واقعنا وحتى في وعينا، مما يستدعي التدخل الايجابي في اعادة تشكيل صورة المستقبل كما نريده-افرادا وشعوبا- لا كما يريدونه لنا..
وفي هذا الاطار، فإننا سنحاول هنا تقديم قراءة تأسيسية للمقالة-الوثيقة، للامساك بما نزعم انه يؤسس "موقفا ناصريا" للقضية الكردية، ببعديه، النظري (رؤية المشكلة) والعملي (المساهمة في حل المشكلة).
وبعد اختراق قشرة النص، الذي يوحي ظاهره بأنه ذكريات كردية (عاطفية) عن الرئيس الخالد جمال عبدالناصر، الذي ربطته مع منتج النص (مام جلال)، "على المستوى الشخصي علاقات نضالية، اسهمت في اظهار الحركة القومية الكردية على حقيقتها وبوجهها الحقيقي للعديد من الناصريين والقوميين العرب".
(نلاحظ هنا ان دلالة لفظة "العديد" تشي بعتب خفي خاص وربما مرارة من مواقف البعض الآخر من الناصريين والقوميين العرب). نقول بعد اختراق ظاهر النص، فإننا نجد الكثير من المفردات المنبثة في سياق المقالة ومنتظم اسطرها اللغوي. وحين نحاول-عبر القراءة التأسيسية- اعادة تركيب هذه المفردات بنائيا، سنكتشف اننا امام "موقف ناصري" من القضية الكردية متقدم كثيرا قياسا الى مواقف جيل "الديمقراطية وحقوق الانسان" الحالي.
وعلى مستوى المفردات، فإنه يمكن جمعها بالمؤشرات السوسيولوجية والدلالات الألسنية التالية:
1- ان الحركة القومية العربية بسعتها وشمولها بامكانها ان تستوعب كل مطاليب الاقليات القومية الموجودة في الوطن العربي وان تجد لمشاكلها حلولا سلمية (طالب شبيب نقلا عن عبدالناصر، في كتابه من حوار الدم الى حوار المفاهيم. ص250 المعتمد كمصدر للمقال).

2- ظل عبدالناصر مع كل ما وقع من تقلبات حريصا على ان يظل العراق متمسكا في وطنيته وموحدا وظل يسعى بكل ايمانه ليكون هناك وفاق عربي كردي فيه، ولكن ظل يؤيد حق الشعب الكردي في الحصول على حقوقه، بل وعندما عادت الصراعات تنفجر دامية في العراق ظل يعمل للوفاق الوطني والقومي فيه وعندما قام اتفاق السلام بين الاكراد والبعث في 11 آذار/1970 على اساس الاعتراف بمبدأ وجود قومية كردية وحقها في ان يكون لها حكمها الذاتي او استقلالها الاداري في كردستان العراق وقف عبدالناصر دافعا اليه ومؤيدا. (جمال الاتاسي-نقل عنه منذر الموصلي في كتابه العرب والاكراد ص38-39 والمعتمد كمصدر للمقال).

3-ان تفهم عبدالناصر للقضية الكردية وعدالتها استنادا الى اقراره بوجود شعب كردي ومايترتب على ذلك من حقوق دفعه الى الموافقة على تصور مام جلال الذي قدمه خلال مباحثات الوحدة سنة 1963 بين كل من مصر وسوريا والعراق، وهو تصور تجاوز المسائل المبدئية والقضايا النظرية الى الحلول العملية، حيث اكد مام جلال على التصور التالي "اذا كنتم بصدد اقامة اتحاد جمهوريات كصيغة للوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا، فإن مطالبنا كوطنيين اكراد تبقى كما هي، اي ان يكون لنا حكمنا الذاتي في المناطق الكردية في اطار الوحدة الثلاثية، اما اذا كنتم ستقيمونها جمهورية واحدة متحدة، فنحن نريد لوتصبح المنطقة الكردية اقليما رابعا بين اقاليم هذه الجمهورية". "ولقد كان عبدالناصر-كما يقول جمال الاتاسي- كما علمت مرتاحا لمثل هذا الطرح لما فيه من تطلعات استراتيجية ومنظور مستقبلي يتفق مع تطلعاته ومنظوره" اللتين لم تعترض المسألة الكردية سبيلهما في أي شيء (جمال الاتاسي- المصدر السابق).

4- ان هذا الموقف المتفهم من عبدالناصر-كممثل اصيل للتيار القومي العربي-قد سبقته في الواقع علاقات سياسية بين الحركة القومية الكردية، وفي المقدمة منها مام جلال، و "ج ع م" وشخص الرئيس عبدالناصر، الذي سمح وبناءً على اقتراح قدمه الاخ الطالباني بفتح مكتب للثورة الكردية في القاهرة، كعنوان للعلاقة بين القومية العربية والقومية الكردية، التي اثبتت حضورا مساندا للشعب العربي في مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956.
كما امر عبد الناصر بفتح اذاعة كردية في عام 1957، وكانت اذاعة فعالة ومسموعة من الجماهير الكردية ولعبت دورا هاما في اذكاء الشعور الوطني الكردي وتعزيز الاخوة العربية الكردية. كما وافق عبدالناصر على استقبال وفد كردي عام 1957 للتنسيق النضالي مع مصر، كما استقبل عام 1958 وفدا كرديا رفيع المستوى برئاسة المرحوم مصطفى البارزاني. وكان سبق هذه العلاقة (من حيث الجذور التاريخية) ان الازهر الشريف خصص ومنذ عهود رواقا للاكراد تخرج فيه الكثير من العلماء الاكراد، وفي القاهرة صدرت في نيسان 1898 الجريدة الكردية الاولى باسم كردستان وباللغتين التركية والكردية. (مقالة مام جلال وكلمته في الحوار العربي-الكردي المنعقد في القاهرة سنة 1998، والذي جمع وثائقه الاخ عدنان المفتي في كتابه القيم "الحوار العربي- الكردي" الصادر من مكتبة مدبولي في القاهرة).
من هذه المؤشرات والدلالات نخرج بموقف ناصري من القضية الكردية مؤسس على عنصرين يفضي احدهما الى الآخر، في اطار الموقف القومي الانساني الذي شكل فكر عبدالناصر وحركته:
اولهما/ الجانب النظري (الموقف من المشكلة):
ان موقف الحركة القومية العربية التقدمية، وفي مقدمتها التيار الناصري الاصيل الذي مثله عبدالناصر، كان ولايزال الى جانب الاقرار بوجود شعب كردي وما يترتب على ذلك من حقوق، وفي مقدمتها حق الشعب الكردي في تقرير المصير، استنادا الى ان الشعب الكردي- كشقيقه الشعب العربي- يكون امة مكتملة التكوين على الرغم من مظاهر الفرقة والانقسام. لذلك فإن الموقف الناصري ليس مع اية حلول عسكرية وادارية، وعلى الضد تماما من كل سياسات القمع والتطهير العرقي والابادة الجماعية (الجينوسايد) التي مارسها ويمارسها النظام الديكتاتوري في العراق ضد الشعب الكردي.
ثانيهما/ الجانب العملي (حل المشكلة):
ان الموقف الناصري تجاوز الموقف النظري الذي يكون قابلا للمناورة من خلال النصوص التي تحتمل التأويل عادة، تجاوزه الى الحلول العملية، التي تمثلت بالموافقة على "الحكم الذاتي"في حالة الاتحاد بين الدول العربية، و"الاقليم الفيدرالي" في حالة الوحدة الاندماجية بين الدول العربية، بناءً على التصور الذي قدمه مام جلال، وارتاح له ووافق عليه عبدالناصر. لذلك فإن الموقف الناصري الاصيل-الممسك بجوهر الناصرية وأفقها المفتوح دائما الى المستقبل- وبعد ان تطورت القضية الكردية على الارض منذ الستينات وحتى نهاية القرن الماضي، هو مع الفيدرالية الكردية كما طرحها البرلمان الكردي، كمظهر من مظاهر تعبير الشعب الكردي عن حقه المشروع في تقرير المصير.
ودلالة ذلك الموقف الناصري من القضية الكردية، يبرز واضحا في التناقض بين الامس واليوم. تناقض نلمسه في التعامل الايجابي للحركة القومية العربية التقدمية وهي في ذروة مدها الناصري في الستينات، مع اطروحة الفيدرالية الكردية، ولم تر فيها فكرة مستوردة من(اعداء العراق والامة العربية) او خطورة عليهما، كما يدعي اصحاب "المصلحة الوطنية والقومية". وهذا يعني بوضوح، ان الموقف الناصري من القضية الكردية في ستينات القرن الماضي، كان اكثر تقدما وجذرية وانسانية بكثير من مواقف اصحاب قرن الألف الثالث للميلاد، قرن الديمقراطية وحقوق الانسان كما يقولون..
وهو مايعني ايضا، ان الموقف الناصري يتطلب ان يوازيه تفهما واعيا من الشعب الكردي لحقيقة الحركة القومية العربية، التي لايمكن ان تشوهها ممارسات النظام الديكتاتوري الذي يدعي زورا انتماءه الى هذه الحركة، ويتطلب ايضا التمييز بين الحركة القومية العربية التقدمية وبين الانحرافات الفاشية والعنصرية والديكتاتورية داخل هذه الحركة.
لقد قدم لنا مام جلال الطالباني من خلال مقالته الهامة، مبادئ اصيلة، مازالت صالحة لأن تعيد انتاج العلاقة ما بين الحركة القومية العربية التقدمية والحركة القومية الكردية، انسانيا ونضاليا، في فضاء جديد منحاز للانسان وحريته وكرامته، ضد كل انواع القمع والتطهير العرقي والابادة الجماعية.

- يتبع -
الناصرية




رؤية ناصرية للقضية العراقية 9 - عبد الستار الجميلي


وجهة نظر عربية ناصرية في قضية حساسة

انعكاسات السلام الاسرائيلي- السوري على القضية العراقية..
رؤية للمتوقع والمحتمل

مع بداية الألف الثالث للميلاد, يبدو المجتمع الدولي مصمما على وضع نهاية لقرن كامل من الصراع العربي-الصهيوني، الذي شكل بفصوله الدامية واقداره المتصادمة، واحدا من اخطر تحديات القرن العشرين التي واجهت العالم ومنظماته وقوانينه، وربما مستقبله ايضا..
فقد شهدت الايام الاخيرة مفاوضات مباشرة بين "اسرائيل" والحلقة الاخيرة من الانظمة العربية، التي كانت تشكل -بحسب موقعها السياسي او الجغرافي او الاقتصادي-دول المواجهة, او المساندة منذ سنة 1948, تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني وحتى حرب تشرين/1973. وكل المؤشرات تؤكد بأن التوقيع على معاهدة السلام الاسرائيلية-السورية، اقرب من كل التوقعات.. وبالتالي، فإن ستارا من الأمل أو الفجيعة (حسب زاوية النظر) سوف يسدل على مشاهد كثيرة، كانت والى وقت قريب، جزءًا من التاريخ الشخصي لأجيال كثيرة، لتبدأ مرحلة جديدة، ستلقي بظلالها على كل شيء في المنطقة العربية، والشرق الاوسط، والعالم كله.. وسيكون العراق، واحدا من المواقع التي ستطالها تلك الظلال، سلبا او ايجابا، لا لأنه قريب مكانيا من اطراف الصراع بحكم الجغرافيا والتاريخ، بل لأنه ببساطة، كان يشغل- ولايزال- حيزا رئيسيا من مقدمة جدول اولوية المفاوضات، حتى من قبل ان تدخل مرحلة العلن، بعد ان توحدت لعنة الاقتصاد والاستراتيجيا، بلعنة الحكام المصابين بلوثة الدونية وذهان الدم، لتصنع بعد ذلك مأزق القضية الوطنية العراقية الممزقة بين حساسيات وحسابات وشراهة النظام الدولي والاقليمي والعربي..
لذلك فإن محاولة التعرف على ما ستؤول اليه مشاهد هذه الظلال على الساحة العراقية، تصبح امرا مشروعا، ونحن نكاد ان نختنق في عنق الزجاجة، الذي تحول فيما يبدو الى حبل ملفوف حول اعناقنا، كلما غاص عميقا في اللحم، والتقادم المصاب بلعنة الزمان هو الآخر..

إستدراك لابد منه
ولابد ان نستدرك، بأننا لا نبحث هنا عن موقف للشعب العراقي من السلام القادم.. فالسلام الذي بدأ منذ حرب تشرين/1973، لاعلاقة تربطه بالشعوب من ناحيتين:

الاولى: ان السلام كان ولايزال، صناعة "قمم".. ولاعلاقة للشعوب به، إلا من زاوية الواجب الذي يفرض عليها ان تقدم الضحايا والتضحيات في معارك الحرب والسلام معا.. وذلك هو قدرها.. اما الحقوق فهي مؤجلة، أو تلك مسألة اخرى..؟

الثانية: ان عملية السلام المسلحة بكل طاقات العولمة، الكائنة والمحتملة، قد تحركت.. ولا قبل لأي شعب في مواجهتها، فضلا عن ان رفض او قبول الشعوب"لاقيمة له" من اية زاوية تنظر.. لذلك فإن البحث عن موقف للشعب العراقي من السلام لايعنينا ولا يعيننا في شيء.. لكنّا نبحث هنا عن ظلال السلام المتوقعة والمحتملة على القضية العراقية. كيف ستكون..؟ وما هو السيناريو الأكثر احتمالا لمستقبل العراق في ظل مرحلة السلام الاسرائيلي-الامريكي- العربي..؟

ان الاجابة على هذه الاسئلة وغيرها، ليست مسألة سهلة، في ظل المتغيرات المتسارعة، وعواصف الانترنيت, التي تحمل كل يوم, بل كل ساعة ودقيقة الجديد في المواقف, وسيول من الكلمات التي تكاد ان تضيف بذاتها, مشكلة جديدة الى جانب مشكلة الصفرين التي برزت على شاشات كومبيوتر 2000, لكننا سنحاول اجتياز صعوبات المرحلة بحذر شديد, لعلنا نمسك بالخيط الاساسي الذي يساعدنا في تقديم قراءة قريبة من الواقع وصوره المحتملة..
الخطوة الاولى:
الخطوة الاولى التي نتصور انها ستعيننا في تلمس طريقنا, هي ان القضية العراقية, لم تعد شأنا يهم العراقيين وحدهم, كما دأبت الكثير من القوى- داخليا وخارجيا- على التصريح بذلك عند كل مناسبة واخرى, وهي اكثر ادراكا من غيرها بهذه الحقيقة.. لكن للتصريح اهدافه التي تكاد ان تقول خذوني..!؟.. لقد اصبحت القضية العراقية, في صميم اولويات الكثير من الاطراف, دوليا, واقليميا, وعربيا.. ولكل طرف اسبابه واهدافه وحساباته.. وتأتي الولايات المتحدة الامريكية, في مقدمة هذه الاطراف واكثرها تأثيرا وحسما في سير الحوادث والمواقف.. والواقع ان الولايات المتحدة الامريكية, لم تكن بعيدة عن مسرح الحوادث وتطورها في العراق, منذ ان بدأ النفط يأخذ دوره المركزي في دورة الارض الاقتصادية المعاصرة..
وبدون ان نتعمق في الجذور التاريخية لما هو حاصل الان, يكفي ان نذكر ان الاستراتيجية الامريكية في المنطقة العربية- والعراق منها- كانت تحكمها ولا زالت- وان اختلف الخطاب وتغيرت الاساليب- عدة محاور.. الا ان الأهم في تلك المحاور, نقطتان جوهريتان, متداخلتان مع بعض, هما:
الاولى: المصالح الاقتصادية/ وهي كثيرة.. لكن النفط, كسلعة استراتيجية وفق منظور الآلة الاقتصادية الرأسمالية, يبقى هو الأهم.. والمنطقة العربية- ومن ضمنها العراق- تمتلك اكبر المخزونات والاحتياطات النفطية في العالم. لذلك فإن الولايات المتحدة الامريكية (والمعسكر الغربي معها) معنية بهذه المنطقة ومستقبلها بهذا الشكل او ذاك.. أليست المنطقة العربية-والعراق منها- خزان امريكا النفطي, ومحطة وقود لآلتها المتحركة, غير القابلة على التوقف على الاطلاق..؟
الثانية: المصالح الامنية وتأسيسها على المصالح الاقتصادية.. فإن امن الولايات المتحدة الامريكية (والمعسكر الغربي معها) كدولة كبرى, يتجاوز حتى في حالة الدفاع, حدودها الدولية الى العالم كله.. انها قوانين الآلة الرأسمالية الصارمة.. والمنطقة العربية- بما فيها العراق- تمثل واحدة من اخطر عقد الاستراتيجيا, بالنسبة للموازنة الدولية في كافة ابعادها, ولا فرق في ذلك بين ان تكون المراحل ساخنة, او باردة, او محسومة لصالح العولمة الغربية.. لذلك فإن "اسرائيل"- كقاعدة اختراق متقدمة للمعسكر الغربي في هذه المنطقة الحساسة- وامنها, هما جزء من الامن القومي الامريكي والغربي كله, على اعتبار ان "اسرائيل" تمثل, الى جانب كونها وعدا إلهيا لليهود, وفقا لاساطيرهم المدونة في التوراة والتي ايقضتها الصهيونية مع هيرتزل من جديد, تمثل جزءا رئيسيا من المشروع الرأسمالي الغربي-وامريكا في مقدمته- لترتيب اوضاع العالم ما بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية..
في اطار هاتين النقطتين, يمكن فهم الموقف الامريكي من القضية العراقية, والتعقيد الحاصل فيها كنتيجة مباشرة لهذا الموقف, وبالتالي تصور الانعكاسات المحتملة للسلام الاسرائيلي- السوري, الذي فتحت امامه كل الابواب..
التقدم.. خطوات
وحتى نتقدم خطوات مطلوبة في هذا الفهم لابد ان نذكر ونتذكر ان علاقة امريكا بالعراق وما يدور فيه قبل 2/آب/ 1990, كانت غير مباشرة او بالأصح غير معلنة.. لكن الامر اختلف بعد ذلك تماما.. ففي فجر ذلك اليوم بدأ التدخل الامريكي المباشر والمعلن في العراق ومستقبله, ميدانيا على الارض بعد ان وفر النظام الدكتاتوري بغزوه الكويت الشقيقة، الفرصة التاريخية لذلك كله.. ولقد تصور الكثيرون، وفي مقدمتهم الشعب العراقي-بناء على حجم التدخل ونوعه والظروف التي احاطت به- ان تغيير النظام العراقي بات مسألة وقت ليس الا.. حيث شهدت المرحلة ما بعد تحرير الكويت وقمع انتفاضة الشعب العراقي في آذار/1991, التزاما امريكيا معلنا بانهاء معاناة الشعب العراقي عن طريق دعم المعارضة, وبما يحقق الاطاحة بالنظام. وقد شهدت العواصم العربية والعالمية فعلا, الاجتماعات تلو الاجتماعات واعلنت كل السنوات تقريبا سنوات حسم مرتقبة.. وكان الشعب العراقي اكثر الاطراف انتظارا لساعة الحسم, فالعقد الاخير من القرن العشرين قد اضاف الى معاناة القمع الديكتاتوري معاناة اخرى هي معاناة الحصار الاقتصادي, الذي وصل بالاكثرية الى حافات المجاعة والكوارث الانسانية الكبرى.. لكن الذي حصل ان التغيير المنشود لم يحدث.. فها هي عشر سنوات كاملة على وشك ان تنقضي ولازالت الدكتاتورية تمارس قتلها المنظم للشعب بأكمله, وسط حشد هائل من الوعود والتصريحات والمشاريع, التي اطلقتها وتطلقها امريكا ودول اخرى في المجتمع الدولي.. مما يفتح المجال واسعا امام طرح مجموعة من الاسئلة المشروعة التي تعبر في جانب كبير منها عن حجم الشكوك المتزايدة حول تطورات الازمة العراقية و"مستحيلاتها" التي طفت على السطح مؤخرا, كمؤشر واضح على حالة الاحباط الحادة التي اصيبت بها اعداد كثيرة من الاطراف، يأتي الشعب العراقي في مقدمتها..
اسئلة ملحة.. واجابات متباينة
وكانت هناك ثلاثة اسئلة بدأت تطرح نفسها بالحاح متكرر على العقل العراقي لأنها تكاد ان تكون تلخيصا لازمة القضية العراقية وفقا لمنطوق الخطاب السياسي الذي ساد بعد 2/آب/1990.. وهذه الأسئلة الثلاثة هي:
- هل صحيح ان امريكا غير قادرة على تغيير النظام في العراق..؟
- واذا كانت قادرة.. فهل هي جادة فعلا في تغيير النظام..؟
- واذا كانت جادة.. فما الذي يتحكم في هذه الجدية.. الحسابات والموازين العراقية ام الحسابات والموازين الامريكية..؟
واذا كان الاتفاق يكاد ان يكون عاما في الاجابة على السؤال الاول من حيث ان امريكا-كقوة تكنولوجية اولى في العالم- قادرة على ما هو اكثر من مجرد تغيير النظام.. انها قادرة على تحويله الى تراب وحتى الى جليد(وفقا للرأي الذي يقول ان امريكا لو استخدمت ربع قوتها النووية، فإن البشرية ستواجه(150) سنة جليد..!!؟)..
الا ان الاجابة علىالسؤالين الثاني والثالث تفتح الابواب واسعة امام الاختلاف والتقدير وبالتالي هذا الحجم المتسع من القراءات المتنوعة والمتناقضة التي انطلق معظمها في تحليل الازمة العراقية من أولويات دأب العقل المتصدي للتحليل على التعاطي معها كمسلّمات.. وفي مقدمتها تفسير الازمة العراقية, على ضوء ما هو مطروح على السطح دون الغوص في اعماق الازمة وتجلياتها المختلفة, والتعامل مع مسألة التغيير و"حتمياته" على ضوء الرغبة العامة لدى الشعب العراقي في مطلب تغيير النظام الدكتاتوري وحدها(وهي رغبة من الوضوح بحيث لاتحتاج الى اثبات), دون ان تدرك- هذه القراءات- حجم المتغيرات التي حصلت في التسعينات كامتداد مستمر لما حصل في السبعينات والثمانينات..
محاولة للقراءة.. والاجابة
ان القراءة الموضوعية لما آل اليه الوضع في العراق, ارتباطا بالمتغيرات والظروف الاقليمية والدولية, تؤشر بأن الرؤية الامريكية للتغيير في العراق, لاتخضع للتأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانساني الضاغط على الشعب العراقي, كنتيجة محتمة لمعاناته اليومية بسبب القمع والحصار الاقتصادي المروع, على الرغم من حدة التعاطي مع هذه المسألة في الخطاب الامريكي اليومي, الذي تحتل الديمقراطية وحقوق الانسان موقعا مركزيا فيه على المستوى اللفظي الكلامي.. لكنه يخضع بالدرجة الاولى, وقبل كل شيء, لثوابت السياسة الامريكية وخططها الاستراتيجية, في تحقيق مصالحها العليا على المديين القريب والبعيد.. وقد اعطتنا مرحلة السبعينات مؤشرا على حدوث تغييرات جوهرية في ذهنية المخطط الامريكي, بعد افول عصر التصادم المباشر بين حركة التحرر العربي- كجزء من حركة التحرر العالمي-والولايات المتحدة الامريكية.. واذا كانت المصالح الاقتصادية, كثابت اساسي في الاستراتيجية الامريكية, لم تشهد تحولات جذرية رئيسية على صعيد الوسيلة والاسلوب والخطط المعدة, فإن المصالح الامنية الامريكية والغربية, شهدت تغييرات جذرية وجوهرية في رؤية المخطط الامريكي, وهو يرسم ملامح عصر جديد ساهم في التمهيد له بشكل اساسي. وكانت قضية الامن الاسرائيلي-كجزء من الامن الامريكي والغربي- هي التي شهدت اكثر من غيرها هذا التغير الجوهري.. لقد ادركت امريكا- بعد سلسلة طويلة من الحروب والصراعات- ان الامن الاسرائيلي على المستوى البعيد, لا تضمنه القوة المسلحة مهما كان حجمها ونوعها, والتي تمثل "متغيرا" قابلا للتحول في اية لحظة لغير صالح اسرائيل, فضلا عن انه يمثل حالة استنزاف دائمة وصلت في مراحل منها الى بيت دافع الضرائب الامريكي.. لذلك فإن تحويل هذا" المتغير" الى"ثابت" استراتيجي بالنسبة لأمن اسرائيل يكمن في السلام بين اسرائيل وجيرانها العرب وجوهر السلام المطلوب يتعدى مجرد قبول وجود اسرائيل على المستوى القانوني في اطار مواثيق الامم المتحدة القابلة للتأويل وفق قواعد القانون الدولي العام التي لم تستقر لحد الان, يتعدى ذلك الى شبكة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية وغيرها من العلاقات وقد بدأت مرحلة السلام تلك بعد حرب تشرين/1973 فعلا, واشتركت فيها كل الاطراف بما فيها الصامدون والمتصدون..
وقد افرزت مرحلة السلام تلك، من بين ما افرزت، مجموعة من الخطط الملحقة بهذه المرحلة، ما يهمنا منها اثنان لأن لهما علاقة مباشرة بالقضية العراقية..
اولهما: ان السلام وفق المنظور الامريكي الاسرائيلي ليس مجرد معاهدة قانونية بين طرفين او اكثر، لكنه بداية عصر جديد يقوم على قواعد وعلاقات جديدة لاعلاقة لها بما تعارف عليه في النظام الدولي الحديث والمعاصر من حديث عن القيم المجردة كالحق والعدل والمشروعية. لذلك فإنه يحتاج حتى يستطيع ان يحقق اهدافه الى اجراء تغيير جذري واساسي في المناخ والتربة والبذور.. وفي مقدمتها رسم خريطة جديدة للشرق الاوسط والمنطقة العربية-والعراق منها- حتى يتحول السلام الى "ثابت" في العقل والواقع معا.
ثانيهما: حتى تحقق المفاوضات هدفها المطلوب وفق الموازنة الامريكية التي تمتلك 99% من اوراق السلام(على ذمة السادات)، فقد اعتمدت السياسة الامريكية مجموعة من السياسات المكملة.. كان في مقدمتها ابقاء العلاقة بين الدول العربية المواجهة لاسرائيل والدول العربية الاخرى المساندة لها او التي تشكل عمقا طبيعيا لها في حالة توتر دائم تدفع بالاطراف الى المناطق الخطرة في تسلسل الصراعات وهو اجراء ضروري لاضعاف موقف المفاوض العربي وتجريده من مصادر اية قوة محتملة..
وفي هذا الاطار تحددت"الرؤية الامريكية" للتغيير في العراق حيث مثل الثاني من اب/1990 وما رافقه وانتجه من متغيرات عراقية وعربية واقليمية ودولية نقطة تحول جوهرية في الجانب العملي من السياسة الامريكية..





رؤية ناصرية للقضية العراقية 10 - عبد الستار الجميلي


مرحلة السلام.. والازمة العراقية

كانت امريكا ومعها اسرائيل قد استكملتا كل حلقات السلام تقريبا ولم يتبق الا حلقتها الاخيرة.. الحلقة السورية.. التي عملت امريكا واسرائيل الكثير على طريق اضعاف هذه الحلقة في المفاوضات. ولما كان العراق يشكل دولة مساندة وعمقا طبيعيا لسوريا، فإن المخطط قد استهدف احداث قطيعة كاملة بين البلدين بحيث يخرج العراق وامكاناته من حسابات المفاوض السوري حتى ولو على شكل احتمال. وقد تحقق ذلك فعلا.. ربع قرن من القطيعة مع ان "الخطاب القومي" هو الأكثر علوا وصدى في لغة النظامين..
وحين وجدت امريكا نفسها على أبواب بغداد، بحجم هائل من القوات وشرعية دولية وعربية لأن تفعل ما تريد، وقد تحقق التغيير على الارض في انتفاضة آذار/1991 التي فاجأت كل الاطراف، أدركت (اي امريكا) ان التغيير في العراق في هذه المرحلة لايخدم قضية السلام التي تعاني من اعراض التعثر والتردد على تخوم حلقتها الاخيرة.. لأن اي نظام بديل في العراق، ومهما تكن سياساته واتجاهاته الداخلية والخارجية، سيقوم بدعم سوريا، وبحجم غير مسبوق بعد سنوات القطيعة غير المبررة تلك، وهو ما يعني ان موقف سوريا في المفاوضات، سيكون في احسن حالاته، بعد ان تحققت لها القوة والعمق المطلوبين، وبالتالي فإن السلام مع سوريا سيصبح بعيدا، ومع مرور الوقت سوف يزداد تعقيدا. وستجد امريكا واسرائيل نفسيهما من جديد امام تعطل حقيقي، في تحول" المتغير" الى "ثابت" في خططهما الامنية والاقتصادية والسياسية..
من هنا، فاننا نزعم ان "التغيير الامريكي" المطلوب في العراق، كان مؤجلا بالنسبة لامريكا خلال العقد الاخير من القرن الماضي، لحين الانتهاء من التوقيع على المعاهدة الاسرائيلية- السورية.. بل اننا نجزم او نكاد- استنادا الى تجربة السنوات العشر الاخيرة- ان امريكا واطراف كثيرة معها، عربية واقليمية ودولية، لم تكن تعمل على تأجيل عملية التغيير في العراق وحسب- مع ان شروطه الوطنية والشعبية والشرعية قد تحققت- بل عملت على منع احتمالاته من خارج" الخيار الامريكي المطروح"، عن طريق تطويق المعارضة وتدجينها واحتوائها، وهو ما برز على السطح عندما سحقت انتفاضة الشعب العراقي في آذار/1991 امام أنظار وسمع امريكا والمجتمع الدولي، وربما بمساعدتهم المباشرة ايضا.. والاكتفاء في هذه المرحلة الدقيقة من تطور عملية السلام، بعمليات محدودة ضد النظام الدكتاتوري، والابقاء على الحصار الاقتصادي كسياسة معلنة، مع التشدد في الخطاب الكلامي ضد النظام، واطلاق المزيد من الوعود والمشاريع، وبما يؤمن الابقاء على خيوط الموقف العراقي-داخليا وخارجيا- بيد اللاعب الامريكي، لحين التوقيع على معاهدة السلام المنتظرة..
والآن، ومع بدء المفاوضات الاسرائيلية- السورية، وقرب التوقيع على معاهدة الصلح بينهما، فإن السلام يكون قد القى بظلاله على كل الاطراف.. وسيكون العراق-كما نعتقد من خلال القراءة التي قدمناها-واحدا ممن ستطاله تلك الظلال عن قرب، وبتسارع يتلاءم مع مرحلة السلام في القرن الثالث للميلاد، وستنفتح امام التغيير في العراق احتمالات جديدة.. منها، ان التأجيل قد انقضت اسبابه ومبرراته المشروعة.. وان مرحلة السلام تقتضي خطابا جديدا وعلاقات جديدة، استنفذ النظام الدكتاتوري دوره فيها..
نتيجتان
لقد سقنا تلك المقدمات الطويلة لكي نصل الى نتيجتين، نتصور صحتها وفق ما هو متاح لنا من امكانيات القراءة.. وهما نتيجتان جديرتان بأن نعيد التأكيد عليهما من جديد:
*اولهما: ان تغيير النظام في العراق كان مؤجلا في انتظار التوقيع على معاهدة السلام الاسرائيلية- السورية، لأن اي تغيير في العراق-وفقا للمنظور الامريكي الاسرائيلي- سيقوي موقف سوريا في المفاوضات، قد يصل الى حد اعادة النظر في قبول مبدأ السلام نفسه..
*ثانيهما: ان التغيير في العراق سيصبح مطلوبا بعد توقيع معاهدة السلام، بل ان التغيير في العراق، سيكون اول نتائج هذا التوقيع، لأن مرحلة السلام تتطلب هذا التغيير بعد ان استنفذ النظام كل ادواره..

التغيير.. ملامح واشكالات،

ولكن اي تغيير..؟
ان الاجابة على هذا السؤال تقودنا- منطقيا- الى الاجابة على الاسئلة الثلاثة التي طرحناها في سياق مقالنا هذا.. لنزعم ان امريكا قادرة على التغيير، وجادة فيه فعلا.. لكن الذي يتحكم في جدية التغيير الامريكي، ليست الحسابات والموازين العراقية، اذ لو كانت هذه الحسابات والموازين العراقية هي التي تتحكم في الموقف الامريكي، لحدث التغيير منذ زمان بعيد، لأن مأساة الشعب العراقي تذيب الجليد والحديد!!؟ لكن الذي يتحكم في "التغيير الامريكي" هو الحسابات والموازين الامريكية.. ولذلك فإن "التغيير الامريكي" القادم- وفقا لمنطق المرحلة- سيتلائم حتما مع مرحلة السلام وعلاقاته وثقافاته وديمقراطياته الجديدة في كل شيء..
ولكن هل يعني ذلك كله ان "التغيير الامريكي"، هو الخيار الوحيد المطروح امام الشعب العراقي للخلاص من النظام..؟ ان المسؤولية الوطنية تقتضي اجابة عملية على هذا السؤال.. فالخيارات كثيرة.. لكنها تحتاج الى مشروع وطني ديمقراطي، يؤسس خطابا حضاريا تعدديا جديدا، ويحقق شروط آلية تغيير تعتمد الداخل كقوة اساسية، والتعاطي الايجابي مع كافة العوامل المساعدة، وفي مقدمتها العامل الدولي..











.. ههنا شعب إختار الحياة..
فتعالوا الى ارض كردستان المحررة

حين امسكت بالقلم محاولا الكتابة عما شهدته بنفسي من ممارسة ديمقراطية حية في انتخابات المجالس البلدية لكردستان المحررة، واجهت صعوبة كبيرة في التوفيق، مابين انفعالي الداخلي المنحاز لتلك التجربة التي تجاوزت في دلالاتها الكبيرة حدود اقليم كردستان المحررة، لتدخل الى اعماق ووجدان ومشاعر العراقيين جميعا، وربما ابعد.. وما بين الموضوعية المطلوبة في مثل تلك التجارب والظروف المحيطة بها، من اجل استمرار ومستقبل التجربة نفسها.
وللانحياز والموضوعية مبرراتهما في مثل حالنا كعراقيين.
ففي مواجهة نظام ديكتاتوري بلغ به الاستهتار بالشعب ومقدراته وحياته حدا، انه لم يكتف بالغاء ارادته وقتلها، بل انه زيفها بطرق عديدة، وصلت في يوم من ايام التسعينات، الى حد تجرأ فيه التلفزيون على وصف قرار لما يسمى بـ (مجلس قيادة الثورة) والخاص بتخفيض مبلغ خمسة وعشرين دينارا من رواتب الموظفين، وصفه بأنه "خطوة جبارة" نقلا عن احد المواطنين الذين كان التلفزيون ينتزع ردود أفعالهم على القرار.. لابد ان يكون رد فعلنا كمواطنين عراقيين امام ممارسة ديمقراطية حقيقية، تتاح فيها كل الامكانيات والقنوات للمواطن في ان يعبر عن رأيه، بارادة حرة غير مشوبة بأي عيب من عيوب ديكتاتورية النظام في تزييف الارادة الانسانية.. لابد ان يكون رد فعلنا الفرح والانفعال الى حد الانحياز..
ومن جهة اخرى، فإن التجربة بقدر ما تخص المواطنين الكرد، فإنها تخصنا ايضا كمواطنين عرب، لانها تؤسس- كما نريده ونتصوره- الى جانب الارادة، تؤسس القدرة على الممارسة الديمقراطية.. وقد كانت ممارسة ديمقراطية حقا، قدمت لنا دليلا من الواقع على فشل بضاعة الانظمة الشمولية والاستبدادية التي ظلت لسنين طويلة -منتزعة من عمرنا ومستقبلنا- تروج وتنظر لها، وتدور حول عدم اهلية شعبنا للديمقراطية. لذلك فإن المحافظة على هذه التجربة ودلالتها المستقبلية هي واجبنا الأول في هذه المرحلة الدقيقة من نضال شعبنا، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الموضوعية في دراسة التجربة، بعد فترة من السيطرة على انفعالنا المنحاز للتجربة، والمبرر موضوعيا من الواقع.
لكننا نحاول هنا ان نقدم قراءة أولية للتجربة ودلالتها حاضرا ومستقبلا.. فمن مدينة السليمانية، وعلى ارض كردستان المحررة، وفي يوم الثالث من شباط/2000، بدأت ملامح جديدة للتاريخ تتحدد، في بلد وظف حكامه المستبدون كل امكانياتهم المادية والمعنوية لاثبات ان شعبه غير قادر على التعبير عن إرادته، وبالتالي لايستحق- من وجهة نظرهم- الحياة وقد كانت الملامح من الوضوح والدلالة ما أثار دهشة الصحفيين والمراقبين العرب والاجانب، وهم يشهدون عن قرب ذلك الاقبال الجماهيري الواسع، والاصرار على الحضور حتى من العجزة، بما يشبه احتفالية الاعياد، وبنسبة تجاوزت اكثر من 80% (وهي نسبة قلما يمكن الوصول اليها في شرقنا المتوسط خصوصا)، وكان الاكثر دهشة، هذا الهدوء المنظم الذي ساد الدوائر الانتخابية التي لم تسجل فيها أية حادثة سلبية أو خرق، تستحق الذكر، وهو هدوء راهنت على تفجره قوى عديدة، صورت ارض كردستان المحررة، غابة يتصارع فيها الاقوياء، وتزدحم بالجنود القادمين من امريكا والامم المتحدة، لكن جولة واحدة في شوارع واحياء مدينة السليمانية، مدينة الحرية والفداء وملاذ الاحرار، اكتشف فيها محدثونا من الصحفيين والمراقبين العرب والاجانب، الحقيقة التي حاول النظام الديكتاتوري والمأجورون والمخدوعون تزييفها تحت ستار كثيف من الادعاءات الكاذبة.. اكتشفوا ان مدينة السليمانية وضواحيها والمدن والقصبات والقرى لاتطرقها إلا اقدام ابناء شعبها الكردي واخوانهم من العرب العراقيين الذين اختاروا الحياة والحرية معا.
وكانت للتجربة دلالاتها الكبيرة والكثيرة.. منها:
أولا- ان الشعب الكردي وعلى الرغم من كل الاسباب التي اعاقت في الماضي تطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فقد أثبت فاعلية وجدارة في التعبير عن رأيه، وممارسة الديمقراطية، وفرض ارادته كمصدر لكل سلطة وقرار.
ثانيا- ان هذه التجربة وبغض النظر عمن فاز فيها أو خسر، فقد احرزت فوزا ساحقا للديمقراطية كنظام للحياة وخيار مستقبلي مارسه الشعب الكردي في مواجهة نظام ديكتاتوري، ووسط ظروف محيطة تعمل كلها لتعطيل هذا الخيار.
ثالثا- ارتبطت الممارسة الديمقراطية الكردية وابتدأت، باكثر الحلقات مساسا بالشعب من حيث الحاجات والخدمات، المجالس البلدية، لذلك فإن الطابع الاجتماعي فيها يتجاوز الطابع السياسي ويحتويه.. انها ممارسة ديمقراطية في القاعدة الاجتماعية بعد ان تعودنا طويلا على الممارسة في "الفوق" السياسي المشغول بهمومه "الخاصة والضيقة جدا".
رابعا- ان هذه الممارسة الديمقراطية تتجاوز في دلالتها وتأثيرها حدود اقليم كردستان، لتكون رصيدا نوعيا مضافا للشعب العراقي كله، من حيث انها تؤكد ان هناك تقدما حقيقيا قد حصل في الاتجاه الديمقراطي على صعيد الوعي والممارسة بعد اكثر من ثلاثين عاما من الديكتاتورية المقيتة، وبالتالي فإنها تؤسس نموذجا وطنيا لعراق المستقبل، يثبت للعالم كله ان الشعب العراقي والمعارضة العراقية معه قادران على بناء نظام وطني ديمقراطي يؤمن المشاركة الشعبية الواسعة والانتقال السلمي للسلطة.
خامسا- ارتبطت هذه الممارسة تاريخيا بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني والجبهة التي يقودها، مما يضيف رصيدا نوعيا لنضاله الوطني والديمقراطي، ويفرز قوة اساسية منحازة عمليا للتيار الديمقراطي، الذي بدأت تتمحور حوله فرص بناء دولة حديثة ومجتمع مدني.
ولكن هل يعني هذا ان التجربة قد جاءت خلوا من كل السلبيات وانها جسدت الحالة المطلوبة..؟
بالتأكيد ان هناك قدرا ليس قليلا من السلبيات قد رافق هذه التجربة، وهي حالة طبيعية في تمارين الثقافة الديمقراطية الأولى، ولكن حتى يكون التقييم موضوعيا، والقياس منطقيا، يجب ان لانقيس التجربة بما هو متحقق في الدول المتقدمة بعد سلسلة طويلة من الممارسات والتجارب، بل علينا –وارتباطا بمستقبل العراق- ان نقيسها بممارسات النظام الديكتاتوري على هذا الصعيد، حين ذلك سنكتشف –موضوعيا- ان النظام الديكتاتوري ينتمي الى الماضي وحده.. اما هذه الممارسة الديمقراطية فوحدها تنتمي الى مستقبل العراق وشعبه.. وهو مستقبل اختار الشعب كله، ان تكون فيه القطيعة كاملة مع الديكتاتور، و أي شكل من أشكال الدكتاتورية، ومظاهرها المختلفة في حياتنا وآمالنا.. وحتى في آلامنا..





رؤية ناصرية للضية العراقية 12 - عبد الستار الجكيلي

القانون.. والنظام الديكتاتوري
(توصيف عام)

منذ زمان قديم في الماضي، لم تكن هناك قوانين، ولم يكن هناك قضاة. لذلك، فإن القوة كانت هي القانون السائد، وكان الانسان هو قاضي نفسه، يقرر هو كيف ومتى يقتل ليقتضي حقه من الآخرين.. لذلك فقد اطلق الناس على تلك الفترة بالوحشية مرة، لأن الانسان كان فيها لا يختلف عن وحوش الارض الاخرى، فهو على استعداد ولأتفه الاسباب، لأن يفترس اخاه الانسان الآخر او ان يكون هو فريسة يلتم حولها الآخرون.. وفي مرة اخرى، اطلقوا عليها العصر الحجري، لأن الانسان في ذلك الزمن كان يستعمل الحجر في دق رؤوس الآخرين اكثر مما يستعمله في صنع ادواته وقضاء حاجاته.. لكن البشر في لحظة عظيمة وحاسمة، سرعان ما اهتدوا الى القانون، ونصبوا من بين "حكمائهم" قضاة لتطبيقه، بعد ان وصل الحال بهم الى حدود لا تطاق صار فيه الانسان لا يأمن على حياته حتى وهو في حضن زوجته وبين عائلته.. فانفتحت مع القانون ورجاله "الحكماء" ابواب جديدة امام البشرية، تطورت من خلاله حياة وعقول ابنائها، وتجاوزت به مراحل البدائية الاولى حتى عبرت الارض الى آفاق الفضاء.. وصار القانون وسيادته واحترامه مظهرا رئيسيا من مظاهر الرقي الانساني والتطور الحضاري والعقلي والاخلاقي لأي شعب.. وعلى اساس العلاقة الوظيفية بالقانون قسمت سلطة الدولة الى ثلاث، سلطة تشرع القوانين، واخرى تنفذها، وثالثة تطبق وتراقب التشريع والتنفيذ، والى الحد الذي اصبح فيه الفصل بين السلطات الثلاث هو الفيصل بين دولة الاستبداد، حيث يجمع الدكتاتور بين يديه وحدة التشريع والحكم والقضاء، وبالتالي السلطة والثروة والقوة، وبين دولة الديمقراطية حيث تفصل السلطات وتتوزع وظائفها بين ثلاث جهات، عمل كل واحدة منها يحد ويراقب عمل الاخرى..
وكان العراق من الدول التي حاولت قدر الامكان ان تؤسس قوانينها الخاصة كجزء من محاولات بناء دولة حديثة.. ومن اجل ذلك، فقد تأسست كليات القانون ومعاهد القضاء والسلطات التشريعية (على سلبيتها)، وبذل الرعيل الاول من رجال القانون جهودا مضنية في تشريع واصدار القواعد القانونية بمختلف انواعها وفروعها.. وقد قطعت البلاد اشواطا لا بأس بها في هذا المجال الى الحد الذي استقرت فيه بعض هذه القواعد، ومع الاستقرار قدر كبير من الاحترام.. الا ان الامر لم يستمر على هذا المنوال، اذ سرعان ما ابتليت بلادنا بأناس كان القانون اول ضحاياهم، فكانت النتيجة ان عدنا القهقرى الى العصور البدائية الأولى.. الوحشية والعصر الحجري..
ونظرة سريعة الى حال القانون ورجاله من مشرعين وقضاة ومحامين ومنفذين في ظل المرحلة الحالية، كافية لأن تصيبنا بالدوار ومن ثم الغثيان.. فالسلطات الثلاث، يملكها شخص واحد(الدكتاتور المتخلف) ، هو المشرع والمنفذ والقاضي.. لذلك فانه ومنذ انقلاب 17 تموز 1968 الاسود والى الآن، لم يصدر أي قانون الا واحتاج الى توضيح وتفسير وتعديل، وتعديل للتعديل، وبلغت الاستهانة بالقانون. ان القوانين التي صدرت قبل 17 تموز 1968- وفي مقدمتها القانون المدني رقم 40 لسنة 1951- قد طالتها التعديلات الكثيرة الى الحد الذي صارت فيه التعديلات اكثر واكبر من المتون. ولم تعد في قدرة القاضي او المحامي متابعتها، مما اصاب معاملات الناس بالارباك وعدم الاستقرار، وشيوع ظاهرة الاحكام المتناقضة حتى داخل محكمة الدرجة الواحدة..
اما جهاز القضاء، فقد اختل فيه ميزان العدل وانقلب، منذ ان ابتدأت عملية "تسييس" القضاة ومعهد القضاء، فادخلوا الى هذا الجهاز الحساس، الذي ترتبط به مصالح الناس الخاصة والعامة، نماذج من اكثر الناس جهلا بالقانون واستهانة به وعدم احترامه، واقصوا القضاة الحقيقيين او عطلوا دورهم او حاصروهم وارهبوهم.. وكانت النتيجة ان اصبحت الرشوة "دستورا" اعلى فوق كل القوانين، حيث يرتكب من خلاله الجناة والمجرمون ابشع واقسى الجرائم بحق الفرد والمجتمع، لكنهم سرعان ما يفلتون من العقاب "ببراءة" يدوس فيها "قاضي معهد القضاء العتيد" قَسَم المهنة وكل القوانين والاعراف والحقوق الخاصة والعامة، يخرج بعدها المجرم ليرتكب جرائمه "المعتادة"، لكن هذه المرة مناصفة مع السيد "قاضي معهد القضاء".. وصل الامر ببعض هؤلاء "القضاة" انهم يقومون بأنفسهم، بمساعدة الاجهزة الامنية في انتزاع "الاعتراف" من المواطنين سياسيين وغير سياسيين ممن لا ينطبق عليهم "دستور" الرشوة، فيقومون بأنفسهم، بضرب وتعذيب الضحية، وحتى قتلهم والقاء جثته في المقابر وعلى اطراف المدن، كما هو حال قضاة تحقيق الامن والمخابرات والحزب وباقي الاجهزة القمعية.. وليس هناك من مأساوية واذلال اكبر من منظر "القاضي" وهو يرتجف بين يدي "شرطي الامن" الذي يقف بجانبه على المنصة ليملي عليه ما شاء من احكام "الادانة" و"البراءة" وكيفما هو متفق عليه مع الزبائن "الكرام" في كل شيء، الا الحق والعدل..أما حال محكمة التمييز، فحالها يصعب على "الكافر"، يكفي ان نذكر -مثلا- ان بعض القضايا من الوزن "الثقيل" وحتى تصل الى محكمة التمييز الموقرة، صار من "الوجوب" القانوني ان تمر باللجنة الاولمبية.. تصوروا..
وحال المحامين ليس أقل مأساوية واذلالا من حال القضاة.
فالمحامون "المسيسون"، هم الآن في مقدمة الهجمة التي اخذت على عاتقها تدمير وتخريب القانون وتعطيل متونه واحكامه واشاعة مظاهر الفوضى وعدم الاستقرار في معاملات الناس ومصالح المجتمع، لصالح المجرمين والمهربين الدوليين والمتاجرين بقوت الشعب وحاجاته اليومية، ووصل الامر بأكثرهم- ان لم يكن جميعهم- ان اصبحوا" الوساطة" بين القضاة والمجرمين، في اصدار احكام "البراءة" وفقا لمتون"دستور" الرشوة الذي أصبح معمولا به منذ انقلاب 17 تموز الاسود والى ان تنتفي الاسباب الموجبة له.. كانت "قدرة" هؤلاء المحامين" المسيَّسين" المتميزة في كتابة التقارير"الأمنية" على زملاء المهنة من المحامين الذين بقوا على التزامهم المهني والاخلاقي والادبي بحقوق الناس ومصالحهم، لاتتناسب مطلقا مع "قدرتهم" المتدنية على كتابة مرافعات قانونية حقيقية (وهي واجبهم الاساسي) يدافعون فيها عن الحقوق والمصالح المكفولة بالقوانين السائدة، والتي اقسموا بكل مقدسات المجتمع الاسلامية وغير الاسلامية على مراعاتها والعمل بموجبها، وفي مقدمتها حياة واعراض وأموال الناس، التي اهدرت ضماناتها بالتعاون المشترك بين النظام و"محاميه".
وفي غياب سلطة قضائية مسؤولة، عن حماية حقوق الناس ومصالح المجتمع، ومراقبة اجراءات اصدار القانون وتنفيذه وتطبيقه، وضمان حرية ونزاهة الدفاع والاحكام.. وفي غياب سلطة تشريعية مشروعة، مؤهلة وقادرة على صياغة قواعد قانونية عامة ومجردة وملزمة للأفراد والمجتمع والدولة، في موازنة دستورية تلائم بين الحقوق والواجبات، بين الواقع والاهداف، بين الظروف المحيطة بالانسان وبين ما يجب ان يكون عليه هذا الانسان وتواكب التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. في غياب هاتين السلطتين في عراق (اليوم)، فإنه من الطبيعي ان ينفلت زمام السلطة التنفيذية وتتحول الى جهاز قمعي للفرد والمجتمع معا، يبتز المواطن ويفرض عليه الاتاوة ويجرده من كل الحقوق ووسائل الدفاع عنها ويحوله الى حالة من الخوف الدائم حتى وهو في حضن زوجته (ما أشبه الليلة بعصور الوحشية الاولى)، ويعتدي على حرمات المجتمع والمال العام ويمارس القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي ويحول المجتمع الى حقل استثمار خاص به، تحول المواطنون فيه الى مجرد "عبيد" في مزرعة الجهاز التنفيذي التي تتبادل من خلالها اذرعه الأمنية الاخطبوطية الادوار وتتعاون فيما بينها في "تنسيق أمني" جرد المواطن من ابسط حقوق الانسان وفي مقدمتها حقه في الحياة والكرامة، وجرد المجتمع من كل امكانيات التقدم وتركه بلا مستقبل تحت رحمة من لا رحمة في قلوبهم من "لصوص" السلطة التنفيذية.. ومادام الامر هكذا، صار من الطبيعي ان "يتعاون" "قاضي معهد القضاء" والمحامي" المسيس" وضابط "شرطة النظام"، حيث يتقاسم هؤلاء" الثلاثي" فيما بينهم المناطق ومراكز الشرطة في المحافظات والاقضية والنواحي، وحسب نوعية ووزن الدعاوى والقضايا، التي يحسم بعضها عند" السيد" ضابط شرطة المركز، وبعضها الآخر عند" السيد" قاضي المحكمة، ويبقى المحامي" المسيس" محتفظا بدوره" الوسيط" بين الطرفين وحسب النسب المتفق عليها سلفا..
لذلك صار المواطنون في الموصل وكركوك-مثلا- يعرفون سلفا الى اي ضابط شرطة او قاض او محام يذهبون، ليضمنوا سلفا- ايضا- القضية لصالحهم بعد دفع "الاتعاب".. وصار شعار المجرمين والمهربين وتجار قوت الشعب ولقمة عيشه اليومية" أقتل من تشاء وادفع تضمن البراءة مقدما".. تماما كالشعار الصهيوني" ادفع دولارا تقتل عربيا".. هكذا صار حال القانون في ظل النظام الديكتاتوري في عراق اليوم "ادفع دولارا امريكيا تقتل مواطنا عراقيا"..
تلك كانت مقدمة عامة لدراسة القانون في ظل النظام الديكتاتوري، على أمل ان نتناول المتون والوقائع في دراسة "عينية" موسعة، تتجاوز التوصيف العام الى الواقع في جميع نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمستقبلية.




الفهرست


التيار القومي العربي في العراق.. و النظام الدكتاتوري ........
التيار القومي العربي في العراق و المعارضة العراقية ........
الديمقراطية على الطريقة الدكتاتورية .............................
الحصار الاقتصادي في العراق .. مسؤولية من؟.................
وجهة نظر عربية.......................................................
العلاقات العراقية – الكويتية و صناعة المشكلات .............
حزب (حليحل) ..........................................................
عبد الناصر – الطالباني ..............................................
وجهة نظر ناصرية في قضية حساسة..............................
ههنا شعب إختار الحياة ..............................................
القانون و النظام الدكتاتوري.........................................




إصدار مكتب الإعلام القومي الناصري

من منشورات الحزب الطليعي الاشتراكي الناصري في العراق

مكتب أوروبا

د. جمال السامرائي
Postbus :32352
2503 AB Den Haag
HOLLAND

تلفون : 0031 70 3096591
فاكس : 0031 70 3672191
البريد الالكتروني : samaraiy@wanadoo.nl

مكتب العراق ـ السليمانية

عبد الستار ألجميلي
تلفون : 00447077520766
فاكس :004724135515
البريد الالكتروني Aljumailee@yahoo.com